
14-03-2020, 04:24 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,140
الدولة :
|
|
رد: ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: التجرد
ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: التجرد
عبدالستار المرسومي
النظر الثاني: النَّظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بدَّ، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرَّات، والتفاوت الذي بينه وبين ما هنا؛ فهي كما قال الله سبحانه: ﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 17]، فهي خيرات كامِلة دائمة، وهذه خيالات ناقِصة منقطعة مضمحلَّة.
فإذا تمَّ له هذان النظران، آثَر ما يقتضي العقلُ إيثارَه، وزَهد فيما يَقتضي الزهد فيه، فكلُّ أحدٍ مطبوع على ألَّا يَترك النفعَ العاجِل واللذَّة الحاضرة، إلى النَّفع الآجل واللذَّة الغائبة المنتظرة)[10].
والزَّهد لا يعني الترفُّع عن الأمور الماليَّة فحسب، بل في الأمور المعنويَّة كذلك، فقد يَلجأ بعضُ من يعيش معهم الفرد لاستخدام أساليب المدح والثَّناء والإطراء له، وخاصَّة الشخصيَّات القياديَّة منهم، والأصل في العلاقة أن تكون بعيدة عن هذا الأسلوب في التعامُل، لقد كان رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم يَرفض بل وينهى عن هذه الطَّريقة، فهو يتكلَّم مع من معه فيما يخصه، فيقول لهم: ((لا تُطروني كما أطرَت النَّصارى ابن مريم، فإنَّما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله))[11]، وكلُّنا يَعلم أحقيَّته صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكنَّه معلِّم الناس الخير، ولما منع رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم من الإطراء، فهو حكم سائر على كلِّ البشر.
كما أنَّ رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه حين يكون الأمر لا يخصه صلى الله عليه وسلم شخصيًّا، فالأمر هذه المرَّة متعلِّق بالعلاقة فيما بينهم، فهو نظام عامٌّ في التعامل مع الآخرين، فقد أثنى رجل على رجلٍ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ويلك، قطعتَ عنقَ صاحبك، قطعتَ عنقَ صاحبك))، مرارًا، ثمَّ قال: ((مَن كان منكم مادحًا أخاه لا محالة، فليقل: أحسب فلانًا، والله حسيبه، ولا أزكِّي على الله أحدًا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يَعلم ذلك منه))[12].
وينبغي على الآخرين أن يَحترموا من يَدعو إلى الزُّهد أو يمارسه، فالأمَّة التي تدعو للزهد وتحترم زهَّادها أمَّةٌ محترمة وواعية، لا أن يَحدث العكس، فيُهان الفقير أو الزَّاهد، ويكرم ويُحترم صاحب الجاه والمكانة الدنيويَّة، ففي هذه الحالة ستُهزم الأمَّة وتتمزَّق لا محالة، وكما قال عباس بن الأحنف:
يمشي الفقير وكلُّ شيء ضدُّه
والناس تغلِق دونَه أبوابَها 
وتراه مبغوضًا وليس بمذنبٍ
ويرى العداوةَ لا يرى أسبابَها 
حتى الكلاب إذا رأَت ذا ثروة
خضعَت إليه وحرَّكَت أذنابَها 
وإذا رأَت يومًا فقيرًا عابرًا
نبحَت عليه وكشَّرَت أنيابَها 
ومن الفهم الصَّحيح لأمور الحياة في جانب الزُّهد التمييزُ بين كِبار الأمور وصغارها، وبين كلِّيات القضايا وجزئيَّاتها أو فروعها، لقد صرنا اليوم نَقع في أمور عظيمة، ونجترح قضايا جوهريَّة ومفصليَّة، قد تتوقَّف عليها قرارات مصيريَّة في حياتنا وحياة الآخرين من غير أن نَشعر، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "إنكم لتعملون أعمالاً، هي أدقُّ في أعينكم من الشَّعر، إنْ كنا لنعدها على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الموبقات[13]"[14].
أحيانًا يَصل الصِّراع المادِّي مع الآخرين لدرجة البُغض، وهنا تكون البوصلة قد انحرفَت انحرافًا كبيرًا وخطيرًا؛ لأنَّ هذا الوضع يوقع المبغِض في خروجه عن دائرة الدِّين والإيمان؛ لأنَّ الحب والبغض من الأعمال القلبيَّة التي لها علاقة بالإيمان بشكلٍ مباشر، فعن أبي أمامة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحبَّ في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان))[15].
فإنَّ أبا الدَّرداء رضي الله عنه مرَّ على رجل قد أصاب ذنبًا وكانوا يسبُّونه، فقال: "أرأيتُم لو وجدتموه في قليب، ألَم تكونوا تستخرجونه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبُّوا أخاكم، واحمدوا اللهَ الذي عافاكم"، قالوا: أفلا نُبغضه؟ قال: "إنَّما أبغض عمَلَه، فإذا ترَك فهو أخي"[16].
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا وقف على أبواب المدائن يقول: "يا مدينة، أين فرسانك؟ يا مدينة، أين عمارك؟ يا مدينة، أين كنوزك؟"، قال: فما نزال حتى يَبكي ويُبكي.
العلاقة في الله جلَّ جلاله: ولا تكون العلاقة متجرِّدة بحقٍّ، حتى تكون في ذات الله جلَّ جلاله، ليس فيها أي نوعٍ من المصالح أو المنافِع الماديَّة أو المعنويَّة، الحالية أو المستقبليَّة، حين ذلك ستكون سببًا في حُبِّ الله جلَّ جلاله للإنسان المحبِّ، فعن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ((أنَّ رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملَكًا، فلمَّا أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تَرُبُّها؟ قال: لا، غير أنِّي أحببتُه في الله عزَّ وجل، قال: فإني رسولُ الله إليك، بأنَّ الله قد أحبَّك كما أحببتَه فيه))[17].
فهل في حياتنا من تربطنا بهم علاقة خالِصة في الله جلَّ جلاله؟
من هم أصدقاؤك الذين تحبُّهم في ذات الله جلَّ جلاله؟
إذا كانت الإجابة بالنفي، فإن الوقت لم يَفُتْ.
يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه في ساعاته الأخيرة: "مرحبًا بالموت، مرحبًا بزائر مغب، حبيب جاء على فاقَة، اللهمَّ إنِّي قد كنتُ أخافك وأنا اليوم أرجوك، إنَّك لتعلم أنِّي لم أكن أحبُّ الدنيا وطول البقاء فيها لكَري الأنهار، ولا لغَرس الأشجار، ولكن لظَمأ الهواجر، ومكابدَة السَّاعات، ومزاحمة العلماء بالرُّكب عند حِلَق الذِّكر"[18].
وإنَّ زهد عِلْية القوم وكبارهم يَنبغي أن يكون أكثر بكثير من زهدِ عامَّة الناس، ومثالنا في ذلك قدوتنا النبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم، فقد عُرِضَت عليه الدنيا وزهرتها، وعُرض عليه أن يكون ملكًا نبيًّا، ولكنَّه اختار أن يكون نبيًّا وعبدًا، واختار أن يَعيش حياةَ الناس بكل تفاصيلها، لقد عاش صلى الله عليه وسلم معاناتهم؛ فجاع معهم ونام معهم، ومرَّ بالشدائد في الخندق وفي أُحد معهم، ولبس ممَّا يلبسون، وأكل مما يأكلون، وكان معهم معطاءً كريمًا، مستغنيًا عما عندهم، سخيًّا بما عنده.
لقد زهد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله وهو الأمير ابن الأمراء عندما تسنَّم الخلافة، فكان زهده سببًا في غنى أولاده وليس العكس، فقد قال عمرو بن عبيد وهو يَعظ أبا جعفر المنصور: توفِّي عمر بن عبدالعزيز رحمه الله وخلف أحد عشر ابنًا، وبلغَت قيمة تَركته سبعة عشر دينارًا، فكُفِّن بخمسة دنانير، واشتُري له موضع قبره بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده ثمانية عشر قيراطًا.
ومات هشام بن عبدالملك، وخلف أحدَ عشر ابنًا، فحصل لكلِّ واحد من ورثَته ممَّا خلفه عشرة آلاف دينار، فرأيتُ رجلاً من أولاد عمر بن عبدالعزيز قد حمل على مائة فرسٍ في سبيل الله، ورأيتُ رجلاً من أولاد هشام يَسأل الناس.
وكان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يقول: (إنَّما وَلَدُ عمرَ بين رجلين: إمَّا رجل صالح، فسيغنيه الله، وإما غير ذلك، فلن أكون أول من أعانَه بالمال على معصية الله).
[1] سنن ابن ماجه - كتاب الزهد - باب: الزهد في الدنيا.
[2] الأدب المفرد؛ البخاري، ص 52.
[3] صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب ما جاء في قول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ ﴾ [الجمعة: 10].
[4] الأدب المفرد للبخاري، وابن أبي شيبة في المصنف - كتاب الدعاء - ما علمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأمر به مما يسد الحاجة.
[5] جاء في طبقات الشافعيَّة الكبرى، هو عبدالعزيز بن عبدالسلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي، شيخ الإسلام والمسلمين وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، المطَّلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها، لم يَرَ من رآه مثلَه علمًا وورعًا وقيامًا في الحقِّ وشجاعة وقوةَ جنان وسلاطة لسان، ولد سنة سبع أو سنة ثمانٍ وسبعين وخمسمائة، تفقَّه على الشيخ فخر الدين بن عساكر، وقرأ الأصولَ على الشيخ سيف الدين الآمدي وغيره، وسمع الحديثَ من الحافظ أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر، وشيخ الشيوخ عبداللطيف بن إسماعيل بن أبي سعد البغدادي، وعمر بن محمد بن طبرزد، وحنبل بن عبدالله الرصافي، والقاضي عبدالصمد بن محمد الحرستاني وغيرهم، ومن أشهر تلاميذه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد، درس بدمشق أيام مقامه بها بالزاوية الغزالية وغيرها، وولي الخطابة والإمامة بالجامع الأموي، وفي سنة 639 هـ توجَّه إلى القاهرة فتلقَّاه سلطانها الملك الصالح نجم الدين أيوب وولاَّه خطابة جامع عمرو بن العاص بمصر والقضاء، وكان يُدرس الفقه الشافعي في المدرسة الصالحية في مصر.
[6] طبقات الشافعية الكبرى؛ تاج الدين بن علي السبكي، ج 8، ص 241.
[7] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء؛ أبو نعيم الأصبهاني، ج 7، ص 318 - 319.
[8] سير أعلام النبلاء؛ شمس الدين الذهبي، ج 15، ص 149.
[9] صحيح ابن خزيمة - كتاب الزكاة - جماع أبواب قسم المصدقات - باب إِذْن الإمام للعامل بالتزويج واتخاذ الخادم والمسكن من الصدقة.
[10] الفوائد؛ ابن قيم الجوزية، ص 94.
[11] صحيح البخاري - كتاب أحاديث الأنبياء - باب قول الله: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [مريم: 16].
[12] صحيح البخاري - كتاب الشهادات - باب: إذا زكى رجل رجلاً كفاه.
[13] الموبقات: المهلكات.
[14] صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب ما يُتقى من محقرات الذنوب
[15] المعجم الأوسط للطبراني - باب العين.
[16] شعب الإيمان للبيهقي - التاسع والثلاثون من شعب الإيمان - فصل فيما ورد من الأخبار في التشديد على من اقترض.
[17] صحيح مسلم - كتاب البر والصلة والآداب - باب في فضل الحب في الله.
[18] صفة الصفوة؛ عبدالرحمن بن علي بن محمد أبو الفرج ابن الجوزي، ج 1، ص 501.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|