عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 11-06-2020, 04:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,434
الدولة : Egypt
افتراضي رد: السمو الروحي والجمال الفني في البلاغة النبوية مصطفى صادق الرافعي


السمو الروحي والجمال الفني في البلاغة النبوية
مصطفى صادق الرافعي

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَثَلُ البخيلِ والمنفِقِ كمَثَل رجلينِ عليهما جُبَّتانِ من حديد، من ثديهما إلى تَراقيهما؛ فأما المنفِق فلا ينفق إلا سَبَغَتْ[19] أو وفرت على جلده حتى تُخفِي بنانه[20] وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفِق شيئًا إلا لزِقت كلُّ حَلْقَةٍ مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع))[انتهى].
فأنت ترى ظاهر الحديث، ولكنَّ فنَّه العجيب في هذا الحديد الذي يراد به طبيعة الخير والرحمة في الإنسان، فهي من أشَدِّ الطبائع جمودًا وصلابة واستعصاء، متى اعترضَتْها حظوظُ النفس الحريصة وأهواؤُها، ومع ذلك فإن السخاء بالمال يَبسط منها، وينتهي في الطبع إلى أن يجعلها لَيِّنَةً، فلا تزال تمتدُّ وتُسبِغ حتى يكون كمال طَبْعِ السخاء هو كمالَ طَبْعِ الخير في النفس الكريمة، فمَن ألزم[21] نفسَه الجود والإنفاق، رَاضَها[22] رياضة عملية؛ كرياضة العَضَلِ بأثقال الحديد، ومعاناة القوة في الصراع ونحوِهِ، أمَّا الشُّحُّ[23] فلا يناقض تلك الطبيعة؛ ولكنه يَدَعُها جامدةً مستعصِيَةً، لا تَلِينُ ولا تستجيب ولا تتيسَّر.
وقد جعل الجُبَّة منَ الثُّدي إلى التراقي، وهذا من أبدع ما في الحديث؛ لأن كلَّ إنسان فهو منفِق على ضروراته، يستوي في ذلك الكريم والبخيل، فهما على قَدْرٍ سواءٍ من هذه الناحية؛ وإنما التفاوُت فيما زاد وسبغ من وراء هذا الحد، فههنا[24] يبسط الكريم بَسْطَهُ الإنسانيَّ، أمَّا البخيل فهو يريد لأنه إنسان، والإرادة علم عقلي لا أكثر، فإذا هو حاول تحقيق هذه الإرادة، وقع من طبيعة نفسه الكزَّة فيما يعانيه مَن يُوَسِّع جُبَّةً منَ الحديد، لزقت كل حلقة من حلقاتها في مكانها، فهي مستعصية متماسكة، فهو يوسعها فلا تتسع.
ألا ترى كيف تَتَوَجَّهُ الحُجَّة، وكيف تَدِقُّ الفلسفة، وهي في أظهر البيان وأوضحه؟ وهل تَحْسَبُ طبيعة البخيل في دقائقها النفسية لو هي نطقت - بالغةً من وصف نفسها هذا المبلغَ من جمال الفنِّ وإبداعه؟ وهو بعدُ، وصف لو نُقِلَ إلى كل لغات الأرض لَزَانَهَا جميعًا، ولكان في جميعها كالإنسان نفسه؛ لا يختلف تركيبه؛ فلن يكون بثلاثة أعين، لا في بلاد شكسبير ولا في بلاد الزنوج.
إن كلام نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يُتَرْجَمَ بفلسفة عصرنا وآدابه، فستراه حينئذ كأنما قيل مرة أخرى من فم النبوة، وستراه في شرحه الفلسلفيِّ كالأزهار الناضرة: حياتها بَشَاشَتُها في النور؛ وتعرِفُهُ إنسانيةٌ قائمة، تُصَحَّحُ بها أغلاط الزمن في أهله، وأغلاط الناس في زمنهم؛ وتجِدُه يَرِفُّ على البشريَّة المسكينة بحنانٍ كحنان الأم على أطفالها، والناس الآن كالأطفال غابت أمهم، فهُمْ في تنافُر صِبيانِيٍّ... وما الأم بطبيعتها إلا الميزانُ لاستبدادهم، والحِكمةُ لطَيْشِهِمْ، والائتلافُ لتنافرهِم[25] والنظامُ لعَبَثِهِمْ[26] وبالجملة: فحنان قلبها الكبير هو القانون لكل قضايا هذه القلوب الصغيرة.
وقد كتبنا في فلسفة الأدب وحقيقته ومعانيه الإنسانية، وأن الأديب التامَّ الأداةِ هو الإنسان الكونيُّ، وغيره هو الإنسان فقط، وأن عِلْمُ الأديب هو النفسُ الإنسانية بأسرارها المتجهةُ إلى الطبيعة، والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس؛ ولذلك فمَوْضِعُهُ من الحياة موضعُ فِكرةٍ حدودُها من كل نواحيها الأسرار، وأن الأديب مكلَّفٌ تصحيحَ النفس الإنسانية، ونَفْيَ التزوير عنها، وإخلاصها مما يلتبس بها على تتابع الضرورات، ثم تصحيح الفكرة الإنسانية في الوجود، ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق ثم إلى فوق، ودائمًا إلى فوق.
فإذا تدبَّرْتَ هذا المقال، واعتبرتَ كلامَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما بيَّنَّا وشَرَحْنا، وأخذتَهُ من عصره ومن العصر الذي نعيش فيه، ونظرتَ إلى ألفاظه ومعانيه واستبرَأْتَ[27] ما بَيْنَها من خواصِّ الفَنِّ بِمِثْلِ ما نبَّهناكَ إليه من التأويل الذي مرَّ بِكَ، وعلمتَ أنَّ كُلَّ حقيقةٍ فنية لا تكون كذلك إِلا بخاصة فيها، وأنَّ سِرَّ جمالِها في خاصتها، إذا جمعتَ ذلك لم تَرَ مذهبًا عن الإقرار بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو أعظم نبيٍّ وأعظمُ مصلِحٍ، فهو أعظم أديب؛ لأن فنَّه الأدبيَّ أعظم فنٍّ يحقِّق للإنسانية حياة أخلاقها، وهو بكل ذلك أعظم إنسان، - صلى الله عليه وسلم -.
فالفنُّ في هذه البلاغة هو في دقائقه أثرُ تلك الروح العليا بكل خصائصها العظيمة، التي يحتاج إليها الوجود الروحانيُّ على هذه الأرض، ولذا ترى كلامه - صلى الله عليه وسلم - يخرج من حدود الزمان؛ فكل عصر واجدٌ فيه ما يقال له، وهو بذلك نُبُوَّةٌ لا تنقضي، وهو حي بالحياة ذاتها؛ وكأنما هو لون على وجه منها - كما ترى - البياضُ مثلاً، هو اللون على وجه طائفة من الجنس البشري..
فإذا نظَرْتَ فِي هذا الفَنِّ فانظرْه في حديثه، وفي عمله، وفي الدنيا التي أَلَّفَها من التاريخ تأليفَ القطعة البليغة النادرة من الكلام، ورُدَّ كلَّ ما تدبَّرْتَهُ[28] من ذلك إلى الروح الجديدة على تاريخ الأرض؛ فَلَتَعْلَمَنَّ حينئذ أنَّ كل بليغ هو شمعة مضيئة، صنعتْ لها مادةُ النور نورًا وجمالاً، بجانب هذه الشمس التي خُلِقَتْ فيها مادة النور نورًا وجمالاً وحياةً وقوَّة؛ هناك نور لذي عينين، وهنا النور لكل ذي عينين؛ وذاك يتخايل كالحُلم، وهذا يفصح كالحقيقة؛ وذلك ضوء من حوله الظلمة دانية، وهذا قد طَرَدَ الظلمة عن نصف الدنيا إلى نصف الدنيا، والأوَّل نور بلا روح، والثاني هو روح النور.
تلك في رأينا هي الطريقة التي كان يفهمه بها أصحابه - صلى الله عليه وسلم - كما يفهم الشاعر نور القمر في ليلة صيف بمعانٍ من الزمان والمكان، ومن النفس والحالة، ومن الهيئة والشكل، ومن العين والفِكر، ومن السماء والأرض؛ ففيه النور وزيادة؛ أيِ: الحقيقة وما ترتفع به على نفسها، وبهذه الطريقة كانوا معه كأعظم فلاسفة الفَنِّ مع الفَنِّ؛ إعجابًا وحُبًّا وانقيادًا وطاعةً؛ حتى انخلعوا[29] من عصرهم ودنياهم، وخرجوا من أحوالهم وطبائعهم، وانجذبوا إليه أشدَّ انجذاب عرفه التاريخ، وأصبحوا مُصَرَّفِينَ معه تصريفَ الحوادث؛ لا تصريف الأشخاص، وعادت أنفسهم وكأنَّ تأثير الأرض يلتقي فيها بتأثير السماء، فيُغْسَلُ في سُحُب عالية، فلا يكون فيها كما يريده الناس؛ بل كما يريد الله، ورجعت قلوبهم لا تُلَبِّسُ على دينها رأيًا ولا هوًى، وكأنما وُضِعَ لها هذا الدينُ حرسًا على كل سَمْعٍ وعلى كلِّ بَصَر؛ وبالجملة فأولئك قوم كأنما تناولهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأَفْرَغَهُم ثم ملأهم، وما انتقلوا إلى منزلتهم العالية في التاريخ؛ إلا بعد أن نقلهم هو إلى منزلة من منازل نفسه الشريفة.
وناهيك من رجال يُمَثَّلُ لهم بهذا المَثَل، الذي يَضرِبه لهم في الإيمان ليبلغوه أو يقاربوه؛ فعن خَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ - رضي الله عنه - قال: "شَكَوْنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكعبة، قلنا: ألا تَستنصِر لنا؟! ألا تدعو الله لنا؟! قال: ((كان الرجل فيمن قبلَكم يُحفر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيجاء بالمِنشار، فيوضع على رأسه، فيُشَقُّ باثنين، وما يَصُدُّهُ ذلك عن دِينه، ويُمْشَطُ بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عَظْمٍ أو عَصَبٍ، وما يَصُدُّه ذلك عن دِينه)).
فانظر يا هذا، فإنه لو اجتمعتْ قُوَى الكون فجاءت يَشُدُّ بعضُها بعضًا فنزلت في عبارة من الكلام لتملأ نفوس المؤمنين بقوَّتها، لما وضعت إلا هذا الوضع من هذا التمثيل بأمشاط المسامير، وأسنان المنشار في عظم الإنسان الحي ولحمه، وظاهر التمثيل على ما رأيت من العَجَبِ، ولكنَّ له باطنًا أَعْجَبَ من ظاهره، وهو البلاغة كلُّ البلاغة، والبيانُ حقُّ البيان فإنَّما يريد - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الحديد لا يأكل، ولا يمزع من أولئك الأقوياء بإيمانهم عظمًا، ولحمًا، وعصبًا؛ بل هو حديد يأكل حديدًا مِثْلَهُ، أو أَشَدَّ منه؛ فإنَّ للروح المؤمنةِ المُسَلَّطَةِ على جِسْمِها قُوَّةً تَصنع هذه المعجزةَ؛ فيَمُرُّ الحديد في العَظْم واللحم والعَصَب، يَسْلُبُها الحياةَ، ولكنها تَسْلُبُهُ شِدَّتَهُ، وجَلَدَهُ، وصَبْرَهُ!.
وكل ما جاء منَ التمثيل في كلامه - صلى الله عليه وسلم - يَنْطَوِي فيه من إِبْدَاعِ الفَنِّ البَيَانِيِّ، وإعجازِهِ ما يَفُوتُ حُدودَ البُلَغاءِ حتَّى لا تَشُكَّ إذا أنت تدبَّرْتَهُ بحقِّهِ منَ النظر والعلم أنَّ بلاغته إنَّما هي شيء كبلاغة الحياة في الحيِّ: هي البلاغة، ولكنها أبدع مما هي؛ لأنها الحياة أيضًا.
وأنت خبيرٌ أن هذا النبيَّ الكريمَ - صلى الله عليه وسلم - كانت تأخذه عند نزول الوحي عليه أحوالٌ وُصِفَتْ في كُتُبِ الحديث: قالت عائشة - رضي الله عنها -: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فَيَفْصِمُ[30] عنه، وإن جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ[31] عَرَقًا"، وفي حديث آخَرَ عنها قالت: "فأخذه ما كان يأخذه من البَرْحَاءِ[32] حتى إنه لَيَتَحَدَّرُ[33] عنه مِثْلُ الجُمَانِ[34] منَ العَرَق في يومٍ شاتٍ"، وفي حديث زيد بن ثابت: "فأنزل الله - عز وجل - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفَخِذُهُ على فَخِذِي فثَقُلَتْ عليَّ حتى خِفْتُ أن تَرُضَّ[35] فَخِذِي"، وفي حديث يَعْلَى بنِ أُمَيَّةَ حين قال لعمر: "أَرِنِي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حين يوحى إليه: فأشار عمر إليَّ، فجئتُ وعلى رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبٌ قد أظلَّ به فأدخلتُ رأسي فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُحْمَرُّ الوجهِ، وهو يَغُطُّ"[36] أي: يُرَدِّدُ نَفَسَهُ من شِدَّةِ ثِقَلِ الوَحْيِ".
فهذه كلُّها أحوال تَصِفُ عَمَل الدِّماغ بكل ما فيه من جُهد القُوى العَصَبِيَّة؛ ليرتفع بالحياة إلى ما فوقها، ويتركها لوعي الروح وحدها، لا يشاركها في هذا الوعي فِكْر، ولا هاجس[37]، ولا يتَّصل به شيء من حياة الحيِّ، فيتحقَّق للنبي - صلى الله عليه وسلم - وجودٌ آخَرُ غيرُ وجوده المحدود بجسمه، وطباعه، ودُنياه؛ ويخرج بوَعْيِهِ من هذه الجاذبية الأرضية إلى ما وراء حدود الطبيعة من قُوى الغَيْب، وبذلك يتلقى عن روح الكون ثم يَفْصِمُ عنه وقد وعى ما أُوحِيَ إليه.
وما وصفه زيد بن ثابت - من أن فَخِذَهُ كادت تَرُضُّ - برهانٌ قاطع على أنَّ روحه - صلى الله عليه وسلم - تَنْسَرِحُ[38] من جسمه ساعةَ الوحي فَيَثْقُلُ الجسم؛ لأنَّهُ إنَّما يخفُّ بِالرّوح، وتَبقى وظائفُ الحياة عاملةً أعمالَها بعُسْر وبُطْءٍ؛ لاتصالها بشعاع من الروح دُون الروح بجملتها؛ ولسنا هنا بصَدَد الكلام عنِ الوحي؛ فله موضع إن شاء الله في كتابنا "أسرار الإعجاز" وإنما نريد أن ندلُّ على أنَّ هذه التهيئة الإلهية لذلك الجهاز العصبي، لها أثرها العظيم في فنِّ بلاغته - صلى الله عليه وسلم - وبها امتاز عن كلِّ بُلَغاء الدنيا؛ فإن المُلْهَمَ[39] من أفذاذ العَبْقَرِيِّينَ على هذه الأرض إنَّما يبلغ ما يبلغه ببعض هذا الذي رأيت، وفي بعض هذا أَبْدَعُ ما وَرِثَتِ الدّنيا من فنون البيان، وكأن في الدماغ مادَّةً في موضعٍ منه يَمِيزُ بها مَنْ تَخْتَارُهُمُ السماء لحكمتها وإلهامها، وإذا كان فنُّ العَبْقَرِيِّينَ هو أسمى الكلام الإنسانيِّ لما خُصُّوا به من هذه التهيئة فإنَّ فنَّه - صلى الله عليه وسلم - يكون - ولا جَرَمَ - من باب الأكبر مما هو أكبر في إلهام الإنسانية كلها.
ولهذه القوة النادرة كان بيانُهُ قويًّا على مزج معانيه بالنفس بما فيه من صَنْعَة الحياة، وإنَّما فلسفة البيان الفَنّيِّ أن تَمْتَدَّ الحياةُ من النفس إلى اللفظ، فتصنعَ فيه صُنْعَها، فتَفْصِلَ العبارة الفَنّيَّة عن كاتِبِها، أو قائِلها، وهي قطعةٌ من كلامه لتستحيل عند قارئها، أو سامعها قطعة من الحياة في صورة من صور الإدراك؛ فالبيان الفنيُّ هو الوسيلة لحمل الوجود وبَعْثَرَتِهِ في مواضعَ غيرِ مواضِعِهِ، وخَلْقِهِ خَلْقًا آخَرَ في النفس الإنسانية؛ وبذلك يؤول[40] قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ مِنَ البيانِ لَسِحْرًا))، جَعَلَ نَوْعًا من البيان هو السحرَ، لا البيانَ كلَّه؛ فالحديث كالنَّصِّ على ما تُسَمِّيهِ الفلسفة الأوربية اليوم "بالبيان الفَنّيِّ" كأنه قال: إنَّ من البيان فَنًّا هو سحر من عمل النفس في اللغة تُغَيِّر به الأشياء، وله عَجَبُ السحر وتأثيره وتصرُّفه؛ وهذا معنًى لم يَتَنَبَّهْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، ولا يذكر معه كل ما قالوه في تفسير الحديث، وبذلك التأويل يكون هذا الحديث قدِ احْتَوَى أَسْمَى حقيقةٍ فلسفية للفن.
ومن أثر تلك القُوَّةِ أَيْضًا: ما تراه من شِدَّة الوضوح في كلامه - صلى الله عليه وسلم - ولقد رأينا هذه البلاغةَ النَّبويَّةَ العجيبةَ قائمةً على أنَّ كُلَّ لفظ هو لفظ الحقيقة لا لفظ اللغة؛ فالعِنايَةُ فِيها بِالحقائِق ثم الحقائق هي تختار ألفاظها اللغوية على منازلها؛ وبذلك يأتي الكلام كأنه نُطْقٌ للحقيقة المعَبِّرُ عنها، والكلمة الصادقة تُنْطَقُ مرةً واحدة؛ فصورتها اللغوية لا تكون إلا صريحة منكشفة عن معناها المضيء كأنَّما ألقي فيها النور.
وهو معلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلف ولا يتعمَّل، ولم يكتب ولم يؤلف ومع هذا لا تجد في بلاغته موضعًا يَقبل التنقيح[41] أو تعرف له رِقَّةً من الشأن كأنما بين الألفاظ ومعانيها في كل بلاغته مقياسٌ وميزانٌ، أو كأنَّ هذه البلاغةَ تَنْبَثِقُ بالكلام على طبيعة عاملة فيه بِقُواها الدائبة الثابتة ففنُّها الجميلُ هُوَ التَّركيبُ الذي تجئ فيه كما ترى الشجر مثلاً كاسيًا من ورقِهِ وزَهْرِهِ؛ فأنت منه بإزاء عَمَلٍ جميل؛ لأنَّك بِإِزاءِ حقيقةٍ طبيعيَّةٍ قَدِ انفردت في ذاتها، ومعنى انفرادها في ذاتها أنَّها كذلك هي؛ فليس فيها موضعٌ لِشَيْءٍ غيرُ ما هو فيها.
ثُمَّ لا تَنْسَ أنَّ النّبوَّة أكبر السبب في ذلك الوضوح البياني العجيب؛ فإنَّ الحياة لا تستغلق في البلاغة بإنسان إلا وهي غَنِيَّةٌ عنه، ولعلَّ غموض بعض الفلاسفة، وبعض الشعراء وهو من دليل الطبيعة على أنهم زائدون في الطبيعة... ألا ترى أن من أساليبهم الفلسفية والشعرية ما يجعل معنى الكلمة أحيانًا هو نَقْضَ معناها؛ إذ يتصنعون للفِكْرِ، ويستجلبون له، ويُشَقِّقُون فيه كما يفعل أهل صناعة الألفاظ بالألفاظ؛ فهاهنا البديع اللفظيُّ، وهناك "البديع الفكريُّ"، ولا طائل وراءهما إلا صناعة وبَهْرَجَة.
ومتى كان النبي قِسْمًا من الحياة، بل مادَّةً لمعانيها الجديدة، فلن يكون بيانُهُ إلا على ما وصفْنا لك جمالاً، ووضوحًا، ومنفعةً، ودقةً، وسُمُوًّا بقَدْر ذلك كلِّه.
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.14 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.35%)]