
17-06-2020, 03:33 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,490
الدولة :
|
|
رد: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وقال ابن كثير في تفسيره: ï´؟ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ï´¾ [الأعراف: 157] هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة، وهكذا كانت حاله عليه الصلاة والسلام، لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر، كما قال عبد الله بن مسعود إذا سمعت الله يقول ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ï´¾ فأرعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه، ومن أهم ذلك وأعظمه ما بعثه الله به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له والنهي عن عبادة من سواه كما أرسل به جميع الرسل قبله كما قال تعالى: ï´؟ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ï´¾ [النحل: 36][42].
وقال ابن سعدي (رحمه الله): من أعظم وأجل صفته، ما يدعو إليه، وينهى عنه، وأنه ï´؟ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ï´¾ [الأعراف: 157] وهو كل ما عرف حسنه وصلاحه ونفعه. وï´؟ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ï´¾ [الأعراف: 157] وهو: كل ما عرف قبحه في العقول، والفطر. فيأمرهم بالصلاة، والزكاة والصوم، والحج، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجار، والمملوك، وبذل النفع لسائر الخلق، والصدق، والعفاف، والبر، والنصيحة، وما أشبه ذلك. وينهى ن الشرك بالله، وقتل النفس بغير الحق، والزنا، وشرب ما يسكر العقل، والظلم لسائر الخلق، والكذب، والفجور، ونحو ذلك[43].
فإذا علمت أخي المسلم أن هذه الصفة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هي أخص صفات النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنك مأمور بالاقتداء بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم إن كنت ترجو الله واليوم الآخر، كما في قوله سبحانه ï´؟ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ï´¾ [الأحزاب: 21]، فاجتهد بالاقتداء به في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكن من المفلحين كما سبق بيان ذلك.
4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أخص صفات المؤمنين:
كما سبق بيان أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أخص صفات النبي صلى الله عليه وسلم فهو أيضاً أخص أوصاف أتباعه على دينه من المؤمنين، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله ï´؟ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ï´¾ [التوبة: 71] [44].
ذكر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بهذه الصفات الحميدة - أولها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مثنياً عليهم بها، واعداً لهم بالرحمة عليها، وكان ذكر هذه الصفات بعد صفات المنافقين الذميمة، حيث كانوا ضد ما عليه المؤمنون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين قال ï´؟ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ï´¾ [التوبة: 67، 68][45]. فاستحق المنافقون والمنافقات على فعلهم هذا من أمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف أن نسيهم الله أي: ((عاملهم معاملة من نسيهم ))[46] وتوعدهم بجهنم، ولعنهم، وأعد لهم عذاباً مقيماً، فنسأل الله السلامة والعافية من هذه الحال.
وقد ورد وصف المؤمنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آيات أخر، منها قوله تعالى ï´؟ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [التوبة: 112][47].
وقوله سبحانه وتعالى ï´؟ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ï´¾ [الحج: 41][48].
وقوله سبحانه وتعالى ï´؟ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ï´¾ [آل عمران: 110][49].
ولو تأملنا هذه الصفات الواردة للمؤمنين في الآيات المذكورة لوجدنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اقترن بأعظم الأعمال وأجلها، اقترن بالإيمان بالله، وبالصلاة والزكاة ونحوها.
فمن ذا الذي يرضى لنفسه أن ينسلخ من صفات المؤمنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟! لا شك أنه لا يوجد مسلم عاقل يريد لنفسه هذه الحال، والإنسان الذي لا يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إحدى حالين:-
الأولى: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، وبهذا يكون متشبها بالذين كفروا من بني إسرائيل الذين حقت عليهم اللعنة على لسان الأنبياء[50].
الثانية: أنه يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، وهذا فيه شبه من المنافقين السابق ذكرهم في الآية، ويستحق من الجزاء ما ورد في حقهم.
5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للنجاة من الهلاك:
والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم سبب نجاة المجتمع من الهلاك الذي ربما أصابه بسبب الذنوب الحاصلة، وتجاوز حدود الله سبحانه وتعالى بالمعاصي من ارتكاب المحرمات، والإعراض عن الواجبات، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مثلاً بديعاً حين قال: ((مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا))[53].
والقائم على حدود الله هو المطيع لله، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وأما الواقع فيها فهو العاصي الذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، وفعله هو سبب هلاك المجتمع، كما أن من خرق السفينة كان سبباً في هلاك كل من كان في السفينة، ولكن إذا وجد في السفينة من يأخذ على يديه ويمنعه من فعله الأحمق كان سبباً في نجاته ونجاة كل من في السفينة، وكذلك إذا وجد في المجتمع من يأخذ على أيدي العصاة فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر يكون سبباً في نجاة هذه المجتمع من الهلاك العام الذي يشمل الصالح والطالح، كما يقول الله سبحانه وتعالى: ï´؟ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ï´¾ [الأنفال: 25][54]، وكما في صحيح البخاري من حديث زينب بنت جحش (رضي الله عنها) أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث))[55].
ولا يكثر الخبث في مجتمع من المجتمعات إلا إذا قل فيه أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولقد أشار الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه إلى طائفة فيما مضى من الزمان كان سبب نجاتها هو النهي عن الفساد في الأرض حين قال سبحانه ï´؟ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ï´¾ [هود: 116، 117][56].
يقول ابن كثير (رحمه الله تعالى) في تفسيرها: فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض، وقوله: ï´؟ إِلَّا قَلِيلًا ï´¾ أي قد وجد منهم من هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيراً وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته، ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر[57].
ومما يدل على نجاة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر إذا أراد الله إهلاك الظالمين ما قصه الله سبحانه وتعالى علينا في محكم كتابه عن بني إسرائيل حين قال ï´؟ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ï´¾ [الأعراف: 163 - 164] [58].
يبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات حال ثلاثة أصناف من بني إسرائيل، حينما نهاهم الله سبحانه وتعالى عن الاصطياد في يوم السبت، فصنف أهملوا النهي وتحايلوا في الاصطياد في هذا اليوم، ووقعوا فيما حرم الله سبحانه وتعالى عليهم، وصنف آخر لم يرتكبوا ما حرم الله عليهم فاعتزلوا ولم يأمروا ولم ينهوا، بل قالوا للمنكرين ï´؟ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ï´¾ [الأعراف: 164]. أما الصنف الثالث فهم مع اجتنابهم المحرم وامتثال أمر الله سبحانه وتعالى فيه، لم يسكتوا على فعل الصنف الأول بل بادروا بالإنكار عليهم ونهيهم عن ارتكاب المحرم محتجين بقولهم ï´؟ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ï´¾ [الأعراف: 164].
فماذا كان جزاء كل صنف من هذه الأصناف؟ قال تعالى ï´؟ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ï´¾ [الأعراف: 165][59]، أنجى الله سبحانه وتعالى الذين ينهون عن السوء وهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وأهلك الله الذين ظلموا وهم الذي وقعوا في الحرام. وأما الذين سكتوا فقد سكت الله سبحانه وتعالى عنهم ولم يبين حالهم، وقد اختلف المفسرون في مآلهم[60]. والشاهد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للنجاة إذا نزل العذاب على قوم.
6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المكفرات:
من فضل الله سبحانه وتعالى على عباده أن جعل لهم من الأعمال الصالحة ما يكون سبباً لتكفير الذنوب، كالصلاة والصوم والحج ونحوها، ومن هذه المكفرات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما في الصحيحين من حديث حذيفة (رضي الله عنه) قال: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ (رضي الله عنه) فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي الْفِتْنَةِ كَمَا قَالَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَنَا،قَالَ: إِنَّكَ لَجَرِيءٌ، وَكَيْفَ؟ قَالَ: قَالَ قُلْتُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: ((فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَقَالَ عُمَرُ لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ، إِنَّمَا أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا لَكَ وَلَهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ:أَفَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ: ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ لَا يُغْلَقَ))[61].
ففتنة الرجل التي تحصل له في أهله وولده وجاره هو ما يقع فيه من الإثم بسببهم، إما في التقصير بما لهم من الواجبات، أو الوقوع في سببهم في المحرمات، فالفتنة في الأهل على سبيل المثال تكون في الميل إليهن أو عنهن بالقسمة والإيثار، والفتنة بالولد تقع بالميل الطبيعي إلى الولد وإيثاره على كل أحد، أو الإلتهاء بهم عن طاعة الله سبحانه وتعالى، والفتنة في الجار تكون على سبيل المثال في التقصير بحقه، ونيله بالأذى. وهذه الفتنة بالمذكورين قلما يسلم منها إنسان، ولذا فإنه من رحمة الله سبحانه وتعالى جعل لها أسباباً تكفرها، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[62].
7- أنه يزيد في الإيمان:
من المعلوم في مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد بين الأمام مسلم في صحيحه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يزيد به الإيمان حين قال: ((باب كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان)) ثم ساق بعده حديث أبي ذر (رضي الله عنه) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى))[63].
ووجه كونه سبباً في زيادة الإيمان، أنه أحد شعب الإيمان، ثم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الذي يبتغي بذلك وجه الله سبحانه وتعالى سيحاسب نفسه على ما يأمر به وما ينهى عنه خوفاً من الوعيد الشديد الذي جاء في حديث أسامة بن زيد (رضي الله عنه) قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يقول يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه))[64]. فيكون بهذا من المسارعين إلى ما يأمر الناس به، ومن المبتعدين عن ما ينهاهم عنه، فيحصل به من زيادة الإيمان الخير الكثير.
8- الأمر بالمعروف سبب في كسب الأجر الكثير:
من فضل الله سبحانه وتعالى أن جعل هذا العمل العظيم سبباً لحصول الإنسان على ثواب عبادات لم يباشرها، فمن أمر بصلاة مثلاً كان له مثل أجر من صلاها، ومن أمر بصدقة أو صوم أو حج أو نحو ذلك من الطاعات، الواجبات أو المستحبات، كان له من الأجر مثل أجر من فعلها، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حين قال: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا))[65]. وكذلك في قوله: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله))[66].
والأمر بالمعروف دعوة إلى الهدى، و دلالة على الخير، وبالتالي فإن القائم بذلك يحصل من الأجر الشيء العظيم (نسأل الله من فضله). وأكمل الناس في هذا الجانب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فما عملت الأمة من خير إلا بدلالته إياهم.
وكلما كان الإنسان أنشط في هذا الجانب، كان أكثر نصيباً من الخير الذي يحصل له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الأجر الحاصل هو ثواب آخر، لأن الآمر بالمعروف حتى لو لم يستجب له المأمور فإنه مأجور على فعله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
9- في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نجاة من إثم القول:
إن اشتغال الإنسان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فوق ما يكسبه من الأجر الكثير والثواب الجزيل، فإنه يكون سبباً في سلامته من إثم القول، ومن عثرات اللسان، وقد قال المولى سبحانه وتعالى ï´؟ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ï´¾ [النساء: 114][67].
كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن كلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حين قال: ((كلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر الله عز وجل))[68].
وبعـد:
وبعد معرفة هذا الفضل العظيم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن نفس الإنسان المسلم تتطلع لكسب هذا الخير الكثير، من تحقيق الخيرية في النفس، وتحقيق الفلاح في الدنيا والآخرة، والاتصاف بما كان عليه الأنبياء وعباد الله المؤمنون، والنجاة من الهلاك، وتكفير الفتنة في الأهل والولد والجار، وزيادة الإيمان، وتحصيل الأجر الكثير، والسلامة في القول، ونحو ذلك من الفوائد العظيمة للفرد والمجتمع التي لا تعد ولا تحصى، وقبل ذلك كله قياماً بالواجب وتنفيذاً لأمر الله ورسوله.
وبعد معرفة ذلك كله، فماذا عساك تفعل أخي المسلم، هل تزهد في هذا الخير الكثير والأجر الوفير؟! لعل ذلك يكون سبباً في تنشيط نفسك، واستثارة همك، للقيام بهذا العمل العظيم، ففيه صلاحك وصلاح مجتمعك وأمتك.
وليس هذا فحسب، بل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يجلب لك الخير الكثير، فهو أيضاً يدفع عنك من الشرور الشيء العظيم، الذي ينال من ترك الأمر بالمعروف والنهي المنكر، وهذا ما سأذكره لك بإذن الله في الصفحات القادمة، وفقك الله لكل خير.
التحذير من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال القرطبي في قوله: ï´؟ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ï´¾ [المائدة: 105]، والهدى هنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله أعلم.[97]
وعن سعيد بن المسيب: ï´؟ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ï´¾ [المائدة: 105] قال: إذا أمرتَ بالمعروف ونهيت عن المنكر، لا يضرّك من ضلّ إذا اهتديت[98].
وعن حذيفة: ï´؟ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ï´¾ [المائدة: 105] قال: إذا أمرتم ونهيتم.[99]
وعن السديّ ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ï´¾ [المائدة: 105] يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. قال أبو بكر (رضي الله عنه): يا أيها الناس لا تغترّوا بقول الله: عَليكُمْ أنْفُسَكُمْ فيقول أحدكم عليّ نفسي. والله لتأمرنّ بالمعروف وتنهونّ عن المنكر أو لتستعملنّ عليكم شراركم فليسومنكم سوء العذاب، ثم ليدعون الله خياركم فلا يستجيب لهم[100].
ويقول ابن جرير الطبري: ((لا يضرّكم ضلال من ضلّ إذا أنتم لزمتم العمل بطاعة الله، وأدّيتم فيمن ضلّ من الناس ما ألزمكم الله به فيه من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يركبه أو يحاول ركوبه، والأخذ على يديه إذا رام ظلما لمسلم أو معاهد ومنعه منه فأبى النزوع عن ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله إذا أنتم اهتديتم وأدّيتم حقّ الله تعالى فيه... لأن الله تعالى أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البرّ والتقوى، ومن القيام بالقسط: الأخذ على يد الظالم، ومن التعاون على البرّ والتقوى: الأمر بالمعروف. وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو كان للناس تَرْك ذلك، لم يكن للأمر به معنى إلا في الحال التي رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك، وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة فيكون مرخصا له تركه إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه))[101].
وقال ابن المبارك قوله تعالى: ï´؟ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ï´¾ [المائدة: 105] خطاب لجميع المؤمنين، أي عليكم أهل دينكم كقوله تعالى: ï´؟ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ï´¾ [النساء: 29] فكأنّه قال: ليأمر بعضكم بعضاً¹ وليْنَه بعضكم بعضاً¹ فهو دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يضركم ضلال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب¹ وهذا لأن الأمر بالمعروف يجري مع المسلمين من أهل العصيان[102].
2- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون إلا في حالات خاصة:
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون سائغاً عندما تكثر المنكرات وتعم، ويكون الأمر والنهي وقتها غير نافع، فحينئذ لا يضر ضلال الضالين، كما في سنن الترمذي من حديث أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قول الله تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ï´¾ [المائدة: 105] قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم» قال عبد الله بن المبارك: وزاد غير عتبة، قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال ((بل أجر خمسين منكم))[103].
كما سأل رجلٌ ابن مسعود (رضي الله عنه) عن قول الله ï´؟ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ï´¾ [المائدة: 105]، فقال: إن هذا ليس بزمانها، إنها اليوم مقبولة، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانها، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا، أو قال: فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل))[104].
وكذلك ما ورد عن ابن عمر (رضي الله عنه) فيما يرويه سوار بن شبيب، قال: كنت عند ابن عمر إذ أتاه رجل جليد العين شديد اللسان، فقال: يا أبا عبدالرحمن، نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، وكلهم مجتهد لا يألو، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك، فقال رجل من القوم: وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم بالشرك؟ فقال رجل: إني لست إياك أسأل، إنما أسأل الشيخ، فأعاد على عبد الله الحديث فقال عبد الله: لعلك ترى - لا أبا لك - إني سآمرك أن تذهب فتقتلهم، عظهم وانههم، وإن عصوك فعليك بنفسك، فإن الله عز وجل يقول ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ï´¾ [المائدة: 105] الآية.[105]
وعن جبير بن نفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ï´¾ [المائدة: 105]؟ فأقبلوا عليّ بلسان واحد، وقالوا: تنزع آية من القرآن لا تعرفها ولا تدري ما تأويلها؟ فتمنيت أني لم أكن تكلمت، وأقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا: إنك غلام حدث السن، وإنك نزعت آية ولا تدري ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت[106].
وقال القرطبي: يجوز أن يكون أريد به الزمان الذي يتعذر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينكر بقلبه، ويشتغل بإصلاح نفسه[107].
3- التوعد بالعقاب لمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ويدل على ذلك ما ورد عن قيس بن أبي حازم عن قيس بن أبي حازم، قال: صعد أبو بكر المنبر، منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس إنكم لتتلون آية من كتاب الله، وتعدّونها رخصة والله ما أنزل الله في كتابه أشدّ منها: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ï´¾ [المائدة: 105] والله لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليعمنكم الله منه بعقاب[108].
الشبهة الثانية: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسبب التقصير:
يقول بعض الناس لا ينبغي لي أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأنا مقصر في فعل المأمور به، وترك المنهي عنه، ويستدل على قوله هذا بالكتاب والسنة. فمن الكتاب قوله سبحانه وتعالى: ï´؟ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ï´¾ [البقرة: 44][109].
وقوله: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ï´¾ [الصف: 2 - 4][110].
ومن السنة ما رواه أسامة بن زيد (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه))[111].
الرد على الشبهة:
1- الوعيد على ترك المعروف وليس على الأمر بالمعروف:
لا شك أن في الآيات والحديث تهديداً ووعيداً شديداً، ولكن لنتأمل من هو الذي يستحق التهديد والوعيد المذكور في الآيات والحديث.
إن الذم في الآية الأولى ï´؟ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ï´¾ [البقرة: 44] إنما هو على ترك البر لا على الأمر بالبر، كما يقول ابن كثير في ذلك: ((وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ولا يتخلف عنهم...))[112].
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى ï´؟ أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ ï´¾ الآية: ((اعلم وفّقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر، ولهذا ذمّ الله تعالى في كتابه قوماً كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها وبخهم به توبيخاً يُتْلَى على طول الدهر إلى يوم القيامة.
وفي حديث أسامة (رضي الله عنه) نجد أن الآمر والمأمور اجتمعا في النار، فالمأمور لأنه لم يمتثل ما أُمر به، والآمر لأنه لم يفعل ما يأمر الناس به، ولم يجتنب ما ينهاهم عنه. قال الطبري: فإن قيل كيف صار المأمورون بالمعروف في حديث أسامة المذكور في النار؟ الجواب أنهم لم يمتثلوا ما أمروا به، فعذبوا بمعصيتهم، وعذب أميرهم بكونه يفعل ما ينهاهم عنه))[113].
وليس دخوله النار لمجرد أمره ونهيه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الطاعات التي يستحق المسلم عليها ثواباً لا عذاباً.
فيما يتعلق بالمعروف والمنكر هناك واجبان على المسلم هما: -
1- فعل المعروف واجتناب المنكر.
فإذا حصل أن الإنسان قصر في أحد الواجبين فليس ذلك مخولاً له أن يقصر في الواجب الثاني. فإذا كان على سبيل المثال مقصراً في الصلاة، فإنه يلزمه الأمر بها.
وكذلك في جانب المنكر، إذا كان يأكل الربا مثلاً، فإن يلزمه النهي عن أكل الربا.
وفي هذا يقول الإمام النووي: (( قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يأمر به، مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلاً بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبساً بما ينهى عنه فإنه يجب عليه شيئان، أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر))[114].
وقال ابن كثير (رحمه الله تعالى): ((فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف، وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها وهذا ضعيف، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية فإنه لا حجة لهم فيها، والصحيح: أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه))[115].
ولا شك أن أنفع الناس في أمره ونهيه، وأحسنهم في دعوته من كان ممتثلاً ما يأمر به، مجتنباً ما ينهى عنه، كما هي حال المرسلين، كما قال شعيب عليه السلام: ï´؟ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ï´¾ [هود: 88][116].
ويقول أبو الدرداء (رضي الله عنه): ((لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً))[117].
وفي هذا قال أبو الأسْود الدّؤَليّ: [118]
لا تَنْهَ عن خُلقٍ وتأتيَ مثلَه
عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ 
وابدأ بنفسك فانهها عن غيّها
فإن انتهتْ عنه فأنت حكيمُ 
فهناك يُقبَل إن وَعظتَ ويُقتَدى
بالقول منك وينفع التعليمُ 
3-الأخذ بهذه الشبهة تعطيل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن الأخذ بهذه الشبهة يلزم منه أن يكون الآمر والناهي معصوماً، فاعلاً لكل ما يأمر به، منتهياً عن ما كل ما ينهى عنه، وهذه درجة صعبة لا يبلغها إلا المرسلون، وبالتالي لا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى أحد عن منكر بعد المرسلين.
قال مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول: ((لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء؟))[119].
وقال الحسن لمطرّف بن عبد اللّه: ((عِظ أصحابك فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل قال: يرحمك الله! وأيّنا يفعل ما يقول! ويودّ الشيطان أنه قد ظَفِر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر))[120].
وقال ابن حجر في الفتح: (( وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأولى فجيد، وإلا فيستلزم سد باب الأمر بالمعروف إذا لم يكن هناك غيره ))[121].
الشبهة الثالثة: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسبب عدم الاستجابة:
يقول بعض الناس إن الناس لا يستجيبون للأمر مر بالمعروف والنهى عن المنكر، فلا فائدة إذا للقيام بهذه العمل.
الرد على الشبهة:
1- من الأنبياء من لم يستجب له أحد:
لا شك أن الأنبياء والرسل أكمل الناس في جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي المهمة الأساسية التي بعث الله سبحانه وتعالى من أجلها، ومع ذلك واجهوا من أقوامهم ما واجهوا من الصد والعناد، حتى أن بعضهم لم يؤمن له أحد، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرضت علي الأمم فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط والنبي ليس معه أحد حتى رفع لي سواد عظيم قلت ما هذا أمتي هذه؟ قيل بل هذا موسى وقومه قيل انظر إلى الأفق فإذا سواد يملأ الأفق ثم قيل لي انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء فإذا سواد قد ملأ الأفق قيل هذه أمتك...))[122].
ففي هذا الحديث بيان لأتباع الأنبياء الذين يدخلون معهم الجنة، ومنهم النبي وليس معه أحد من الناس، أي لم يستجب له أحد، وهذا لا يعني أنه لم يبلغهم دعوة الله سبحانه وتعالى، ولم يأمرهم وينههم، لا. بل أمرهم ونهاهم، ولكنهم لم يستجيبوا.
2- ليس الواجب أن يستجيب الناس:
إذا تأملنا توجيه رب العالمين لنبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم قدوتنا في الأمر والنهي، وجدنا أن الله سبحانه وتعالى لم يكلفه باستجابة الناس له، إنما كلفه بتبليغ الدعوة، في مثل قوله ï´؟ فَإِن تَولّيْتُمْ فَإِنّمَا عَلَىَ رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ï´¾[123] قال ابن كثير (رحمه الله تعالى): ((أي إن نكلتم عن العمل فإنما عليه ما حمل من البلاغ وعليكم ما حملتم من السمع والطاعة قال الزهري: من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم))[124]. يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|