شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (25)
صـــــ175 إلى صــ180
{باب فروض الوضوء وصفته}
قوله رحمه الله: [والتّرتِيبُ]: يقال رتّب الأشياءَ: إذا جعل كل شيء منها في موضعه، وجعلها تلو بعض، فقدّم ما حقّه التقديم، وأخّر ما حقّه التأخير
والمراد بقوله هنا: الترتيب؛ أن يُوقع الغَسلَ، والمسح على التّرتيب الذي جاءت به آية المائدة، فيبدأ بغسل وجهه، ثم غسل يديه، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجليه، فلو قدم مسح الرأس على غسل الوجه لم يُجْزِه، ولو قدّم غسل الرجلين على مسح الرأس لم يُجْزِه، وهكذا.
إذاً الترتيب أن يوقع الأعضاء المأمور بغسلها، ومسحها على وفق آية المائدة.
وهذا الترتيب دلّ عليه دليل الكتاب: فإن الله -عز وجل- أمر بغسل الوجه، ثم أتبع الوجه اليدين، ثم أتبعهما بمسح الرأس، ثم أتبع الجميع بغسل الرجلين، والواو لا تقتضي الترتيب في لغة العرب إلا عند وجود القرائن الدالة على الترتيب،
فهو ليس بأصل فيها فأنت إذا قلت مثلاً: جاء محمد، وعلي لا يستلزم ذلك أن يكون محمد جاء أولاً،
ثم من بعده علي إذ يجوز أن تقول: جاء محمد، وعلي، وقد كان علي قد جاء أولاً،
ويجوز أن تقول: جاء محمد، وعلي وقد جاءا مع بعضهما،
لا يسبق أحدهما الآخر إذاً فالواو في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} وقوله بعد ذلك: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُم} الواو في هذه الأربع لا تفيد التّرتيب نصّاً لكن فُهِم الترتيبُ من سياقها، وذلك أنه لا معنى لإدخال الممسوح بين المغسولين إلا إرادة التّرتيب الوارد فإن الله -عز وجل- أدخل المسح على الرأس، وهو ممسوح، وجعله بين مغسولين، وهما اليدان، والرجلان، فلو كان الترتيب ليس بلازم لذكر المغسولات أولاً، ثم أتبع بالممسوح، أو ذكر الممسوح أولاً، ثم أتبع بالمغسول، فلا وجه لإدخال المسح بين الغسل على هذه الصورة إلا إرادة الترتيب بين تلك الأعضاء بحسب ورودها في الآية الكريمة.
ثانياً: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال للأعرابي: [تَوضّأ كَمَا أَمَركَ الله -عز وجل-] أي على الصفة التي وردت في كتاب الله -عز وجل- وقد وردت فيه مرتبة.
ثالثاً: أنه لم يحفظ عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه توضاً فقدم عضواً على عضو على خلاف ترتيب الآية الكريمة.
لكن هنا إشكال في الحديث الذي ورد من كونه -عليه الصلاة والسلام- تمضمض بعد أن غسل وجهه، فكيف نجيب عن هذا الإشكال؟
والجواب: أن الترتيب في أعضاء الوضوء يقع على الصور التالية:
أولاً: الترتيب بين مفروض، ومفروض.
ثانياً: الترتيب بين مسنون، ومسنون.
ثالثاً: الترتيب بين مفروض، ومسنون.فأما الترتيب بين مفروض، ومفروض فكغسل اليدين بعد غسل الوجه، وهو مفروض، ولازم.
وأما الترتيب بين مسنون، ومسنون فكالترتيب بين المضمضة، والإستنشاق بأن يوقع المضمضة أولاً، ثم يستنشق بعدها، وهو مسنون.
وأما الترتيب بين مفروض، ومسنون؛ فكالمضمضة، والإستنشاق، مع غسل الوجه يبدأ بالمضمضة أولاً، ثم الإستنشاق وكلاهما سنة، ثم يغسل وجهه، وهو الفرض، وهذا الترتيب مسنون أيضاً، والذي ورد في الحديث من كونه غسل وجهه، ثم تمضمض؛ إنما هو بين مسنون، ومفروض، ومحل الكلام فيما بين المفروضات، وبناءً على ذلك يكون هذا الحديث لا علاقة له بالترتيب الواجب، ولا يصحّ الإستدلال به على إسقاطه، وهذا أمر يُغْفِله بعض طلاب العلم أنه يحتج بهذا الحديث على إلغاء الترتيب، وليس في الحديث دلالة؛ إنما يستقيم الإستدلال بالحديث أن لو غسل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديه قبل وجهه، أو قدّم مسح رأسه على غسل اليدين؛ أما عدم الترتيب بين المسنونات، أو بينها، وبين الفرائض؛ فالأمر فيه واسع ليس كالفرائض.
هذا الترتيب إنما هو في الفرائض إذا كان بين عضو، وعضو، كما قدمنا في ترتيب اليدين بعد الوجه، وأما إذا كان العضو واحداً متعدداً، كالأعضاء المثناة، فلا يجب الترتيب، ففي اليدين والرجلين يجوز لك أن تغسل اليمنى قبل اليسرى، وأن تغسل اليسرى قبل اليمنى، ولا يشترط الترتيب بين اليمنى، واليسرى؛ لأنّ الله -عز وجل- أمر بغسل اليدين مطلقاً، وهذا قد غسل يديه، وفِعْلُ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتقديم اليمنى على اليسرى كمالٌ؛ لقول عائشة -رضي الله عنها-: [كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُه التَّيمنُ في تَنَعُّلِهِ، وتَرجُّلِه، وطُهُورِهِ، وفي شَأنِه كُلِّه]، وبناءً على ذلك لا يجب الترتيب بين المسنونات، ولا بين الأعضاء المثناة كاليدين والرجلين.
قوله رحمه الله: [والموالاة]: المراد به أن تقع هذه الفروض على الولاء بعضها يلي بعضاً، دون وجود فاصل مؤثر،
وتوضيح ذلك: أن يغسل وجهه، ثم يقوم بغسل يديه قبل أن ينشف وجهه، ثم يمسح رأسه قبل أن تنشف يداه، ثم يغسل رجله قبل أن ينشف الماء الذي مُسح به رأسه، هذا هو مراد العلماء بالموالاة،
ولذلك قال العلماء ضابطها: أن لا ينشف العضو المفروض قبل أن يبدأ بالفرض الذي يليه،
مثال ذلك: لو أن إنساناً توضأ في بيته، ثم انقطع الماء أثناء الوضوء، وكان قد غسل وجهه، فقام من موضعه إلى موضع آخر فيه الماء، ومشى حتى بلغه فحينئذ ننظر فإن كان الفاصل الذي بين انقطاع الماء، وغسله للعضو فاصلاً مؤثراً؛ بمعنى أنه ينشف فيه العضو في الزمان المعتدل الذي هو ليس بشديد البرد، والحر، (لأن الحر فيه نوع من الرطوبة خاصة إذا كان الإنسان في الظل فيبقى العضو طرياً إلى أمد أكثر والبرد مع الهواء، والريح يحصل به النشاف بسرعة) فلو قُدِّر مثلاً إلى خمس دقائق أن العضو في الزمان المعتدل ينشف نقول: إذا مضت خمس دقائق ما بين غسله لوجهه، وغسله ليديه بعد عثوره على الماء بطل وضوءه، وإن كان دون ذلك صحَّ، ولم يؤثر وجود هذا الفاصل.
والأصل في فرضية الموالاة دليل السنة،
وذلك: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [لمّا رأى على قَدَمِ الرَّجُلِ قَدْرَ لُمْعَةٍ لَمْ يُصِبْها الماءُ أَمَره أَنْ يُعيدَ وضُوءَه، وصَلاَته]-صلوات الله وسلامه عليه- فدلّ هذا على أن الولاء من فرائض الوضوء لأن أمره بإعادة الوضوء يدل دلالة واضحة على بطلان الوضوء بغير موالاة.
قال رحمه الله: [والنِّيةُ شَرْطٌ لِطَهارةِ الأَحْداثِ كُلِّها]:
النِّية: مأخوذة من قولهم نوى الشيء، ينويه نيّة، ونيَة بالتخفيف، والتّشديد.
والنِّية في لغة العرب معناها: القصد،
تقول: نويت الشيء إذا قصدته، سواء كان ذلك في القول،
أو الفعل وقولهم أعني العلماء رحمهم الله: (النّية شرطٌ في طهارة الأَحداثِ) مرادهم بذلك أن يقصد المكلف العبادة،
ويكون قصده مشتملاً على أمرين:
الأول: التقرب لله -جل وعلا-،
والثاني: رفع الحدث،
واستباحة ما تشترط الطهارة لفعله: كالصلاة، والطواف، ولمس المصحف.
والأصل في وجوب النية، ولزومها في العبادات قول الله -تعالى-
مخاطباً نبيه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (1) فقوله تعالى: {فَاعْبُدِ} أمر وقوله سبحانه: {مُخْلِصًا} أي حال كونك مُخْلِصًا له الدين، ومن المعلوم أنه لا يتحقق الإخلاص إلا بتجريد النية لله، وبناء على ذلك توقف اعتبار العبادة على نية القربة، فلو أن إنساناً أراد أن يصلي، ولم يقصد العبادة لله -جل وعلا- أو فعل أفعال الصلاة وقصد بها رياضة البدن فإنها لا تعتبر عبادة مجزئة، إذاً لا بد في العبادة من قصد القربة لله -سبحانه وتعالى-، والوضوء عبادة من العبادات، فهو داخل تحت هذا الأمر، فتجب فيه النية.
وأما قصد رفع الحدث؛ فهو أعم المقاصد في النية في الطهارة، وبه يرتفع الحدث الأصغر والأكبر، فيستبيح فعل جميع ما تشترط له الطهارة، دون استثناء،
وأما إذا قصد استباحة معين لزمه تعيينه في قول الجمهور لحديث عمر رضي الله عنه أنَّ النبيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكُلِّ امرئٍ ما نوى] فقد دل الحديث بمنطوقه على أن من نوى شيئاً كان له، وبمفهومه أن من لم ينو شيئاً لم يكن له، فأخذوا منه دليلاً على التفريق بين نية رفع الحدث العامة، ونية الإستباحة الخاصة، وهذا النوع الثاني في النية وهو قصد رفع الحدث، أو الإستباحة الخاصة هو الذي يقصده العلماء رحمهم الله في مسألة نية الوضوء،
وأما النوع الأول: وهو الإخلاص، وقصد القربة لله عز وجل، فإنه معلوم من الشرع بداهة لأن(1) الزمر، آية: 2.
**********************
العلماء أجمعوا على أن العبادات لا تصح إلا بنية، وقد قرر الإمام الشاطبي -رحمه الله- مبحثاً نفيساً ينبغي على طالب العلم أن يرجع إليه في كتابه الموافقات في الجزء الأول منه حيث عقد فصلاً كاملاً لتقرير وجوب النية، ولزومها في العبادات، وبيّن وجه اعتبار الشرع لها، وإلزامه للمكلف بها، الشاهد من هذا أنه لا يصح إيقاع الوضوء، والغسل من الجنابة، وغيرها على الوجه المعتبر شرعاً إلا إذا نوى الإنسان به رفع الحدث، أو الإستباحة على التفصيل المتقدم، فلو أن إنساناً غسل، ومسح أعضاء الوضوء قاصداً التبرد، أو نظافة البدن لم يُجْزِهِ ذلك الوضوء؛ إلا إذا نوى به الوضوء الشرعي، وكذلك الحال لو أنه كانت على الرجل جنابة، أو إمرأة طهرت من حيضها ثم انغمس كل منهما في بركة، وكان عند انغماسه قاصداً التبرد في زمان صيف، فإن هذه النية لا تجزيهما، ويلزمهما الغسل مرة ثانية بنيّة رفع حدث الجنابة، والحيض وهذا هو الذي عبّر المصنف -رحمه الله-
عنه بقوله: [لِطَهارةِ الأحداث] والأحداث هنا عامة أي سواء كانت صغرى، أو كبرى،
ومفهوم قوله: [الأحداث] أن طهارة الخبث لا تشترط لها النية، لأنها من الوسائل، وليست من المقاصد، والإجماع على أن الوسائل لا تشترط لها النية.