في الأدب الإسلامي
عباس توفيق
الالتزام الديني في الفن:
لقد عانى عدد من الأدباء القدماء من ألم انشطار النفس بين دوافع قلبية دينية ورغبات دنيوية مسرفة، ولهذا فإن ما أنتجوه كان يتوزع بين هذا الميل أو ذاك، ولاحظ الأقدمون، أو قسم منهم، تفاوتاً في الرصيد الانفعالي بين القصائد الصادرة عن إحساس ديني والقصائد الصادرة عن حاجة دنيوية. وقد أدركوا سبب التفاوت ولكنهم آثروا تجاوزه ورغبوا في تجنب الحرج الذي يمكن أن يقعوا فيه إذا ما خاضوا في درجة القيم الأخلاقية أو الاعتبارات العقائدية التي تسمح للشاعر أن يقول بلسانه ما ليس في قلبه. ويبدو أن أولئك الأقدمين وجدوا في فصل الأدب عن الدين مخرجاً مناسباً من هذا الحرج وذلك التفاوت الذي لم تكن الإمكانية الفنية سبباً فيه، وإذ فصلوا الدين عن الأدب فإنهم قد وضعوا وبصورة ضمنية قاعدة لدراسة الشعر الصادر عن الحس الديني أو عن الدوافع الأخرى تتمثل ب" وحدة" المؤلف، وأما المعاصرون الذين آزروا هذا الفصل فإنهم لم يصدروا عن الرغبة في تجاوز المساس بشخصيات الشعراء العقائدية بل صدروا عن دوافع أخرى كان من بينها اعتقادهم أن الدين يقتل الإبداع الفني ويجعله مجالاً للوعظ والإرشاد لا غير، وأنهما أي الشعر والدين بسبب ذلك لا يلتقيان.
إن اعتبار الفن والدين نشاطين مختلفين يعكس عدم فهم لمعنى الدين في حياة الإنسان أو سعياً لإفراغ الدين من دلالته الأساسية والوظيفة الجوهرية التي ينيطها بالإنسان والتي تتمثل بالخلافة على الأرض وعمارتها إيمانياً ومادياً، ومهما تشعبت هذه الوظيفة وتنوعت مجالاتها فهي عبادة وممارسة دينية طالما كان تنفيذها نابعاً من قلبٍ شاعر أنه ينفّذ أمر ربه أو أنه يريد بما يفعل وجه الله - سبحانه وتعالى -. وقد أوضح القرآن الكريم بجلاء تام الغاية من خلق الإنسان بقوله جل جلاله: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ([38]).
فالعبادة هي الغاية، ولا بد أن تكون جميع الأنشطة التي يمارسها الإنسان دائرة في فلكها ومؤدية إلى تحقيقها وإبقائها متوهجة في الحياة وحية في النفس، ومفهوم العبادة، كما هو معلوم، واسع في الإسلام وغير مقتصر على أداء الفرائض والأركان، ويشمل كل حركة وقول ونشاط يصدر عن الإنسان من أجل ربه - سبحانه وتعالى-، بل أنه ينصرف إلى أدق الخصوصيات الإنسانية، وما دمنا بصدد الحديث عن الفن فلا ريب في أنه عبادة إن توفرت فيه شروط الأداء الإسلامي كالنية الإسلامية الخيرية الدافعة إلى الإنتاج الفني واستشراف الغاية الإسلامية منه والنظر إلى أن يقع موقع الرضى من الباري - عز وجل - أولاً لا أن يقع موقع الرضى من الناس وموقع السخط من الباري - عز وجل -، وغيرها، وليس هذا مفهوماً نظرياً مجرداً بل هو واقع طبّقه المسلمون على امتداد التاريخ، ولئن كانت العبادة في رأيهم مقتصرة على الشعائر المعروفة لما كان لديهم جهاد بالكلمة أو بناء أو تأليف ولما كان في مقدورهم أن ينتجوا ما أنتجوه في العلوم الطبية والكيميائية والرياضية إلى جانب العلوم الفقهية والشرعية بأبوابها المختلفة، ولما كانت هناك، بعبارة موجزة، حياة زاخرة مفعمة بالحركة.
إن التزام الإنسان بمنهج الله - سبحانه وتعالى - يقود إلى أن يفتح هذا الإنسان عينيه على أسرار الكون وأن يرى فيه بعينه وقلبه وإحساسه ما لا يراه الآخرون، وإن هذا الالتزام يضعه موضع الاتساق التام والانسجام الكامل مع حركة الكون ويشعره أنه جزء منظم من الحركة المنتظمة داخل الوجود وأنه، من ثم، ذرة مسبحة مع ذرات الكون الفسيح، فهو ليس كائناً عاقلاً إزاء جمادات بل هو عبد لله إزاء عبيد لله ويبني تعامله مع الدواب والشجر والجبال والحجر على أساس أنه وهؤلاء جميعاً عابدون لله، ويكفل هذا الإحساس تعاطفاً من نوع خاص بين الإنسان وما يحيط به محققاً له الطمأنينة في القلب والرضى في النفس والمصالحة مع الوجود، وهو إذ يرى عظمة الباري - عز وجل - ويتأملها في تفصيلات الوجود يكون في حالة ِذكْر وهي حالة استشعار العبادة بكل ما يفعله الإنسان ويقوله، وحينئذ يرى نفسه في مسايرة منتظمة مع الناموس الكوني العام، فهو وهذا الكون بكل ما فيه خاضعان لقانون واحد يسيران وفقاً له ولا يمكن أن تكون حركته معاكسة لذلك القانون. ويشكل هذا الاطمئنان أساساً مهماً للإبداع الفني الإسلامي، أي أن الفن الإسلامي ينبع من الاطمئنان واستقرار الوجدان اللذين لا يفارقان المسلم وهو يؤدي واجبه الشرعي - بالمفهوم الواسع لهذا الواجب بغض النظر عن نتائج ما يؤديه. على حين أن " الآخر" يتعامل مع ما يحيط به من زاوية مغايرة وخاضعة لمصالح وتوقعات محكومة بحسابات ذاتية من جهة، وقائمة على شعور بالسخط على هذا ال" ما حول " وعدم الرضى بل وحتى العداء أحياناً من جهة أخرى. ومن ثم فإن هذا الصنف من الناس يحيا حالة دائمة من التوتر والقلق والاضطراب ومن التمزق الروحي والانكسار النفسي. وإذ تؤول حسابات هذا الصنف إلى الفشل فإنه ينفجر حقداً وغضباً ويتحول إلى وحش كاسر ولا يطال ضرره ما يحيط به وحسب بل يطاله هو أيضاً ([39])
الاطمئنان منبع الفن:
إن الفرق بين المسلم الملتزم بمنهج ربه ومن يحلّ نفسه من ذلك الالتزام مسلماً كان من حيث الظاهر والانتماء أم لم يكن كامنٌ في أن المسلم لا يرى أمامه شيئاً أسمه " أسوأ احتمال "؛ ذلك أن الاحتمالات التي يواجهها تكون خيرة كلها، وقد دلّنا النبي - عليه الصلاة والسلام - على هذه الخيرية بقوله: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"([40]). ولئن أصابه ما يكره فإنه يعلم أن في ذلك خيراً آجلاً له في الأقل، كما أنه يدرك في الوقت ذاته أن معياره هو غير دقيق في تمييز ما هو خير وما هو شر في نتائجه وعلى هذا فإنه يستقبلهما بشعور واحد، وقد وجّهنا القرآن الكريم إلى عدم الأخذ بظواهر الأشياء ومن خلال مشاعرنا القريبة منها، وذلك في قوله - سبحانه وتعالى -: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) ([41]). ومن هنا فإن المسلم لا يخرجه الخير " الظاهر " عن طوره ولا يضجره الشر " الظاهر"، فكلاهما من رسل ربه إليه وهو يرحب بهما ترحيبه بأمر ربه ويأنس بهما أنسه بخالقه - سبحانه وتعالى-، ولهذا فإن أخطر تجربة، وهي تجربة الحياة والموت في الجهاد بالنفس، يقدم عليها الإنسان المسلم برباطة جأش وثبات جنان لا تختلج فيه اختلاجة سلبية لأن العاقبة عنده متساوية: النصر أو الشهادة، إن لم تكن الشهادة أقرب إلى مناه وإن لم يكن هو أحرص عليها مما عداها. وأما الآخرون فهم بين نصر أو اندحار، نجاح أو فشل، وحدودهما هي ما يدركونه بأعينهم أو يلمسونه بأيديهم من سماتها القريبة الظاهرة، فيطغيهم النصر ويحرق أفئدتهم الانكسار، وفي الحالتين يكون انفعالهم معاكساً للناموس الإلهي فيؤذون أنفسهم والآخرين برؤية الذات والتيه والغطرسة في حال النجاح وبالمعاناة الداخلية في حالة الفشل. وإذا كان النتاج الأدبي ثمرة لهذه الحالة المضطربة غير السوية فإن تغذيته لنفوس متلقّيه ستكون تغذية مرَضيّة غير صالحة وذات نتائج غير سليمة.
ولا يعني اطمئنان الفنان، بطبيعة الحال، جموده العاطفي إزاء الموضوعات التي يعالجها، بل بالأحرى إنه يعيش التجربة بكل ما فيها من دفق حيوي ويؤطرها بإطارها الإسلامي أو يشحنها بالإرشادات الإسلامية التي تكون في محصلتها تجربة فنية متميزة وذات هدف معلوم. إن اطمئنان الفنان هو الذي يجعل سمعه قادراً على التقاط تسبيح الكون وهو الذي يفتح له آفاق التعامل والمعالجة الخلاقة المبنية على التعاطف والحب والوحدة واكتشاف الأسرار الكونية والطبائع البشرية في ضوء نور رباني ساطع، ( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) ([42]). وإن طمأنينة الفنان ستقوده إلى الرؤية المتبصرة وتعينه على تجاوز النزق والانفلات الآني والندم في مستقبل الأيام على ما تلفّظ به، وبهذه الطمأنينة يصبح متلائماً ومنسجماً مع المجالات الإبداعية الأخرى من حيث محفزاتها ومثيراتها، ولقد أشار عدد من أصحاب المناهج الأدبية والنقدية إلى أن التوتر والتمزق وما إليهما مما يعانيه الفنان في حياته الداخلية تشكل المنتج الحقيقي والأساس الفعلي لعملية الإبداع الفني ([43])، بل إن هذا المعتقد شاع وانتشر حتى أصبح الفن في أذهان الأغلبية الساحقة من المتعاملين معه نتاج حالة الثورة والرفض والتمرد والتوتر والتمزق والانسحاق إلى أخر الأوصاف التي تمثل في حقيقتها حالة داخلية مرضية يرددها "أهل الفن " عن الأرضية التي تنطلق منها الإنتاجات الفنية وتأخذ منها نسغها، ورأى البعض من الكتاب الإسلاميين أن الفن نتاجٌ لتوتّر داخلي ناجم عن الحالة التي يعيشها الفنان بسبب ما يراه من عدم الانسجام بين الإنسان والعالم ([44]) من غير أن يعمل إسباغه لهذا الطابع على إعادة اللحمة بين الفن والدين أو أن يجعل من الفن أحد أنشطة العبادة.
العلمانية الأدبية والمناهج النقدية:
ولقد كان من نتيجة مساعي فصل الفن عن الدين أن أصبحت المناهج النقدية المختلفة على ما بينها من اختلافات معرفية جوهرية معنية بالنص الأدبي وجاعلة إياه قيمة مطلقة وهدفاً أساسياً. فالمنهج التاريخي، على سبيل المثال، يوجه عنايته إلى الظروف الشخصية والبيئية المحيطة بالمنشئ على اعتبار أن هذه الظروف هي الوسائل التي يتوصل بها الناقد الدارس إلى فهم دقيق وإدراك صائب للنص ويستضيء بها لمعرفة ما في الإنتاج الفني من عمق وغنى وتنوع، بينما يسعى المنهج البنيوي إلى الهدف ذاته من خلال النص وخصوصية تركيبه اللغوي. وقد اتسع نطاق التعامل مع النص على أنه بنية لغوية خلال العقود الأخيرة في أدبنا العربي، وتشعبت الاتجاهات التي تناولت تلك البنية وتنوعت بشأنها الرؤى، ولكنها تلتقي جميعاً في نقطة مركزية واحدة هي أن النص الأدبي ذو كينونة خاصة محكومة بقوانينها الذاتية وضوابطها النابعة منها، وأن ما يلاحظ فيه ينبغي الا يوزن بالمعايير أو القيم الخارجة عنه وعن طبيعته، فلئن كان النص مشتملاً على " الكذب" مثلاً فلا بد أن تُفسّر الكذبة أو تُعامل على أنها قوةٌ في التخيّل واستشرافٌ للمجهول ولا بد من اعتبارها من موجبات الملكة الإبداعية المميزة، وأن وضعها في إطار مغاير سيبعد المقاربة النقدية عن أهدافها ومنطلقاتها الرامية إلى الكشف عن الطبيعة الفنية التكوينية المتفردة للنص الأدبي، تلك الطبيعة التي تنفصم صلتها أو علاقتها بما هو خارج النص.
ويؤول مثل هذه الرؤية إلى ما يقرره نقاد معينون من أن للنص وجوداً مستقلاً لا عن المنشئ وحسب بل عن النصوص الأخرى للمنشئ عينه وأن له منطقاً خاصاً به قد لا يلتقي بمنطق نص فني آخر ([45]). وعلى الرغم من أن هذه الرؤية مغلّفة بدعوى الإخلاص للفن إلا أن تدبرها سيوصل حتماً إلى إدراك مغزاها البعيد وهي أن في الوجود " مخلوقات" إلهية و"مخلوقات" بشرية، وينبغي أن يدرس كل من هذه "المخلوقات " من خلال قوانينها الذاتية وصفاتها الخاصة بها بدلاً من دراستها من خلال علاقتها ب" موجِدها". فكما أن الخلق الصادر عن الله - سبحانه وتعالى - ينفصل عنه ويكتسب وجوده الخاص به فكذلك هو النص الفني وكذلك يجب التعامل معه. فالنص كيان صادر عن المنشئ ومستقل عنه ولا بد أن تخضع دراسته لفكرة عزل " الموجود " عن " الموجِد "؛ وعلى هذا فأياً ما كانت عقيدة المنشئ ومنطلقاته ومراميه الفكرية فإن ذلك كله لا شأن له بالنص من حيث أنه نص فني يُدرَس بمعايير مجردة خاصة بالفن، وأن النص " لعبة " لغوية بالدرجة الأولى وليس "رسالة " هادفة، ومن ثم فإن قيمته وتميزه يكمنان في درجة إتقانه لقوانين اللعبة اللغوية.
وإذ تخلى الإنشاء الفني عن دوره في تشكيل الرؤى الفكرية العامة وتوجيهها فإنه قلّص مساحة انتشاره ومريديه وصار محط اهتمام مجموعة محددة من الناس منشغلة بدعوى المهارة واللعب اللغويين. ومن جهة أخرى فقد دفعت استقلالية النصوص عن منشئيها واستقلالها بعضها عن بعض بالنقاد والدارسين إلى العمل على إيجاد رابط يجمع شتات النصوص فكانت قوانين اللعبة اللغوية " الشكل " جامعة فيما بينها. وعلى الرغم من المساعي التي رمت إلى أن تفلسف تلك القوانين وأن تعطي الشكل دلالات معمقة لكي يتجاوز الذهن الثنائية المألوفة " الشكل والمضمون " إلا أن تلك الجهود لم تثمر عموماً في إشاعة " الوعي الشكلي " المعمق المطلوب فبقيت النظرة إلى الشكل ساذجة لدى الغالبية العظمى من المعنيين بالأدب وغارقة في تعبيرات إنشائية وغامضة بحيث لا يستخلص القارئ منها شيئاً قيماً أو ملموساً، وبقيت ثنائية الشكل والمضمون ماثلة باعتبار الشكل مقابلاً للمضمون على الرغم من المحاولات الهادفة إلى جعلهما "متماهيين" بعضهما في بعض. وطالما انقضى زمن المضمون وجاء زمن الشكل الذي انصرفت إليه عناية المنشئ فقد أصبحت المرامي متحررة من كل قيد والدلالات منفتحة على كل خاطر ومتلبّسة بكل صيغة.
ولقد أسهم هذا الفهم بكليته في إشاعة " العلمانية الأدبية " في المجتمع الإسلامي، ومن البساطة بمكان إدراك علمانية هذه الرؤية، فالإنتاجات الفنية تدرس وفقاً لقوانينها الخاصة بها والمنبثقة منها وطبقاً لتشكيلها الذي لا يشاركها فيه تشكيل آخر، إن الذي يحكم الإنتاج هو الإنتاج نفسه منعزلاً عما سواه. وبعد أن يستقر هذا المعنى في العقول والنفوس بوصفه أساساً ثقافياً مقبولاً فإنه يمهد للنظر إلى الإنسان المخلوق الإلهي وشريك النص، المخلوق البشري، في الحياة من خلال قوانينه الخاصة به لا من خلال نواميس الكون وقوانين خالقه. كما أنه يمهد وبطريقة مماثلة للنظر إلى الكتب المقدسة على أنها " نصوص " مجردة الصلة بمنزّلها! "كانت مهمة علماء اللاهوت المسيحي الجديد أكبر من التوثيق الحرفي للنصوص وأكبر من الدفاع عن معلومات قديمة عن الكون …الكتاب المقدس في نظرهم يخضع هنا لما يخضع له كل نص من أساليب الفحص الفيلولوجي والتاريخي. وليس للكتاب المقدس، فيما يقولون، مشكلات تأويلية خاصة به وإنما يتبع فيه من التأويل وشروطه ما يتبع في فحص أي نص آخر قانوني أو تاريخي أو أدبي" ([46]).
فأنت ترى أن الكتاب المقدس صار كأي كتاب آخر في القانون أو التاريخ أو الأدب، أي أنه فقد قدسيته في نظر هؤلاء أو يجب، في الأقل، أن تنحى قدسيته ليصبح بالإمكان فهمه وتأويله من خلال ذاتية قارئه وبالتركيز "على الجانب الوجودي من الفهم في تعلقه باللغة من حيث هي واقعة لا مفهوم مجرد…التأويل في دوائر اللاهوت المسيحي وثيق الصلة بما نجده في دوائر الأدب، كلاهما لا يعنيه نثر النص لتعويض ما قد ينقصه، بل يعنيه التركيز على الكلمة ذاتها بحيث تكون باب الفهم ووسيطه. اللاهوت المسيحي الجديد مثل فلسفة اللغة الجديدة تركز على الفهم من خلال اللغة وداخلها فاللغة هنا ليست مجرد أداة. لقد أصبح اللاهوت المسيحي نظرية في اللغة وفاعليتها"([47])، ومن الواضح أن هذا المفهوم متجه إلى تهميش الدين في حياة الإنسان بتحطيم قدسية ما يراه مقدساً، ومع أن مصطفى ناصف كان يعرض أراء هايدجر وكولنجود وغيرهما من الفلاسفة والمفكرين الغربيين فإن الأدباء العرب المنبهرين بكل ما هو غربي والمتطلعين إلى ما يقوله مفكرو الغرب تطلع التلميذ المبتدئ إلى أستاذ ضليع قد ساروا على هذه الخطى فظهر فيهم من لم يتورع عن الدعوة تصريحاً أو تلميحاً إلى إزاحة الدين عن حياة الإنسان وعن مهمته في قيادة تلك الحياة وإناطة هذا الدور بالشعر ([48])! وإلى رفع" الوصاية الدينية" عن النقاد وإتاحة الحرية لهم لدراسة الكتب المقدسة، ومنها القرآن الكريم، باعتباره كتباً أدبية لا غير!!
لقد كان الإسهام في إشاعة هذه العلمانية مقصوداً ومخططاً له بالنسبة إلى المجتمع الإسلامي لاستنزاف قوته وطاقته الداخلية العظمى، وكان المبشرون بهذا المفهوم على قسمين: قسم يدرك بوضوح ما يترتب على هذه الرؤية من نتائج فكرية وعقائدية سلبية وهدامة بالمعيار الإسلامي، وإنهم أوغلوا في عملهم من أجل تعميق الفجوة بين انتماء الإنسان الديني والقناعات الأدبية البراقة أو التي تم التطبيل لها على أنها الذروة نضجاً وعصرية. وقد أوضح بعض هؤلاء موقفه السلبي من الدين توضيحاً جلياً في كتاباته أو لقاءاته العلنية وظل البعض الآخر يهمس به في مجالسه الخاصة. وأما القسم الآخر، وربما كان أفراده هم الغالبية العظمى، فقد أشاع العلمانية الأدبية بصورة غير مقصودة، بمعنى أنهم كانوا يسايرون التيار السائد في الساحة الأدبية دون أن يحاولوا فهم حقيقة ما يجري وما يخطط له، أو أنهم كانوا يريدون أن يثبتوا حضورهم نقاداً للأدب ودارسين له ورأوا أن تحقيق هذا الحضور لا يتم إلا بهذه المسايرة فصاروا - وكما قلتُ في البداية- مهووسين بالمجد العاجل المزيف، بالمجد المبني على اللافهم أو التعامي، والملجم بلجام من نار.
([1]) أحمد محمد علي: الادب الاسلامي ضرورة ص 122.
([2]) سيد قطب : في التاريخ فكرة ومنها ج ص 28، محمد قطب: منهج الفن الاسلامي ص 6، د. أحمد محمد علي : الأدب الاسلامي ضرورة ص 63.
([3]) سورة ق آية (18).
([4]) رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ينظر النووي: رياض الصالحين ص428.
([5]) رواه الهندي في كنز العمال 3/352، وفي 3/353 روى "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت". ط1،1970، مكتبة التراث الاسلامي ، حلب.
([6]) سورة الشعراء الآية (224-227).
([7]) سورة الانشقاق، الآية 6-12.
([8]) جرجي زيدان : تاريخ آداب اللغة العربية 1/149.
([9]) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومتفق عليه ، ينظر النووي: رياض الصالحين ص29.
([10]) تراجع القصيدة في شرح ديوان الفرزدق ( لايليا حاوي) 2/353-356.
([11])الاصفهاني: الاغاني 20/423،ط1، دار احياء التراث العربي،1994.
([12]) البخاري : الادب المفرد 103-104 ، المطبعة النموذجية 1979م.
([13]) الاصفهاني: الاغاني 16/23 ط دار الكتب.
([14]) نفسه.
([15]) جرجي زيدان : تاريخ آداب اللغة العربية 1/547.
([16]) الحاكم النيسابوري : المستدرك على الصحيحين 1/539 ، وقد علق عليه بقوله :" هذا حديث صحيح على شرط الشيخين" .
([17]) من حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، ينظر النووي: رياض الصالحين ص223.
([18]) رواه مسلم عن ابن مسعود ، ينظر النووي : رياض الصالحين 447.
([19]) سورة البقرة الآية 261-265.
([20]) سورة النجم آية 32.
([21]) رواه الترمذي ، ينظر الشيخ منصور علي ناصيف : التاج الجامع للاصول في أحاديث الرسول 4/183-184 ، 1975، دار الفكر بيروت ،1975م.
([22]) ابن الجوزي : صفة الصفوة 2/56.
([23])الاصفهاني:الاغاني13/236-237.
([24]) شوقي ضيف:العصر العباسي الأول ص 169، وقد ذكر انه نقل النص من الاغاني 14/325 وما بعدها.
([25]) جرجي زيدان : تاريخ آداب اللغة العربية 1: 255-256.
([26]) أبن قتيبة : الشعر والشعراء 1/363؛ و " الإل" : القرابة .
([27]) ابو هلال العسكري: ديوان المعاني 1/178.
([28]) الحاكم النيسابوري : المستدرك على الصحيحين 1/540
([29]) آل عمران آية 134.
([30]) الشورى آية 37.
([31]) ينظر الشيخ منصور على ناصيف : التاج الجامع للأصول 5/47، وينظر 5/48.
([32]) رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، ينظر النووي : رياض الصالحين ص217.
([33]) إبراهيم آية 36.
([34]) رواه البخاري ومسلم من حديث أبن مسعود رضي الله عنه ، ينظر النووي: رياض الصالحين 219.
([35])جرجي زيدان : تاريخ آداب اللغة العربية 1/90-91.
([36])ابن قتيبة : الشعر والشعراء 1/305
([37])رواه البيهقي في السنن الكبرى 10/244 وقال : رواه البخاري عن عبيد الله بن موسى .
([38]) الذاريات آية 56.
([39]) إن هذا الاضطراب والقلق عامان في كل هذا الصنف ، ولا أريد أن أختصره في شخص واحد ، ولكن يمكن لنا مع ذلك أن نستأنس في هذا الشأن بالحطيئة الذي كان يخيف الناس بهجائه ويتعمد ارهابهم ليجني أموالهم ، وقد هجا كثيرين حتى إنه هجا أمه وأباه ونفسه ، فمن هجائه لأمه قوله :
تنحَّي فاقعدي مني بعيداً *** أراح الله منك العالمينا
ألم أوضح لك البغضاء مني *** ولكن لا إخالك تعقلينا
أغربالاً إذا استودعت سراً *** وكانوناً على المتحدثينا
جزاك الله شراً من عجوز *** ولقّاك العقوق من البنينا
حياتك ما علمت حياة سوءٍ *** وموتك قد يسر الصالحينا
ومن هجائه لأبيه قوله:
لحاك الله ثم لحاك حقاً *** أباً ولحاك من عمّ وخال
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي *** وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم لا حيّاك ربي *** وأبواب السفاهة والضلال
وقال في هجاء نفسه :
أبت شفتاي اليوم ألا تكلما *** بسوءٍ فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهاً شوّه الله خلقه *** فقُبِّح من وجه وقُبِّح حامله
ينظر : ابن قتيبة : الشعر والشعراء 1/323-324.
([40]) وراه مسلم من حديث أبي يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه ، ينظر النووي: رياض الصالحين ص42.
([41]) البقرة آية 216.
([42])النور آية 40.
([43]) التفاتا إلى تعليقات مصطفى ناصف على هذه القضية في : نظرية التأويل ص 190، 191.
([44]) د. عماد الدين خليل : في النقد الاسلامي المعاصر ص26،27.
([45]) مصطفى ناصيف : نظرية التأويل ص18.
([46])مصطفى ناصف: نظرية التأويل ص36.
([47])مصطفى ناصف : نظرية التأويل ص37
([48])يقول أدونيس في أغاني مهيار الدمشقي : إنني نبيّ وشكاك/ أعجن خميرة السقوط، أترك الماضي في سقوطه واختار نفسي/ أفلطح العصر وأصفّحه، أناديه أيها العملاق المسخ، أيها المسخ العملاق وأضحك وأبكي / إنني حجة ضد العصر. الآثار الكاملة 1/356 ؛ وينظر المصدر نفسه 1/46؛ 1/ 413 ولاحظ أن العنوان الذي اختاره لقصيدته ذو دلالة خاصة في هذا السياق وهو "الإله المميت: الخيانة"! 1/289 وغيرها . وعلق الدكتور أحمد بسام ساعي على أن هذا الاتجاه في شعر أدونيس المستمد من مصادر دينية بقوله : " وإذن فصوفيته دعوة عقلانية إباحية لا دينية، على الرغم من أنه يستمدها من مصادر قد تتسم بالطابع الديني، وهي صوفية تلغي الإله، وتجعل من الفرد إلهاً حين يتحد مع الكون فلا خالق ولا مخلوق" ينظر حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه ص511. ويعلق الدكتور ساعي في موضع آخر ص 338 على موقف الشعراء من الرموز الدينية بقوله:"فموقف الشاعر السوري الحديث –على الأغلب- هو موقف معادٍ للتراث، كثير ما نجده منصرفاً إلى تحطيمه في قصائده بشتى السبل. وهذا التحطيم يؤدي إلى استعمال الرموز التراثية العربية استعمالاً سلبياً يحطم من خلاله ما يمكن أن تحمله تلك الرموز من معانٍ مثالية … وكان تحطيمه موجهاً بشكل خاص إلى رموز الدين الإسلامي والشخصيات الإسلامية أو العربية البارزة … ورأى الشاعر الحديث في هذه الرموز صوراً للتأخر الفكري والسياسي والحضاري وللتقاليد البالية وللعقلية العربية القديمة التي يثور الشاعر عليها، إنه يسقط كل ما يشكو العرب منه في العصر الحديث من تأخر وانحطاط على تلك الشخصيات". وهذا في حقيقة الحال موقف معظم الشعراء العرب لا السوريين فقط.