عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 08-07-2020, 12:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة : Egypt
افتراضي رد: القصور في طلب العلم: أسبابه وعلاجه

وأمَّا الآثار الواردة عن السلف في فضْلِ العلم، وفي تفْضيلهم له على سائر العبادات والنوافل فمنها:
1 - قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: الناس ثلاثة: عالِم رباني، ومتعَلِّم على سبيل نجاة، وهَمَج رعاع، أتْباع كل ناعق، يميلون مع كلِّ ريح، لَم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ، العلم خيْرٌ من المال، العلم يحرُسك، وأنت تحرُس المال، العلم يزْكُو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقةُ، العلمُ حاكم، والمال مَحْكوم عليه، ومحبة العلم دِين يُدان بها، العلمُ يُكْسِب العالِم طاعةً في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزوالِه، مات خُزَّان المال، وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقيَ الدَّهْر، أعيانُهم مفْقودة، وأمثالهم في القلوب موْجُودة.

وقال أيضًا - رضي الله عنه -: كفى بالعلم شرفًا أنْ يَدَّعيه مَن لا يُحسنه، ويفرح به إذا نُسب إليه، وكفى بالجهل ذمًّا أن يَتَبَرَّأ منه مَن هو فيه.

وكان عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول إذا رأى الشباب يطلبون العلم: مرْحبًا بِيَنابيع الحكمة، ومصابيح الظلَم، جدد القلوب، حلس البيوت، ريحان كلِّ قبيلة.

وقال معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: تعلَّموا العلم؛ فإنَّ تعلُّمَه لله خشية، وطلَبَه عبادة، ومُدارسته تسْبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لِمن لا يحسنه صدَقة، وبذْله لأهله قُربة، به يُعرَف الله ويُعبَد، وبه يُوَحَّد، وبه يُعرف الحلال من الحرام، وتُوصل الأرحام، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلْوة، والدليل على السراء، والمُعين على الضرَّاء، والوزير عند الأخِلاَّء، والقريب عند الغُرباء، ومنار سبيل الجنة، يرفع اللهُ به أقوامًا، فيجعلهم في الخير قادةً وسادة، يُقتدى بهم، أدلَّة في الخير تُقْتَصّ آثارُهم، وتُرْمَق أفعالهم، وتَرْغَب الملائكة في خلَّتِهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس، حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، والسماء ونجومها، والعلمُ حياة القلوب من العمَى، ونور للأبصار من الظلَم، وقوة للأبدان من الضعف، يبلغ به العبدُ منازل الأبرار والدرجات العُلى، والتفَكُّر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، وهو إمام للعمل، والعمل تابعه، يُلهَمه السعداء، ويُحْرمُه الأشقياء.

وقال الشافعي وأبو حنيفة - رحمهما الله -: إن لَم يكن الفقهاء العاملون أولياء الله، فليس لله وليّ.

وقال عمر - رضي الله عنه -: أيها الناس، عليكم بالعلم؛ فإنَّ لله - سبحانه - رداءً يحبه، فمَن طلبَ بابًا من العلم ردَّأه الله برِدائه، فإن أذنب ذنبًا استعتبه؛ لئلا يسلُبه رداءه ذلك حتى يموت به.

وجاء في الحديث: ((مَن جاءه الموتُ، وهو يطلب العلمَ؛ ليُحيي به الإسلام، فبيْنَهُ وبين الأنبياء في الجنة درجة النبُوة)).

قال ابن القيم - رحمه الله - في "مفتاح دار السعادة" 1/396:
وهذا - وإن كان لا يثبت إسناده - فلا يبعد معناه من الصِّحَّة.... فمَن طلب العلم؛ ليُحيي به الإسلام، فهو من الصِّدِّيقين، ودرجته بعد درجة النبُوَّة؛ اهـ.

وقال ابن عباس وأبو هريرة، وبعدهما أحمد بن حنبل: تذاكُرُ العلم بعض ليلة أحبُّ إلينا من إحيائها.
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: العالِم أعظمُ أجْرًا من الصائم القائم الغازِي في سبيل الله.
وقال أبو هريرة وأبو ذر - رضي الله عنهما -: بابٌ منَ العلم نتعلّمُه أحبُّ إلينا من ألْف ركعة تطوُّعًا، وباب من العلم نُعَلِّمُه - عُمل به، أو لَم يُعملْ به - أحبُّ إلينا من مائة ركعة تطوُّعًا.
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: لأنْ أعلم بابًا منَ العلم في أمْرٍ أو نَهْي أحبُّ إليَّ مِن سبعين غزوة في سبيل الله.
وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: مُذاكرة العلم ساعة خيْرٌ من قيام ليلة.
وقال الحسَن - رضي الله عنه -: لأن أتعلَّم بابًا من العلم فأُعلِّمه مسلمًا، أحبُّ إليَّ مِن أن يكونَ لي الدُّنيا كلها، فأُنفقها في سبيل الله.
وقال سعيد بن المسيب - رحِمه الله -: ليستْ عبادة الله بالصَّوم والصلاة، ولكن بالفِقْه في دينه.
وقال وهب بن منَبِّه: يتشَعَّب من العلمِ الشرَفُ، وإن كان صاحبه دنيًّا، والعز وإن كان مهِينًا، والقرْب وإن كان قصيًّا، والغِنَى وإنْ كان فقيرًا، والمهابة وإن كان وضِيعًا.
وقال سفيان بن عيينة: أرْفعُ الناس عند الله منْزلة مَن كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياءُ والعلماء.
وقال أيضًا: لَم يُعطَ أحَدٌ في الدنيا شيئًا أفضل منَ النبوة، وما بعد النبوة شيء أفْضل من العلم والفقه، فقيل: عمَّن هذا؟ قال: عن الفُقهاء كلهم.
وعن سفيان الثَّوْري والشافعي - رحمهما الله - قالا: ليس بعد الفرائض أفضل مِن طلَب العِلْم.
وقال رجلٌ لابنه: يا بني، عليك بمُجالسة العلماء، واسْمع كلام الحُكماء؛ فإنَّ الله ليُحيي القلبَ الميت بنور الحكمة، كما يُحيي الأرض الميتة بوابل المطر.

والسبب الثاني مِنْ أسباب عُزُوف أكثر الطلَبة عن طلب العلم هو: انشغالُهم بتحْصِيل الرزق والكَدِّ فيه.

فهذه هي الآفة الثانية، والمرَض الفتَّاك والعازف الثاني عن طلَبِ العلْم الشرعي، فتجدُ كثيرًا من الناس يكون - والعياذ بالله - حمارًا بالنهار، جيفة بالليل، مِن شدة طلبِه للرِّزق، فتجد مثل هؤلاء متى وجدوا إلى المالِ سبيلاً بذَلُوا إليه قلوبهم وأفكارهم وحياتهم، كل حياتِهم.

وهذه - والله - آفةٌ عظيمة، ولقد رأيتُ - والله - الكثيرينَ بسببها يترُكُون أشْرف مطلوب، يتركون طلَب العلم الشرعي؛ جرْيًا وراء أخسِّ مطلوب؛ الدُّنيا!

فتجد مثْل هؤلاءِ - وقد يكونون في بداية أمْرِهم من طلَبة العلم - إذا وقعوا في أدنى وأقل مقارنة بين أمرٍ من أمور الدنيا - قد يكون منَ التفاهة بمكان - وبين درس يحضُرونه، وينفعهم في آخرتهم، انْصرفوا إلى الدنيا، فيهربون من الدَّرس، وكأنهم قد فُكُّوا مِن عقال، وكأنهم كانوا في انتظار هذا الأمر ليُفَكُّوا من رقِّ التعلُّم.

إخواني، لماذا دائمًا نُعطِي الدَّنيَّة في ديننا؟ لماذا دائمًا إذا وقعْنا في مقارنة بين الدُّنيا والآخرة اخترْنا الدنيا؟ لماذا لا نختار الدِّين مرةً واحدة في حياتنا، حتى نُحَصِّل سعادة الدارَيْن؛ الدنيا والآخرة؟


نعم، ففي تحصيل العلم النافع والعمل به تحقيقُ السعادة الحقيقية؛ يقول ابن القيِّم - رحمه الله -: السعادة الحقيقية هي سعادة العلم النافع ثمرته؛ فإنَّها هي الباقية على تقلُّب الأحوال، والمصاحبة للعبد في جميع أسفاره، وفي دوره الثلاثة - أعني: دار الدُّنيا، ودار البرزخ، ودار القرار - وبها يرتَقي معارج الفضْل ودرجات الكمال؛ اهـ.

ولعلاج هذه الآفة الخطيرة - أخي طالب العلم - عليك أن تعلَمَ:
أولاً: أن مَن يَسَّر الله له طريق العلم، فأعرَض عنه، ولَم يُلقِ له بالاً، فهو مُعَرَّض لِعُقوبة الله - سبحانه - وسخَطه وعذابه.
قال بعض السلَف: مَن حجب اللهُ عنه العلم عذَّبه على الجهل، وأشد منْه عذابًا مَن أقبل عليه العلمُ فأدْبر عنه، ومَن أهدى الله إليه عِلْمًا، فلمْ يعمَلْ به.
ثانيًا: واعلَموا أيضًا أنَّ هذا مِن الفتنة والاختِبار، والذكي الفَطِن هو الذي يختار دينَه، ويقدمه على دُنياه، وإن كانتْ هذه الدنيا قد أَتَتْه بأجمل زينتها، وانظروا إلى ما ورَد عن سلفنا الصالح في تفْضيلهم للعلم الشرعي على سائر الملَذَّات والشهَوات:
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لما فُتِحَت المدائن أقْبل الناس على الدنيا، وأقبلْتُ على عمر - رضي الله عنه.

لما فُتحت البلادُ بسبب الغزو في سبيل الله، أقْبَل كثيرٌ من الناس على الدُّنيا، إلا أنَّ ابن عباس كان كيِّسًا فطِنًا، فأقبَل على عُمر؛ يَتَعَلَّم منه دينه.

قال الشاعر:
لِكُلِّ بَنِي الدُّنْيَا مُرَادٌ وَمَقْصِدٌ
وَإِنَّ مُرَادِي صِحَّةٌ وَفَرَاغُ

لِأَبْلُغَ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ مَبْلَغًا
يَكُونُ بِهِ لِي لِلْجِنَانِ بَلاَغُ

وَفِي مِثْلِ هَذَا فَلْيُنَافِسْ أُولُو النُّهَى
وَحَسْبِي مِنَ الدُّنْيَا الغَرُورِ بَلاَغُ

فَمَا الْفَوْزُ إِلاَّ فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدٍ
بِهِ العَيْشُ رَغْدٌ وَالشَّرَابُ يُسَاغُ



وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مُقارنًا بين المال والعلم: العِلْمُ خير منَ المال؛ العلْمُ يحرُسك وأنت تحرُس المال، العلم يزكو على الإنفاق والمال تنقصه النفَقة، العلم حاكم والمال محكوم عليه، ومحبة العلم دِينٌ يُدان بها، العلم يكسب العالِم طاعةً في حياته، وجميل الأُحْدُوثة بعد وفاتِه، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خُزَّان المال، وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقِي الدهرُ، أعيانُهم مفقودة، وأمثالُهم في القلوب موْجُودة.

وقال رجل للحسن: يا أبو سعيد، فقال له: كَسْب الدوانيق شغَلك عن أن تقول: يا أبا سعيد.

ثالثًا: أن تنظرَ إلى ما بذله السلف الصالح في سبيل تحصيل هذا العلم:
قال ابن القاسم - رحمه الله -: أفضى بِمالِكٍ طلبُ الحديث إلى أن نقضَ سقف بيته، فباع خشبَه.

وهذا يحيى بن معين - رحمه الله - خلف له أبوه ألف ألف دِرْهم، فأنفقها كلها على تحصيل الحديث، حتى لَم يبقَ له نعْل يلبسه.

وقال سليمان العامري:
وَقَائِلَةٍ: أَنْفَقْتَ فِي الكُتْبِ مَا حَوَتْ
يَمِينُكَ مِنْ مَالٍ، فَقُلْتُ: دَعِينِي





رابعًا: أن تعلمَ أن العلم الشرعي يفتح لك باب الرِّزق:
ففي الأثر: أن رجلاً دخل على عبدالعزيز بن مروان يشكو صهرًا، فقال: إن ختَني فعل كذا وكذا، فقال له عبدالعزيز: ومن خَتَنَك؟ قال: الختان الذي يختن الناس، فقال عبدالعزيز لكاتبه: ويحك، بِمَ أجابني؟ فقال: أيها الأمير، إنك لحنتَ، وهو لا يعرف اللحن، كان ينبغي أن تقول: من خَتَنُك؟


فاشتغل عبدالعزيز حتى صار مِنْ أفصح الناس، وكان يعطي على العربية، ويحرم على اللحن، فكان الرجل يأتيه، فيقول له: ممن أنت؟ فيقول: من بني فلان، فيقول لكاتبه: أعطه مائتي دينار.

ودخل عليه رجل من بني عبدالدار، فقال له: ممن أنت؟ فقال: من بنو عبدالدار، فقال: تجدها في جائزتك، فأمر له بمائة درهم.

ويقول أبو يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة - رحمهما الله -: توفِّي أبي إبراهيم بن حبيب، وخلفني صغيرًا في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصَّار أخدمه، فكنت أدع القصار، وأمُرُّ إلى حلقة أبي حنيفة، فأجلس أستمع، فكانتْ أُمِّي تجيء خلْفي إلى الحلقة، فتأخذ بيدي، وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يُعنَى بي؛ لِمَا يرى مِن حضوري، وحِرْصي على التعلُّم، فلما كثُر ذلك على أمي، وطال عليها هربي قالتْ لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسبَ دانقًا يعود به على نفسه، فقال لها أبو حنيفة: مُرِّي يا رعناء، هذا هو ذا يتعَلَّم أكل الفالُوذَج بدُهْن الفُسْتق، فانصرفتْ عنه، وقالت له: أنت شيخ قد خرِفتْ، وذهبَ عقلُك.

ثم لزمتُه، فنفعني الله بالعلم، ورفعنِي حتى تقلدتُ القضاء وكنتُ أُجالس الرشيد، وآكل معه على مائدته، فلمَّا كانتْ في بعض الأيام قدَّم إليَّ هارون فالوذَجة، فقال لي هارون: يا يعقوب، كُل منه، فليس كل يوم يُعمل لنا مثلُه، فقلت: وما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذه فالوذَجة بدُهن الفُسْتق، فضحِكْت، فقال لي: ممَّ ضحكْت؟ فقلت: خيرًا، أبقى الله أمير المؤمنين.

قال: لتخبرني، وألَحَّ عليَ، فخبَّرتُه بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك، وقال: لعمري، إنَّ العلم ليَرْفع، وينفع دينًا ودُنْيا، وترحَّم على أبي حنيفة، وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه.

خامسًا: أن تعلمَ أنك بحرصك على طلب العلم الشرعي سيكْفيك الله - سبحانه وتعالى، ويبارِك لك في رزقك:
وهذا سفيان الثوري - رحمه الله - يقول: لَمَّا أردتُ أن أطلبَ العلم قلتُ: يا رب، إنه لا بد لي من معيشة، ورأيتُ العلم يدرس، فقلتُ: أفَرِّغ نفسي لطلبه، قال: وسألت ربي الكفاية.

وعزم على طلب العلم، حتى كفلتْ له والدتُه الإنفاق عليه، فقالتْ: يا بني، اطْلُبِ العلم، وأنا أكفيك بمغْزَلِي.

فلما صدقتْ نيته - رحمه الله - وعزم بجدٍّ على التحصيل، يسَّرَ الله له أمْر الطلب، حتى أصبح أمير المؤمنين في الحديثِ.

سادسًا: أن تعلمَ مقدار مجلس العلم الذي تتركه، وتُفرط فيه، مِن أجل هذه الدُّنيا الفانية الزائلة عنك، ولا محالة:
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مررتم برياض الجنة، فارْتعوا))، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: ((حِلَق الذكر)).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ لله - تبارك وتعالى - ملائكةً سيَّارة فُضُلاً، يتبعون مجالس الذِّكر، فإذا وجَدوا مجلسًا فيه ذِكْر قعَدُوا معهم، وحفَّ بعضُهم بعضًا بأجنحتهم حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدُّنيا، فإذا تفرَّقُوا عرجوا، وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله - عز وجل - وهو أعلم بهم - من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادٍ لك في الأرض، يسبِّحونك، ويكبِّرونك، ويُهلِّلونك، ويحمدونك، ويسألونك، قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا، أي رب، قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: وممَّ يستجيرونني؟ قالوا: مِن نارك يا رب، قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرتُ لهم، فأعطيتهم ما سألوا، وأجرْتُهم مما استجاروا، قال: فيقولون: رب، فيهم فلانٌ عبد خطَّاء، وإنما مرَّ فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرتُ، هم القوم لا يشقَى بهم جليسُهم)).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من قوم يجتمعون في بيت من بيوت الله، يتعلَّمون القرآن، ويتدارسونه بينهم، إلا حفَّتهم الملائكة، وغشِيتهم الرحمة، وتنَزَّلت عليهم السَّكينة، وذَكَرَهُمُ الله فيمَن عنده)).

وقال سهل بن عبدالله التُّسْتري: مَن أراد النظر إلى مجالس الأنبياء، فلْينظُر إلى مجالس العلماء.

قال ابن القيِّم - رحمه الله - في "مفتاح دار السعادة" 1/391:
وهذا لأنَّ العلماء خلفاء الرُّسل في أمَمهم، ووارثوهم في علمهم، فمجالسهم مجالس خلافة النبوة؛ اهـ.

سابعًا: أن تعلمَ أنَّ الانصراف إلى الدُّنيا، وترْك تعلُّم العلْم الشرعي نوعٌ منَ الدنُو والنُّزول إلى السفْل:
فلقد وصَف الله - سبحانه - في كتابِه عبادَه في هذه الدُّنيا أتَمَّ وصْفٍ، فوَصَفَهُم - عز وجل - بالانخراط في الدُّنيا، وإهمال تعلُّم شرع الله، والعمل به؛ فقال - سبحانه -: ﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ [المؤمنين: 63].
ففي أمور الآخرة القلوب منغمرة عنها، وأمَّا أعمال الدُّنيا الدَّنيَّة فهم لها عاملون.

وأما السبب الثالث من أسباب ترْكِ طلَب العلم فهو: ما يُلاقيه بعضُ الطلبة من المشَقَّة في طلب العلم، سواء في ذلك المشَقَّة البدنيَّة، أو المشقة الذِّهنيَّة.

فالمشقة البدَنية كأن يكون مكانُ الدَّرس بعيدًا عنه جدًّا، فيشق عليه الذهاب إليه، وكأن يكون موعد الدرس غير مناسب له، فيكون مثلاً متأخرًا، ولو حضر الدرس لَم يجدْ مواصلة تعيده إلى بيته، أو أعادته إليه متأخرًا... إلى غير ذلك من أنواع المشقات البدَنيَّة التي يُلاقيها طالب العلْم.

والمشَقَّة الذهنية كأن يكون عند الطالب صُعوبة في فهم مادة شرعية معيَّنة، وذلك كعِلم النحو الذي يُعاني مِن صعوبة فهْمه أكثرُ الطلبة.

وأنا أقول في الجواب عن هذا:
أولاً: لتعلم - أخي طالب العلم - أنَّ المشقَّة في تحصيل العلم هي أمْر كوني، وسُنة كونية لا بُدَّ منها، فطلَبُ العلم قرين المشقَّة، والمشقة قرينة طلب العلم، لا يفترقان أبدًا، فالقاعدةُ العريضةُ التي لا استثناء فيها: أنه لا يُستطاع العلم براحة الجسد، وأنَّ مَن طلَب العِلْم سهر الليالي، وأنَّ العلم لن يُعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك، وأنَّ مَن طلَب الراحة بالعلم ترَك الراحة البدَنيَّة، وانظر إلى ما يلي من الآثار عن سلَفِنا الصالح في ذلك:
قال الأصمعي: مَن لَم يحتمل ذُل التعلُّم ساعة، بقِي في ذُلِّ الجهْل أبدًا.

وعن بعض السلَف قال: مَن لَم يصبرْ على ذُلِّ التعلُّم، بقي عمره في عماية الجهالة، ومَن صبر عليه آل أمرُه إلى عزِّ الدُّنيا والآخرة.

وقال أبو الفرج ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: تأمَّلتُ عجبًا، وهو أن كلَّ شيء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعبُ في تحصيله، فإنَّ العلم لَمَّا كان أشرف الأشياء، لَم يحصل إلا بالتعَب، والسهر، والتكرار، وحجر اللذات والراحة، حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر؛ لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس؛ اهـ.

وقد أحسن القائلُ في ذلك:
فَقُلْ لِمُرَجِّي مَعَالِي الأُمُورِ
بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ رَجَوْتَ المُحَالاَ



وقال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير: لا ينال العلم براحة الجسم.

وقد قيل: من طلب الراحة ترَك الراحة.

وقال الشاعر:
فَيَا وَصْلَ الحَبِيبِ أَمَا إِلَيْهِ
بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ أَبَدًا طَرِيقُ





ولقد كان أهل العلم - رحمهم الله تعالى - يلاقون المصاعب والشدائد في تحصيلهم للعلم، نصح الإمام ابن هشام النحوي - رحمه الله - صاحب كتاب "القطر"، و"المغني" وغيرهما - طلبة العلم بالصبر على مشاقِّ العلْم والتحصيل؛ إذ هو شرْط في نيْل المراد العزيز الغالي؛ فيقول:
وَمَنْ يَصْطَبِرْ لِلْعِلْمِ يَظْفَرْ بِنَيْلِهِ
وَمَنْ يَخْطُبِ الحَسْنَاءَ يَصْبِرْ عَلَى الْبَذْلِ

وَمَنْ لَمْ يُذِلَّ النَّفْسَ فِي طَلَبِ العُلَى
يَسِيرًا يَعِشْ دَهْرًا طَوِيلاً أَخَا ذُلِّ





وأنا أَذْكُر عن نفسي - أي: أبي أنس - أنِّي في بداية طلب العلم، مكثْتُ ما يقرب من سنة أعاني من صعوبة شديدة في فهْم علم النحو، ومع ذلك كنتُ أحرص على حُضُور درسه، حتى مَنَّ الله عليَّ بالفَهْم، فالحمدُ لله على إنعامِه.

فعليك يا طالب العلم أن تجِدَّ في التحصيل، فإنَّ الأمر كما قال ابن الجنيد: ما طلب أحدٌ شيئًا بجد وصدق إلا ناله، فإن لَم ينلْه كله نال بعضه.

ولقد كان العلامة محمود شكري الآلوسي البغدادي الحفيد يمتاز بالجد الشديد، والحِرْص على الوقت، فكان لا يثنيه عن دروسه حمارَّة القيظ، ولا يؤخِّره عنها قرْص برد الشتاء، وكثيرًا ما تعرَّض تلاميذه بسبب تأخُّرهم عن موعد الدرس إلى النقد والتعنيف.

قال عنه تلميذه العلامة بهجة الأثري: أذكر أنني انقطعتُ عن حضور درسه في يوم مزعج، شديد الريح، غزير المطر، كثير الوحل، ظنًّا منِّي أنَّه لا يحضر إلى المدرسة، فلمَّا شخصت في اليوم الثاني إلى الدرس، صار ينشد بلهجة غضبان:
وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ عَاقَهُ الحَرُّ وَالبَرْدُ

ثانيًا: لتعلم أخي طالب العلم أنه وبالرغم من هذه المرارة وهذا التعب الذي تجده في طلب العلم، إلا أنَّ الله - سبحانه - قد مزج هذه المرارة بحلاوة ولذَّة لا تجدها إلا في السَّعْي لطلَب العلم، واسْمع إلى ما يقولُه علماءُ السلَف - رحمهم الله - في ذلك:
قال ابن أبي حاتم: سمعتُ المزَنيّ يقول: قيل للشافعي: كيف شهوتك للعلم؟ قال: أسمع بالحرف - أي: بالكلمة - مما لَم أسمعه، فتودُّ أعضائي أنَّ لها أسماعًا تتنعم به ما تنعَّمت الأذنان.

فقيل له: كيف حِرْصك عليه؟
قال: حرصُ الجَمُوع المنوع في بلوغ لذته للمال.

فقيل له: فكيف طلبك له؟
قال: طلب المرأة المضلَّة ولدها، ليس لها غيره.

وقال الزمخشري - رحمه الله - واصفًا تلذُّذ العلماء بإيقاظ ليلهم، وطول سهرهم:
سَهَرِي لِتَنْقِيحِ العُلُومِ أَلَذُّ لِي
مِنْ وَصْلِ غَانِيَةٍ وَطِيبِ عِنَاقِ

وَتَمَايُلِي طَرَبًا لِحَلِّ عَوِيصَةٍ
أَشْهَى وَأَحْلَى مِنْ مُدَامَةِ سَاقِي

وَصَرِيرُ أَقْلاَمِي عَلَى أَوْرَاقِهَا
أَحْلَى مِنْ الدُّوكَاءِ وَالعُشَّاقِ




وبهذا ينتهي ما أردتُ بيانَه، واللهَ أسأل أنْ يجعل في هذه الكلمات النفع، وأن يكون حافزًا لإخواني في تحصيل العلم الشرعي.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.01 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.38 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.43%)]