شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (37)
صـــــ301 إلى صــ312
[باب الغسل]
قوله رحمه الله: [ويَتَوضّأ بِمُدِّ]: بعد أن بيّن -رحمه الله- صفة الغسل الكاملة،
والمجزئة يسأل السائل: ما هو هدي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الماء الذي يُغتسل به؟
فقال رحمه الله: [ويتوضأ بمُدٍّ، ويَغْتَسِلُ بِصَاعٍ]: قوله: [يَتَوضَّأ بِمُدٍّ]،
المدُّ: هو ضربٌ من المكاييل التي كانت في زمان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان هناك المدّ، وهو أصغرها، وضابطه عند العلماء (مِلءُ اليَدينِ المتَوسِطَتَين، لا مَقْبُوضَتَيْن، ولا مَبْسُوطَتَين) يعني أوسط الرجال لو حفن حَفْنةً ملأت هذا المدَّ وهذا المدُّ مازال موجوداً إلى الآن في المدينة، ويتوارثه الناس من زمانه عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا، ويُعْتبر حجة؛ لأنه من نقل الكافّة عن الكافّة كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، وبيّن أنه مما توافرت الدواعي لحفظه،
وهو: ربع صاع بالنسبة لمدِّ المدينة، وعرف المدينة باقٍ على الأصل وقد حرّرت ذلك بنفسي بالنّقل عن كبار السن،
وعندهم طريقة: أنه إذا صنع الصّانع المدَّ لا بد من أن يُحرّر، والتَّحْرير أنهم يأخذون صاعاً قديماً حُرّر على أقدم منه، وهكذا حتى يضبطوه؛ ولم تكن عندهم المعايير المنضبطة مثل التي في المصانع الآن، فالصاع رُبَّما وسَّعه الصَّانع،
وربما ضيَّقه ففي بعض الأحيان عند تَحْريره للمدِّ الجديد يقول لك: هذا المد مَسْح أي: إذا امتلأ الطعام إمسحه، ولا تزد،
وفي بعض الأحيان يقول لك: إملأه حتى يتساقط يعني أن تحريره، وضبطه: أن تملأه حتى يتناثر،
والمدُّ يعدل ربعَ الصَّاع والصاع النبوي هو: صاع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو أربعة امداد يعني من كل مدّ الذي هو ملءُ اليدين المتوسطتين لو ملأت بها أربع مرات، أو حثوت بها أربع مرات طعاماً، أو تراباً ملأت الصّاع،
وهذا الصّاع كما قلنا وِحْدَة من الكيل فوق المدّ تارة يقولون للمد الصغير: هذا صاع نبوي، ولكن المشهور الصاع الكبير، ويسمونه ربع صاع.وكذلك -أيضاً- هناك وحدة ثالثة مشهورة في زماننا وهي المدّ الكبير،
والمدُّ الكبر ثلاثةُ أضعاف الصّاع يعني: ثلاثة آصع تملأ المد الكبير، وهو الذي يُسَمى في زمان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـ[الفَرَقْ] وهو الوارد في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له في فدية الأذى في النُّسك: [أَطْعِمْ فرَقاً بَيْنَ سِتّةِ مسَاكينَ] فالفرق: المدُّ الكبيرُ،
وعليه إذا كان يسع الثلاثة آصع فمعناه: أنه إِثنا عَشَر مداً صغيراً، والمراد بالمدِّ الوارد في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها المتقدم المدُّ الصغيرُ، وليس المدّ الكبير المشهور في زماننا،
وكذلك ورد عنه عليه الصلاة والسلام: [أنه إِغْتَسلَ بإناءٍ قَدْرَ الحِلاب] والمراد بقدر الحلاّب أي: الإناء الذي يسع حليب الناقة لو حُلِبت ملأته، وهذه ضوابط العرب في القديم؛ أحياناً يقدّرون بمثل هذا، وأحياناً يقدّرون بشيء تقريبي وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه اغتسل إلى خمسة أمدادٍ من المدِّ النبوي الصغير الذي ذكرناه، وكلُّ هذا على التخيير، وهدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس ملزماً؛ لأنه دلالة فعل، بمعنى لا يلزمك، ولا يجب عليك أن تلتزم بالصاع، أو بالحلاب، أو بخمسة أمداد، بل في بعض الأحيان لو اغتسل الإنسان بالصاع ربما أخلّ فلا تُطْلَبُ السُّنة بضياع الفرض؛ وإنما يغتسل بالصاع من يَضْبِطُ الماءَ، ويُحْسِن صَبّه على البدن فالمقصود إذا تيسر للإنسان أن يصيب هذه السُّنة فليصبها، وهو أفضل تأسّياً به عليه الصلاة والسلام، وإذا لم يتيسر له، فإنه لا حرج عليه في الزيادة، دون إسراف.
قال رحمه الله: [فإِنْ أَسْبغَ بِأَقَلَّ] أسبغ بمعنى عمّم أو استوعب أعضاء الفرض ومراده: أن هذا القدر ليس بواجب أن يلتزمه، فلا حرج إذا إغتسل بأقل منه، مثل الصبي الذي هو في الخامسة عشر من عمره، أو الإنسان صغير الحجم قد يستطيع بأقل من الصاع أن يعمّم بدنه، فليس مراده أن يغتسل بالصَّاع للإلزام فجاء بهذه العبارة حتى يفيد أنه للندب، والاستحباب لا للحتم، والإيجاب.
وقوله رحمه الله: [أو نَوى بِغُسْلِه الحَدَثيْنِ أَجْزَأَهُ]: مراده: أن ينوي بغسله رفع الحدثِ الأصغرِ،
والأكبرِ فإنه يُجزيه لظاهر السُّنة في قوله عليه الصلاة والسلام: [وإِنما لِكُلّ إِمْرِئٍ ماَ نَوى] فلا يلزمه وضوء بعد غسله، وله أن يصلي مباشرة كما فعل عليه الصلاة والسلام، في إغتسالاته.
وقال بعض العلماء: إنه يجزيه مطلقاً نوى، أو لم ينو،
والأقوى: أنه إذا نوى يجزيه،
وهذا بالإجماع أي: أنّ من اغتسل ناوياً رفع الحدثين أنه يجزيه، ويرتفع حدثاه الأصغر، والأكبر، وإذا وقع الوضوء في الغسل أجزأه قولاً واحداً؛
لكن عند أبي ثور رحمه الله: أنه يجب عليه أن يتوضأ أثناء الغسل، وهذا القول يعتبر من مفردات أبي ثور، وهو الإمام الفقيه إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي -رحمة الله عليه- كان من أصحاب الشافعي ثم اجتهد،
قال عنه الإمام أحمد: (أعرفه بالسُّنة منذ ثلاثين عاماً) -رحمة الله عليه- فهذا الإمام الجليل يرى أن الوضوء في الغسل واجب، ولكنه قول مرجوح، بل قال بعض العلماء رحمهم الله إنه شاذّ،
فلا يؤثر في الإجماع المنعقد أنه لا يجب الوضوء في الغسل وذلك لظاهر القرآن في قوله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ولم يوجب الله الوضوء،
ولما ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها الذي ذكرناه أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: [إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلى رَأسِكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ] هذا الحديث من أهمّ أحاديث الغسل، ولذلك أقول -رضي الله عن أم سلمة وأرضاها-، -ونسأل الله العظيم أن يُعْظِم أجرها بهذا الحديث- وانظروا كيف يظهر فضل سؤال العلماء، فإن هذا الحديث دفع إشكالات كثيرة في الغسل من الجنابة وأزال اللبس في كثير من الأمور التي قيل بوجوبها، وهي ليست بواجبة، وما كان هناك مخرج إلا بهذا الحديث، وهذه فائدة سؤال العلماء فقد سألت أم سلمة -رضي الله عنها- رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالت -يا رسول الله- إِنّي إمرأة أَشُدُّ ضَفَرَ شَعْر رَأسِي، أَفَأَنْقُضُهُ إذا اغْتَسَلْتُ مِنَ الجَنَابَةِ؟
قال: [لا، إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأسِكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ، ثُمّ تُفِيضِينَ الماءَ عَلى جَسَدِكِ فإِذَا أَنتِ قَدْ طَهُرتِ] يستفاد منه ما لا يقل عن عشرين مسألة من مسائل الغسل من الجنابة -رضي الله عنها وأرضاها-.
قوله رحمه الله: [ويُسَنّ لِجُنبٍ غَسلُ فَرْجِه]: إذا وقعت الجنابة من جماع، أو استيقظ الإنسان وهو جنب يسنُّ له أن يغسل فرجه إذا أراد أن يؤخر غسل الجنابة؛ لظاهر حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وحديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين.
أما حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم في صحيحه قالت: [كَانَ رسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا كَانَ جُنُباً، وأَرادَ أَنْ يَنَام، أَوْ يَأكُلَ غسَلَ فَرْجَه، وتوضأَ].
وأما حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين ففيه أنه قال: -يا رسولَ اللهِ - أينامُ أحدُنَا، وهُو جُنُبٌ؟
قال عليه الصلاة والسلام: [تَوضّأ، واغْسِلْ ذَكَرك ثمّ نَمْ] فقال: [واغْسِلْ ذَكَرَكَ] فدل على مشروعية الغسل حتى إن بعض الأطبّاء يعتبره محموداً من الناحية الطبية لأنه لا يُؤْمن أنه إذا تأخر المني في الموضع أن تتولّد منه بعض الجراثيم، وقد ينشأ منها بعض الأمراض، ولأنه إذا يبس على العضو ربما حصل منه بعض الضرر، ولذلك كان من هديه -عليه الصلاة والسلام- أنه يغسل فرجه.
وقوله رحمه الله: [ويُسَنّ] يدل على أنه ليس بواجب، وإنما هو سنة مستحبة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليست واجبة،
وأمّا أمره عليه الصلاة والسلام به لعُمَر رضي الله عنه لما سأله كما في الصحيحين: [أَينامُ أَحدُنا وهو جُنُبٌ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تَوضّأ، واغْسِلْ ذَكَرَكَ، ثُمّ نَمْ] فإنه مصروف عن ظاهره الدّال على الوجوب، إلى النّدب،
والصّارف له ما ثبت في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند أصحاب السنن أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إنما أمرتُ بالوضُوء إِذَا قُمْتُ إِلى الصَّلاةِ]، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَما سُئلَ أَينامُ أحدُنا، وهو جُنُب؟
قال: نعم، ويتوضَّأ إِنْ شاء] فدلّ هذان الحديثان على أن الأمر للإستحباب، لا للوجوب.
وقوله: [ويُسَنّ لجُنُبٍ غَسْلُ فَرْجِهِ] يشمل الذكر، والأنثى لقولِه عليه الصلاة والسلام: [توضّأ واغسل ذكرك]، وهو بلفظه خاص بالرجال؛ لأنه ورد جواباً للسؤال فلا يُعتبر مفهومه، وبمعناه عام في الرجال، والنّساء؛ لأن العلّة واحدة فيهما.
قوله رحمه الله: [والوُضُوءُ لأكلٍ، ونومٍ]: أي: ويسن الوضوء لمن عليه الغسل، إذا أراد أن يأكل أو ينام، والأصل في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح الذي ذكرناه حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عند أحمد،ومسلم في صحيحه -رحمة الله عليهما- أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[كانَ إِذَا كَان جُنُباً، وأَرادَ أنْ يَنَام، أو يأكُل توضأ وضُوءَهُ للصّلاةِ] فدلّ على أنّ السُّنة للجنب أن يتوضأ عند إرادة الأكل، والنّوم، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: [توضّأ] أن يكون الوضوء تاماً على صفة الوضوء الشرعي وهذا مذهب الجمهور رحمهم الله.
ومن العلماء من قال: إن المراد به غسل اليد، وحمله على الوضوء اللغوي.
والصحيح مذهب الجمهور؛ لأنه إذا تعارضت الحقيقة الشّرعية، واللّغوية؛ فإننا نُقدّم الحقيقةَ الشرعيةَ على اللّغويةِ، لأنها الأصل المعهود في خطاب الشرع؛ كما هو مقرر في الأصول.
قال بعض العلماء: وضوء الجنب لا ينتقض بالحدث الأصغر فلو توضأ، ثم خرج منه ريح لا ينتقض وضوؤه،
وهو الوضوء الذي يلُغز به بعض الفقهاء فيقول: متوضئ لا ينتقض وضوؤه ببولٍ، ولا غائطٍ ولا ريح؟
فقد تقول المستحاضة يقول: هذه معذورة، والمرادُ غيرُ معذورٍ،
فتقول: هو الجنب إذا توضأ وعليه الجنابة كما أشار إلى ذلك الإمام السيوطي رحمه الله بقوله:قُلْ لِلْفَقِيهِ ولِلْمُفِيدِ ... وَلِكُلّ ذِي بَاعٍ مَدِيدِمَا قُلتُ فِي مُتَوضِّئ ... قَدْ جَاءَ بِالأَمْرِ السَّدِيدِلا يَنْقُضُونَ وضُوءَهُ ... مَهْمَا تَغَوّطَ أَوْ يَزِيدِ
وهذا الوضوء للجنب قيل: إنه شطر الجنابة كما ورد في حديث شدّادٍ رضي الله عنه عند إبن أبي شيبة بسند رجاله ثقات، كما قال الحافظ رحمه الله أنَّ
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إِذَا أَجْنَبَ أَحدُكُمْ مِنَ اللّيل، ثمّ أَرادَ أَنْ يَنامَ فَلْيتوضّأ فإنه نِصْفُ غُسْلِ الجَنابَةِ] وهو أقوى الأقوال بالنسبة لتعليله.
وأما غسل الذكر فقد قيل: إنه إذا أجنب تمددت العروق بخروج المني، فناسب أن يغسل العضو حتى تنقبض، ومن هنا ردّه بعض العلماء إلى هذه الفائدة الطبية فنحمد الله -تبارك وتعالى- على هذه النعم الظاهرة، والباطنة، وعلى هذا الخير الكثير، والرحمة المهداة، والنعمة المسداة التي أكرمنا الله -عز وجل- بها في هذه الشريعة -نسأل الله العظيم أن يحيينا، ويميتنا عليها-.
قوله رحمه الله: [ومُعَاوَدَةِ وَطْءٍ]: الوطء: الجماع، ومُراده رحمه الله أَنّ الرجل إذا جامع أهله، ثم أراد أن يعود فإنه يتوضأ لقوله عليه الصلاة والسلام: [إِذَا جامَع أَحدُكُمْ أَهْله، ثُمَّ أرادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتوضّأ] والأمر في الحديث مصروف عن ظاهره كما تقدم بقوله عليه الصلاة والسلام: [إنما أمِرْتُ بِالوضُوءِ عِنْدَ القِيام إلى الصّلاةِ] وقد بيّن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العلّة في الأمر بالوضوء للجنب إذا أراد العود؛
فقال عليه الصلاة والسلام في رواية الحاكم في المستدرك: [إِنه أَنشَطُ لِلْعَوْدِ]، وهي تقوّي أنّ الأمر للإستحباب.
[باب التيمم]
التيمُّمُ مأخوذ من قولهم: أمَّ الشيءَ؛ إذا قصده،
ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أي لا تقصدوا رديء التمر، والخارج من الأرض لتنفقوا منه زكاة أموالكم،
ومن ذلك قول الشاعر:تَيمَّمتُها مِنْ أَذرِعاتٍ وأهلُها ... بِيَثْرِبَ أدْنى دَارَها نظَرٌ عَالِيأي: قَصَدتها.
فالتيمم: القصد.
أما في الإصطلاح فإنه: (القصدُ إلى الصّعيدِ الطّيبِ بضَربِ اليدين بصِفةٍ مخصوصةٍ، ونيّة مخصوصة) فالمراد بالصّعيد: كل ما صعد على وجه الأرض،
وأصل الصعود: علوّ الشّيءِ، وارتفاعه، فلما كان محل التيمم بما على ظاهر الأرض وُصِفَ ذلك الظاهر بكونه صعيداً.
وقولهم: [الطَيّب]: المراد به الطاهر، فلا يجوز التيمم بالأرض المتنجسة،
وقولهم: [الصَّعيد] عامٌّ شاملٌ لكل ما على وجه الأرض من الحجارة، والتراب، والغبار لعموم النصِّ كما سيأتي إن شاء الله بيانه.
وقولهم: [بصِفةٍ مَخْصُوصةٍ]: هي التي ورد النصّ بها في قوله سبحانه: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} فتكون بمسح الوجه، والكفّين،
وقد بيّنها عليه الصلاة والسلام بفعله حينما قال لعمار رضي الله عنه كما في الصحيحين: [إنما كانَ يَكْفِيكَ هكذا قال: وضَرَبَ النبيُ صلّى الله عليه وسلم بكَفّيه الأرضَ، ونَفَخَ فيها، ثُمّ مَسَح بِهما وجْهَهُ، وكَفيْهِ]، وقولهم: [بنِيّةٍ مَخْصُوصَةٍ] وهي: استباحة الصّلاة والطّواف، ومسّ المصحف، ونحوه مما تُشترط له الطّهارة، والنّية واجبة في التيمم بلا خلاف.والتعبير بالإستباحة لأن التيمم مبيح،
وليس برافع للحدث لقوله عليه الصلاة والسلام: [الصعيدُ الطّيبُ طُهورُ المسْلمِ، ولو لَمْ يَجِدَ الماءَ عَشرَ سِنينَ، فإذا وجَد الماءَ فليتّقِ الله، وليُمِسَّه بَشَرَته] فلو كان رافعاً للحدث لا وجبت عليه طهارة الغسل بعد وجود الماء.
شرع الله التيمم في كتابه: بقوله -سبحانه وتعالى-: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} في آيتي النساء والمائدة.وشرعه سبحانه، وتعالى بهدي رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام لعمار رضي الله عنه: [إِنما كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقولَ بِيديْكَ هَكَذا، ثُمّ ضَربَ بِكَفيه الأَرْضَ، ثم مَسَح بِهما وَجْهَه، وكَفّيهِ]، وكذلك -أيضاً- ثبت في الصحيحين من حديث عمران ابن حصين -رضي الله عنه- أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مرّ على رجل لم يصلِّ في القوم فقال: [يا فُلانُ مَا مَنعكَ أَنْ تُصَلّي فِي القَوْم؟] قال: أَصابتْني جَنابةٌ، ولا ماء، فقال عليه الصلاة والسلام: [عَليكَ بالصّعيدِ الطيبِ فإنه يَكْفِيكَ] وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه الصحيح عند أحمد،
والترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال: [الصعيدُ الطّيبُ طُهُورُ المسْلمِ ولَوْ لَمْ يَجِدَ الماءَ عَشرَ سِنينَ]، وفي الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه قوله عليه الصلاة والسلام: [أُعْطِيتُ خَمْساً لمْ يُعْطَهُنَّ أحدٌ قَبْلِي]، ومنها قوله: [وجُعِلَتْ لِيَ الأَرضُ مَسْجِداً وطَهُورَاً] فدلّت هذه الأحاديث الصحيحة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أنّ التيمم مشروع.وأجمع العلماء -رحمهم الله- على مشروعية التيمم على تفصيل سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-.
أما بالنسبة لمناسبة هذا الباب لما قبله فهي: أنه لما فرغ من بيان الطهارة المائية بالغسل شرع في بيان الطهارة البدلية عنها وهي التيمم؛ فكان حديثه عن الطهارة بالماء التي هي أصل، ثم هنا شرع في طهارة التراب التي هي بدل عن الأصل، والكلام عن البدل يكون بعد الكلام عن المُبْدَل منه، فبعد أن بيّن -رحمه الله- حكم الطهارة بالأصل، وهو الماء شرع في بيان حكم الطهارة بالبدل، وهو التراب.
قوله رحمه الله: [وهو بَدلُ طهارةِ الماءِ إذا دَخَلَ وقْتُ فَريضةٍ]: قوله: [وهو] أي: التيمُّمُ [بَدلُ طهارةِ الماءِ إذَا دَخلَ وقْتُ فريضةٍ] بدل طهارة الماء: أي أنه ليس بأصل، وإنما شُرِعَ على صورة مخصوصة، وفي أحوال مخصوصة،
ولذلك يمكن للفقيه أن يقول للمكلف: تيمّم إذا وجد مُوجبات الرخصة،
ويمكن أن يقول له: لا تتيمّمْ إذا لم تتوفر تلك المُوجبات،
ولذلك قال: وهو بدل، والبدل يحتاج أن تعرف شروطه، والقيود التي نصّبها الشرع لقيامه مقام المُبْدل منه، ثم هذه البدلية تشمل الطهارة الصغرى،
وهي: الوضوء، والكبرى،
وهي: الغسل، فيقع التيمم بدلاً عن الوضوء. والغسل، وللمكلف إذا تيمم أن يستبيح الصلاة مباشرة، ومذهب بعض العلماء رحمهم الله أن هذه الطهارة تقع بدلاً عن طهارة الخبث، فقالوا فيمن وقعت عليه نجاسة،
وليس عنده ماء يغسل به تلك النجاسة: إنه يتيمَّمُ،
فجعلوا التّيممَ بدلاً عن الطهارة بنوعيها: طهارة الحدث، والخبث.
فإذاً بدليته عن ثلاثة: عن الوضوء، والغسل بالإجماع، وعن طهارة الخبث على أحد قولي العلماء رحمهم الله.
قوله رحمه الله: [إذا دَخلَ] هذا شرط، والشروط في المتون الفقهية تعتبر مفاهيمها، ويقيّد ذلك بالتزام صاحب المتن، أو باستقراء منهجه.
وقوله رحمه الله: [إذا دخلَ وقتُ فريضةٍ] مفهومه: أنه إذا لم يدخل وقت الفريضة أنه لا يتيمَّمُ للفريضة، لكن لو تيممَ لغير الفريضة؛ كأن تكون عليه جنابة، وتيمم للمسِ مصحفٍ، أو للطواف بالبيت، فلا حرج عليه، سواء كان ذلك في وقت الفريضة، أو في غيره؛ لأن النافلة، ومسّ المصحف ليس لهما ميقات كالفريضة، أما الفريضة فلا يصح التيمم لها إلا بعد دخول وقتها،
فلو أن إنساناً سألك وقال: لم أجد الماء فتيممت قبل أذان الظهر، ثم دخل وقت الظهر، فصليتها؟
تقول: إن شرط صحة التيمم للفريضة أن يكون بعد دخول وقتها، فإذا تيمم قبل دخول الوقت بطل تيممه بدخول الوقت بعد ذلك لأنه يُحْتَسبُ للفريضة السابقة، ويبطل بدخول وقت الفريضة اللاحقة، فلا يصح تيمُّمُك قبل الظهر للظهر، وهكذا بقية الفرائض.