شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (42)
صـــــ358 إلى صــ371
[باب إزالة النجاسة]
قوله رحمه الله: [غير الخمرة] غير: استثناء،
الخَمْرةُ: والخَمرُ مأخوذ من قولهم: خمّر الشيء: إذا غطاه وستره، ومنه الخمار، إذا غطى الوجه، وسميت الخمر خمراً، لأنها -والعياذ بالله- تغطي عقل الإنسان، وتذهب إدراكه، وشعوره، والخمرة تكون مائعة في الأصل، ولكن العلماء إذا أطلقوا الخمر، فإن مرادهم بها الشراب المائع، الذي يكون من العنب، والتمر، والزبيب، وغيره من سائر الثمار، فهذه الخمرة محكوم بنجاستها، وقد تكلمنا على هذه المسألة، وفصلنا القول فيها في شرح بلوغ المرام، فإن الذين قالوا بنجاستها،
وهم جماهير العلماء حكموا بالنجاسة لظاهر القرآن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} (1) والرِّجْس: هو القذر في أصل اللغة، والقذر في الشرع أصله النّجس، وقالوا خرجت الأزلام، والأنصاب، فأما الأنصاب فإنها نجسة،
لأنها كانت حجارة يذبح عليها كما قال تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}، فيكون الدم المسفوح النجس قد أصابها فهي نجسة، والميسر، والأزلام خرجا من وصف النجاسة الحسّية بدلالة الحسِّ، وأما بالنسبة للخمرفليس هناك دلالة تخرجها فبقيت على الأصل، وهي مستقذرة فتبقى على وصف الرّجس في الشرع، والشرع قد خصّ الرجس بالنّجس، فخَصّص الحقيقة اللغوية به.
واستدل من قال بطهارة الخمر: بأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بإراقة مزادتي الخمر فإنه أمر الصحابي أن يُريقَ الخمرَ من المزادتين،
قالوا: ولم يأمره بغسلهما، وهذا استدلال ضعيف كما نبّه عليه غير واحد من أهل العلم، فإن سكوت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أمره بغسل مزادة الخمر؛ إنما سكت للعلم به بداهة، فإنك إذا وضعت في هذه المزادة لبناً، وأرقت اللبن ماذا تفعل؟ معلوم بداهة أنك ستغسلها، فسكت -عليه الصلاة والسلام- عن الأمر بالغسل لكونه واقعاً لا محالة.
وقال بعض العلماء في جوابه: لو قيل بظاهر سكوت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه يدل على خلوها لاحتج بذلك محتج،
وقال: يجوز لمن أخذ مزادة الخمر بعد تفريغها، وصبَّ فيها لبناً قبل غسلها؛ فإنه لا ينكر عليه؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يأمر بغسلها،
فيكون الجواب: بأنه سكت عن الأمر بغسلها للعلم به بداهة، فكما أنه في المشروبات المباحة نأمر بالغسل، ونقول سكت عنه للعلم به بداهة،
كذلك هنا نقول: سكت عن الأمر بغسل نجاسة الخمر للعلم به بداهة، فهو يعلم عليه الصلاة والسلام أن صاحبها سيغسلها لا محالة، فلم يأمره بالغسل، ولم يصحّ الإستدلال بسكوته عن أمره بذلك على طهارة الخمر.
وأما صبّها في سكك المدينة فقد بيّن العلماء أن هذا لا يدل على طهارتها؛ وذلك لأنّ الصحابة رضي الله عنهم إذا صبّوها في سكك المدينة فإن الغالب فيهم أنهم يتقونها، ولو فرض أنهم مشوا عليها بالنعال، فإن المشي على الأرض اليابسة بعد ذلك يطهّر النِّعال، ولو أن امرأة جرّت ثوبها على خمرة مُرَاقةٍ، ثم مضت بعد ذلك إلى أرض يبسة؛ فإنها تطهره بذلك الجرِّ، وبناءً على ذلك لا يعتبر هذا دليلاً قوياً كما نبّه عليه الشيخ الأمين -رحمة الله عليه- وله فيه بحث نفيس في تفسير آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} وبيّن أن قول الصحابي: [جَرتْ بِها سِكَكُ المدينةِ] وصف فيه مبالغة، وليس على ظاهره، فأقوى الأقوال القول بنجاستها، وهو مذهب جماهير السلف، والخلف،
حتى قال شيخ الإسلام رحمه الله: (الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة) ولم يحك قولاً مخالفاً في نجاستها.
وقال بعض العلماء: في إِستدلالهم على طهارة الخمر بدليل غريب حيث قال: إن الله تعالى يقول: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (1) فوصف الخمر بكونها طهوراً، وقد فاته أن الله -عز وجل- حكم بأن خمر الآخرة لا غولٌ فيها، والغَول، والكحول هو أساس نجاسة الخمر في الدنيا، فإذاً نجاسة الخمر في الدنيا مبنيّة على وجود هذه المادة التي تستحيل إذا صارت الخمر خلاً، ويُحكم بطهارته،
ولما كانت خمر الآخرة طاهرة من جهة عدم وجود الغول فيها قال تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} وقلب بعض العلماء هذا
الإستدلال فقال: بل هو دليل على نجاستها؛ لأنه لو كانت خمر الدنيا،
والآخرة متساويتين لما قال: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} فلما كانت خمرة الدنيا نجسة وصف خمر الآخرة بعكسها، كما أنه لما كانت خمرة الدنيا تصدّع الرأسَ،
وصف خمرة الآخرة بضدّها فقال سبحانه: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} فصار الإستدلال بهذه الآية مقلوباً، حيث دلَّ على نجاسة الخمر، لا على طهارتها.وإذا ثبت أن الخمر نجسة فإنها إذا إِستحالت،
وصارت خَلاً فلا تخلو تلك الإستحالة من حالتين:
الحالة الأولى: أن تتخلّل بنفسها.
الحالة الثانية: أن تتخلّل بفعل المكلّف.فإن تخلّلت بنفسها؛ فإنها تطهر؛ لدليل الشرع كما في الصحيح من حديث مسلم أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال: [نِعْمَ الإِدَامُ الخلُّ] فأثنى عليه، والثناء يدلُّ على الإباحة، فأجاز لك أن تأتدم بالخل،
والخل: أصله خمر، إذا ثبت هذا، فإنها إذا تخلّلت بنفسها طَهُرَتْ على ظاهر هذا الحديث.
فقد يقول قائل: إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أثنى على الخلّ مطلقاً، سواء تخلّل بنفسه، أو تخلّل بفعل المكلف؛ فجوابه ما رواه أحمد، وأبو داود أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [نهى عَن تَخلِيلِ الخمْرِ]، وذلك لما سئل عن تخليلها، وقال: " لا " وأمر أبا طلحة في خمر الأيتام أن يُريقَ الخمر، ويَكْسِر الدِّنَّان وهي أوعية الخمر، ومعلوم أن هذا مال أيتام،
فلو كانت الخمر تتخلّل بفعل المكلف لقال له: خَلّلْهَا؛ لأنه مال يتيم يُحفظ، ولا يُراق إذا أمكن استصلاحه، وبهذا يزول الإشكال، ويتبيّن أن الحديث الدّال على حلِّ الخل، وإباحته شرطه أن تكون الخمرة قد تخلّلت بنفسها، لا بفعل الغير.
قوله رحمه الله: [أو تَنجّس دهنٌ مائعٌ؛ لم يَطْهُرْ] الدهن مثل: السمن، والزيت،
والسّمنُ من أمثلته: ما يُستخلص من الشحوم من بهيمة الأنعام،
والزيت مثاله: ما يُستخلص من النباتات، مثل زيت الزيتون، والسِّمْسِم، واللّوز، ونحوه، فالدهن إذا كان سمناً جامداً، ووقعت فيه نجاسة، فالحكم أنك تأخذ النجاسة وما حولها، لظاهر حديث الفأرة إذا ماتت في السمن الجامد، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بإلقائها، وما حولها، فدلّ هذا على أنّ الدهن إذا كان جامداً طَهُر بزوال عين النجاسة بإلقائها، وما حولها.وأما إذا كان مائعاً، ووقعت فيه النجاسة فإنّ المصنف رحمه الله نصّ على أنه متنجس لا يَطْهُر، وهذا مبني على القول بأن نجاسة الدهن نجاسة ممازجة،
وقد بيّنا هذه المسألة في الشروح في دروس الجامعة وأن للعلماء رحمهم الله قولين مشهورين فيها: هل نجاسة الدهن نجاسة عين، أو نجاسة مجاورة؟ فعلى القول الأول لا يمكن تطهيره، وهو مبنيّ على حديث الفأرة في روايته الضعيفة أنه إذا كان الدهن مائعاً لا يُقْرب، وهو قولٌ عند المالكية، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله، ونصّ عليه المصنف رحمه الله،
بقوله: [دُهنٌ مائعٌ].
والقول الثاني عندهم جميعاً يقول: نجاسة الدهون نجاسة مجاورة، لا نجاسة عين، لأن النجاسة إذا وقعت في السمن انحازت، وتميزت عنه، فلو وقعت في زيت وجدتها تَنْحازُ، ولا تختلط به،
قالوا: فنجاسته نجاسة مجاورة، ونجاسة المجاروة ليست كنجاسة العين التي تحصل بها الممازجة بين النجس والطاهر كما نشاهده في البول، حينما يقع في الماء، فإنه يتحلّل فيه ويمتزجا كالشيء الواحد، ففرّق العلماء بين النجاسة بالمجاورة وهي التي يكون فيها جرم النّجس منفصلاً عن الطاهر، وبين النجاسة التي تمازج الطاهر.إذا علمنا أن عندنا قولين فما هو أقواهما؟ الذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بأن نجاسة الزيوت، والدهون نجاسة مجاورة، وليست ممازجة، فإن دليل الحس ظاهر في قوة هذا القول حيث يشاهد عدم اختلاط النجس بالزيت، وعدم ممازجته له مما يدل على ضعف تأثيره عن الممازج المخالط، فنجاسة هذه المائعات، والدهون نجاسة مجاورة، وليست بنجاسة ممازجة.
قوله رحمه الله: [وإِنْ خَفِي موضعُ نجاسةٍ غَسلَ حَتّى يَجزمَ بِزَوالهِ]: مراده رحمه الله أن يجزم بإصابة النجاسة، ووقوعها على الطّاهر، ولكنه لا يستطيع أن يحدّد موضعها حتى يزيلها.
مثال ذلك: لو أن إنساناً مرّ على موضع، فتطاير من ذلك الموضع النّجس ذرّاتٌ من نجاسة، وتحقّق أنها أصابت ثوبه، ولكن لا يعلم أين المكان الذي أصابته النجاسة من الثوب؟
وحكمه حينئذ: أنه يجب عليه أن يغسل من ثوبه الموضع الذي أصابته النجاسة بقدر ما يجزم معه أنه قد أصاب فيه موضعها.فلو جزم أن النجاسة أصابت أسفل ثوبه بحدود الربع، ولكن لا يدري: هل هي في الجانب الأيمن من الثوب،
أو الأيسر فإننا نقول له: إغسل ربع الثوب السُّفلي كلّه حتى يَجزم، ويَستيقنَ أنّ ثوبه طاهر، وهكذا بقية الصور والمسائل.
قوله رحمه الله: [ويَطْهُر بَولُ غلامٍ لَمْ يَأكُلِ الطعامَ بِنَضْحِهِ] أي أن الشرع خفّف في نجاسة الغلام الذي لم يأكل الطعام، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّ أمّ قيسٍ بنتَ مِحْصَنٍ رضي الله عنها أَتت بِصبِّيها إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأجْلَسه في حِجْرِه، وكان -صلوات الله وسلامه عليه- يؤتى له بالولود فيحنّكه، ويدعو له بالخير -صلوات الله وسلامه عليه-، وهذا من مكارم خلقه -صلوات الله وسلامه عليه-، فأجلسه في حِجْره، فلما أجلسه بالَ عليه؛
قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: " فأخَذَ مَاءً فَرشَّه " وفي رواية " فَنَضَحَه بماءٍ، ولم يَغْسِلْه " كما هي رواية السنن، هذا الحديث دلّ على أن بول الغلام يُنضح،
والنضح: أن تأخذ كفّاً من ماءٍ، وتَرشُّه به،
وأما الغسل: فإنك تصبّ الماء على الموضع، وتُعمّمه به، فالرّشُ، والنّضْحُ أخفّ من الغسل، فخُفف في نجاسة الغلام، وأكد هذا حديث علي -رضي الله عنه-
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [يُغسلُ منْ بولِ الجاريةِ، ويُنضحُ منْ بولِ الغُلامِ] هذا القول هو قول الجمهور من العلماء رحمهم الله: إن بول الغلام يُرشُّ، ولا يُغسلُ، وبول الجارية يغسل،
وهنا مسائل:المسألة الأولى: أن الحكم يختص بالغلام الذي لم يأكل الطعام أي مدة رضاعه، فإن فُطِمَ فإنه يجب غسله؛ قالوا: إن الحديث الوارد في المسألة نصّ على ذلك بالمنطوق في الذي لم يأكل،
ومفهومه: وجوب الغسل في الذي فُطِمَ، وأكل،
وذلك في قولها في الرواية الصحيحة: [لمْ يَأكُلِ الطعامَ]،
ولذلك يقولون: إنه إذا فطم يجب غسل بوله كالجارية سواءً بسواء،
ثم يرد السؤال عن مسألة وهي: لماذا فُرقَ بين الغلام، وبين الجارية؟
والجواب:
أولاً: ينبغي على المكلف أن يسلِّم بالشَّرع، وأن لا يتكلّف البحثَ عن العلل، وأن يتعبّد الله -عز وجل- بما ثبت به دليل الكتاب، والسُّنة؛
قال بعض السلف رحمه الله: على الله الأمر، وعلى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- البلاغ، وعلينا الرضا، والتسليم،
فمن الإيمان بالله أن المكلف إذا جاءه الحكم قال: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربّنا، وإليك المصير، وأثنى الله على هؤلاء الذين يُسلِّمون، ولا يتكلّفون في بحث العلل، والتّقصي فيها.لكن إذا وجدت الحاجة للبحث عن العلّة، كما يفعل العلماء رحمهم الله في النصوص التي تحتمل التَّعليلَ فلا حرج، أما الأصل فهو التّسليم، والرِّضا بحكم الله سواء علمنا العلّة، أو لم نعلمها،
ثم إنهم إِختلفوا فيما يظهر لهم في العلّة:فقال بعض العلماء: خُفّف في بول الغلام، وشُدّد في بول الجارية لسبب موجود في ذات البول، فإن بول الجارية أثقل من بول الغلام، فخُفف في بول الغلام دون بولها قبل الفطام، لضعف مادته.
والوجه الثاني: أنه خفف لصورة بول الغلام، وذلك أنه لا ينتشر، وبول الجارية ينتشر.
وهاتان العلتان ضعيفتان.
أما علة من قال: إن بول الجارية أثقل من بول الغلام فهذا لم يسلّم به حتى إن بعض الأطباء أكدّ ردّه وعدم صحّته.
وأما التعليل بالإنتشار، وعدمه، فضعيف لأنه لا فرق في النّجس بين كونه منتشراً، أو غير منتشر فالقطرة من البول منجّسة، سواء انحصرت، أو انتشرت، فالحكم واحد، ثم إن كلا البولين سينتشر بالسّريان فاستوى أن يكون في حاله الأول منتشراً، أو غير منتشر.
وأقوى العلل هي قولهم: إن الشرع خفف في بول الغلام أكثر من الجارية؛ لأنهم كانوا يحملون الغلمان أكثر من الجواري في محضر الناس، فتجدهم يحملون الغلمان، لأنهم يستحيون وكانوا يتعاطون الكمال في إخفاء المرأة حتى في حال الصّغر، فكانوا يحملون الصبيان، ويحضرونهم المجالس أكثر، وقد يحضرون الصبية كما في حديث أُمامة لما حملَها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكنّه نادر، والحمل أكثر ما يكون للذكور بالنسبة لمجامع الناس، فخُفّف من أجل المشقة في الصبيان أكثر من الجواري غالباً.هذا بالنسبة لقضية بول الغلام، وبول الجارية.
وإذا قلنا إن الحكم يختص بالبول، فإنه لا يسري إلى غيره كالدّم مثلاً؛ لأن الحكم جاء على سبيل الإستثناء فانحصر في الوارد، ولم يلتحق به غيره.
قوله رحمه الله: [ويُعْفَى في غيرِ مَائعٍ، ومطْعومٍ عنْ يَسيرِ دَمٍ نَجِسٍ منْ حَيوانٍ طَاهرٍ]: بيّن المصنف رحمه الله في هذه العبارة بعض المستثنيات في باب إزالة النجاسة، وهو يسير الدم، وأن محلّ الإستثناء ألا يكون في مائع، ومطعوم، والدّم نجس، وهو قول جاهير العلماء -رحمة الله عليهم-
لقوله عليه الصلاة والسلام: [إِغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ]،
وكذلك قوله في دم المرأة المستحاضة: [إِنما ذَلكِ عِرْق] قالوا: فكما أن دم المستحاضة خرج من عرق فسائر دم الإنسان في أصله خارج من عرق،
وظاهر القرآن دال على نجاسته كما في قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ... } إلى قوله: { ... فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (2) والدم المسفوح يكون من البهيمة عند قتلها، وتذكيتها، ويكون من الآدمي فهو الدم الذي يخرج من الجسد في حال الحياة، ولذلك أجمعوا على أن الدم الذي يخرج عند ذبح الشاة،
أو نحر البعير أنه نجس هذا بالإجماع كما حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع فقال: " أجمع العلماء على أن الدم المسفوح عند التذكية أنه نجس "،
وذلك لظاهر قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ... } إلى قوله: { ... فَإِنَّهُ رِجْسٌ} فالجماهير لما قالوا بنجاسة الدم قالوا: إن القرآن أطلق فوصف كل دمٍ مسفوح بكونه رجساً،
والدم المسفوح: هو الخارج في الحياة؛ لأن الذي عند الذكاة خرج والبهيمة حية، ولذلك إذا سكنت، وماتت بالتذكية؛ فسائر الدم الذي في أجزائها يعتبر طاهراً.
والذين قالوا بطهارة الدم إحتجوا بأنه -عليه الصلاة والسلام- نحر الجزور، ثم سلخه، وصلّى، ولم يغسل أثر الدم، وهذا مردود بأن الدم الذي يكون عند السلخ طاهر، ولا يعتبر نجساً حتى يكاد يكون عليه الإجماع، ألا ترى أنه يؤخذ كتف البهيمة، ويُطبخ، ويُشوى، ويؤكل مع أن فيه الدم لكنه يعتبر طاهراً لأنه خارج بعد الذكاة من غير موضعها، فالإستدلال بهذا الحديث استدلال بما هو خارج عن موضع النزاع.
واستدلوا بحديث عبّاد بن بشر رضي الله عنه لما أصابه السهم وهو قائم يصلي في حراسته، فنزعه فنزف قالوا لو كان نجساً لقطع صلاته،
وهذا يعارض المنطوق الذي ذكرناه في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ]، وجوابه كما نبّه عليه شراح الحديث في غير ما موضع أن حديث الصحابي رضي الله عنه في النزف، والنزيف سواءً كان بسهم، أو باستحاضة متفق على أنه يُعتبر رخْصَة يعني يصلي الإنسان، ولو جرى معه الدم، كما صلّى عمرُ -رضي الله عنه- وجُرحه يَثْعُب؛ لأنه لا يستطيع إيقافه غالباً؛ وإنما يستقيم الإستدلال بهذه الأدلة أن لو كان الدم فيها من غير نزف بمعنى أنه يمكنه إيقافه، فلو كان كذلك لعارض ظاهر ما ذكرناه من النصوص، ولكنه ليس كذلك، ولذلك لا تعتبر هذه الأدلة حجة على الجمهور؛
لأن الجمهور يقولون: إن المرأة المستحاضة إذا غلبها الدم تُصلي على حالتها، وكذلك الذي معه رعاف لو غلبه الرعاف يُصلي على حالته ولو كان الدم على ثوبه، أو بدنه إذا غلبه، وكان كثيراً؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، فليس هذا الدليل في موضع النزاع، وكذلك الإستدلال بما ورد في قصة عمر رضي الله عنه لأنها بصورة النزيف الموجب للرّخصة.
ولذلك قال جمهور العلماء: إنّ الدمَ نَجِسٌ، وهو الراجح لدلالة النّصوص القويّة على رجحانه كما قدمنا، ولم يُخالف في ذلك إلا بعض أهل الظاهر، وبعض أهل الحديث رحمهم الله.
وإذا قلنا بمذهب الجماهير بنجاسة الدم، فإنه يُفرّق بين كثيره، وقليله، فقد أجمع العلماء على أن يسير الدم معفو عنه، وفيه حديث ضعيف، وهو حديث الدّرهم البَغْلِي، والصحيح أنه لا يثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إستثناء هذا القدر؛ وإنما اُستثني بدليل الكتاب،
والإجماع أما دليل الكتاب فقوله سبحانه: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} فلما حكم بنجاسة الدم، وصفه بكونه مسفوحاً،
والمسفوح: هو الكثير، ومفهوم ذلك أن اليسير لا يأخذ حكم الكثير المسفوح فاستثني، وتأيد هذا بفعل الصحابة رضي الله عنهم كما صحّ عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أنهما لم يريا في البثرة شيئاً بل كان أحدهم يعصرها فيخرج منها الدم، ويصلي، ولا يغسلها،
وأما الإجماع: فلأن جميع من قال بنجاسة الدم إستثنى اليسير، وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم في حدِّ اليسير كما تقدم معنا، فهم بهذا متفقون على أن اليسير معفو عنه.
ونظراً لدلالة الكتاب، والإجماع إستثنى العلماء رحمهم الله يسير الدم، ولم يحكموا فيه بالأصل، لأنه محلّ العفو من الشرع.
ويستوي عند العلماء رحمهم الله في هذا الإستثناء أن يكون قدر الدرهم منحصراً في موضع معين، أو متفرقاً في مواضع، فما دام أنه بمجموعه لا يبلغ قدر الدرهم، فهو يسير، وعفو.
ثم إذا قلنا على القول المرجوح في مسألة القُلتين إن التّحديد بهما معتبر، فإن يسير الدم لو وقع في إناء دون القلتين حكمنا بنجاسته، ولا تدخل هذه المسألة معنا، وهذا هو ما أشار إليه المصنف رحمه الله بالتّعبير بالقيد في قوله [في غيرِ مائع، ومطعومٍ]، وأما على مذهب المالكية، والظاهرية الذي قدمنا رجحانه فإن العبرة بالتغيّر، فإن حصل تغيّر لم يُعفَ، وإلا كان عفواً، والمائع طاهر، وطهور بحسبه.
وإذا قلنا: إن يسير الدم معفو عنه؛ فإنه يرد السؤال هل يلتحقُ بغيرِ الدّم غيرُه؟
فمن العلماء من قال: أقْصُر الرّخصةَ على محلّها، فأعفو عن الدم وحدَه، لأنه هو الذي دل عليه دليل الكتاب، وهو الذي فعله الصحابة -رضوان الله عليهم- فيبقى غيره على الأصل.
وقال بعض العلماء: ما دامت العلّة التخفيف، وأن اليسير لا يأخذ حكم الكثير، فنطرد ذلك في كل نجاسة،
فنقول: يسير النجاسة معفو عنه سواء كان دماً، أو غيره،
والمذهب الأول: أرجح، لإعماله لدليل الأصل، وقصر الرخصة على محلِّها، وعليه فإن الحكم باستثناء اليسير يختصّ بالدم وحده، ولا يلتحقُ به غيره من النّجاسات؛ كيسير المَذْي، والودْي، والبول، والغائط، فكلُّها باقيةٌ على الأصل لضعف دليل الإستثناء.
قوله رحمه الله: [وعن أَثَرِ استجمارٍ بمَحَلِّهِ]: أي: يُعفى عن أثر استجمار في محلِّه،
والمحلُّ المراد به: مخرج البول، والغائط، ومن المعلوم أن الإنسان إذا قضى حاجته؛ فإنه ربما غسل بالماء، وربما استجمر بالحجارة، أما لو غسل بالماء؛
فبالإجماع: أنه يجب عليه غسل الموضع، وإنقاؤه هذا إذا كان بالماء.أما إذا تطهّر بالحجارة فمن المعلوم أن إنقاء الحجارة للموضع ليس كإنقاء الماء، بل لا بد من بقاء أثر للنجاسة في الموضع فخفّف الشرع في هذا الأثر اليسير
ولكن بشرط أن يكون في موضعه فلا يتجاوزه وهذا ما عبّر عند المصنف رحمه الله بقوله: [بِمَحلّهِ]،
ومن أمثلته أيضاً: الجروح يُعفَى عن الدّم النّجِسِ الموجود في فتحاتها، ولا يجب غسله لوجود الضرر، والحرج، فكلّها من اليسير المعفو عنه.(1) المائدة، آية:90.
(2) الأنعام، آية: 145.