شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (43)
صـــــ371 إلى صــ383
[باب إزالة النجاسة]
قوله رحمه الله: [ولا يَنْجُسُ الآدميُّ بالموتِ]: قوله: [لا يَنْجُسُ]: أي: لا يُحكم بكونه نجساً، فلو سئلت عن آدمي مات؟
تقول: هو طاهر، هذا هو أحد قولي العلماء -رحمة الله عليهم- أن الآدمي لا ينجس بالموت.
وقال بعض العلماء: الأصل في الميتة أنها نجسة، واُستثْني الآدمي المسلمَ؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: [المؤْمنُ لا يَنْجُس] وأُبْقِيتْ ميتة المشرك على الأصل،
وأكدوا هذا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}،
قالوا: لما كانت الميتة في أصل حكم الشّرع نجسة كما نصّ الله -عز وجل- في غير موضع؛
فإننا نقول: إنّ كل ميتةٍ نجسةٍ، إلا ما ورد الشرع بإستثنائه، فلما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [إن المؤمنَ لا يَنجُسُ] وجدنا قوله " المؤمن " مطلقاً في حال الحياة، والموت فلا نحكم بنجاسته لا حياً،
ولا ميتاً وكما استثنى الشّرع المؤمنَ من الحكم بنجاسة الميتة بقوله عليه الصلاة والسلام: [إنّ المؤمنَ لا ينجُسُ] كذلك إستثنى ميتة البحر بقوله عليه الصلاة والسلام: [هُو الطَّهُورُ ماؤُه الحِلّ مَيتتُهُ] فلم نحكم بنجاسة ميتة البحر، وبقي ما عدا ذلك على الأصل، ومنهم الكافر، والمشرك، هذا بالنسبة للمذهب الثاني.
وهناك مذهب ثالث: أن المشرك نجس حياً،
وميتاً لقوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، ولقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [إِنّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ] ومفهومه: إن الكافر نجس حياً، وميتاً.
اعترض عليهم باعتراضات وجيهة منها: إن نساء أهل الكتاب يحل لنا نكاحهنَّ، وإذا جاز لنا نكاحَهنَّ فإنه لا بد من مخالطة، فكيف نخالط النجس؟!كذلك اُعترضَ عليهم بقصة ثُمامةَ بنِ أثالٍ الحنفىّ رضي الله عنه، فإنه -رضي الله عنه- أخذتهُ خَيلُ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو ماضٍ إلى العُمرة فأَمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِربطهِ في المسجدِ،
قالوا: ولو كان نَجِساً لما أدخله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المسجد، هذا بالنسبة للاعتراضات التي اُعترض بها عليهم.
وأجيب عنها: بأنّ النّص بالنجاسة في قوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (1) ورد في المشركين ولم يرد في عموم الكفار،
إذ لو كان أهل الكتاب داخلين فيها لقال: إنما الكفار نجس، لكنه قال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ} َ، ووجدنا أن القرآن يفرق بين المشركين،
وأهل الكتاب كما في قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} (2) فلما فرق بينهم علمنا أن قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، المراد به عبدة الأوثان والذين لا دين لهم سماوي.
وأما حديث ثمامة بن أثال رضي الله عنه فأجيب عنه: بأنه خارج عن الأصل لمكان الحاجة؛ لأن المقصود دلالته على الإسلام، وتعريفه به فاغتُفِرَ ما يحصل من المفاسد في جنب ما يحصل من المصلحة العظمى وهي إسلامه؛ كما اغتفر النظر إلى المخطوبة، وهو محرم في الأصل في جنب ما يقصد من حصول المصلحة من الزواج، وقد مشى المصنف رحمه الله على مذهب من يقول بعدم نجاسة الكافر حياً كان، أو ميتاً.
قوله رحمه الله: [وما لا نفْسَ لهُ سائلةٌ مُتَولِّدٍ مِنْ طَاهِر]: النّفْسُ: تطلق ويراد بها الدّمُ، وسمي الحيض نفاساً لمكان الدم الخارج، كما في الصحيحين من قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لعائشة: [مالَكِ أَنفِسْتِ؟]، وسُمِّيَ النِّفاس نِفاساً لوجود الدّم فيه، ومن هذا الإستعمال قول الفقهاء رحمهم الله في وصف بعض الحشرات ما لا نَفْس له سائلة، ويعنون به الحشرات من غير ذوات الدّماء؟ كبنات وردان، والصراصير، والبعوض، والبراغيث، ونحوها، وهكذا دود السُّوسِ في التمر، والدقيق، والحبّ كلُّه طاهرٌ،
والدليل على طهارته ما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [أُحلّتْ لنا مَيْتتانِ، ودَمانِ، أمّا المَيْتَتَانِ فَالجَرادُ، والحوت، وأمّا الدّمان فالكبدُ، والطُّحالُ] ولأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من هديه أنه حرّم سوسَ التّمرِ، أو أمر الصحابة رضي الله عنهم بإخراجه، وإنقائه.فلهذا نصّ جماهير العلماء رحمهم الله، والأئمة على طهارة ما لا نَفْسَ له سائلة.
ثم إن ما لا نفس له سائلة يكون في بعض الأحوال متولداً من غيره،
وحينئذ لا يخلو من حالتين:
الأولى: أن يكون متولداً من شيءٍ طاهر؛
مثل: التَّمر، والحبِّ، والدقيق، والأجبان، ونحو ذلك، فهو طاهر وهذا هو الذي قصده المصنف رحمه الله،
وأشار إليه بقوله: [مُتَولِّدٍ منْ طَاهرٍ].
الثَانية: أن يكون مُتولِّداً من نجس مثل: الدودِ المتولّدِ من عذرة الآدمي، ونحوها من النجاسات، فهو نجس لأن الفرع تابعٌ لأصله.
فبيّن المصنف رحمه الله أنه يُستثنى من الحكم بطهارة ما لا نفس له سائلة ما كان متولداً من النجاسة، وهذا هو ما يدل عليه مفهوم قوله [من طاهرٍ].
قال رحمه الله: [وبَوْلُ مَا يُؤكَلُ لَحْمُهُ، ورَوْثه]: التقدير طاهر، ومراده رحمه الله أن الحيوانات التي أذن الشرع بأكل لحمها، مثل الإبل، والبقَر، والغنم، والحمام، والدجاج، ونحوها كلها طاهرة الفضلة سواء كانت بولاً، أو روثاً.
وقد دلّ على طهارتها ما ثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [قدم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقوامٌ منْ عُكلٍ، أو عُريْنة، واجْتَوَوْا المَدِينَة] أي: أصابهم الجَوى، والجوى: نوع من الأمراض، لأن أهل البادية تكون مناطقهم نقيّة، ونافهة، فإذا دخلوا المدن يصيبهم هذا النوع من المرض، ويُسمّى الجوى، وسببه كما ذكر الإمام النووي،
وغيره: إختلاف الموضع، والطعام عليهم؛ لأنهم ألفوا طلاقة الجوِّ، ونظافة ما يؤكل ويشرب، بخلاف المدن التي تكون وخيمة، ووبيئة عادة؛ بسبب كثرة الناس بها، وضيق أماكنها، فأمرهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وهذا من طبِّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عالج المريض بمألوفه، والأطباء يعتبرون هذا، وهو أن بعض الأمراض يكون علاجها بِرَد الإنسان إلى مكانه الذي ألِفَه، وإعتاد عليه،
حتى قالوا: إنه يتأثر بأرضه، وهوائها، ومائها، وكان بعض الأطباء يُداوي بالماء الذي يكون في الموضع الذي وُلِدَ فيه الإنسان، وما فيه من مأكل، ومشرب، كما بيّنَهُ الإمام ابن القيم رحمه الله في الطبِّ النّبوي، ووجه دلالة هذا الحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه،
وروثه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذنَ لهم بشرب البول، فلو كان نجساً لما أذن لهم بذلك؛
لأنّ النجس محرّمٌ شربه والله لم يجعل شفاء الأمّةِ فيما حرمه عليها كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [إِنّ الله لمْ يجعلْ شِفاءكمْ فِيمَا حَرمَ عَليكمْ] فأَمَرُهُ عليه الصلاة والسلام بالإستشفاء ببول الإبل يدلُّ على طهارته، وأكّد ذلك طوافه عليه الصلاة والسلام على بعيره، وصلاته النّافلة عليه في السفر كما ثبت في الصحيحين، ومن المعلوم أن البعير لا يسلم غالباً من طشاش بوله، وروثه على فخذيه، وما قارب مخرج البول، والروث، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يُصلي، ويطوف وهو راكب عليه فدلّ على طهارة روثه وبوله.ولما جاءت السنة أيضاً بالإذن بالصلاة في مرابض الغنم؛
دلّ ذلك على: أن العلّة هي كون الإبل، والغنم من الحيوانات التي أذن الشرع بأكل لحمها.
فصح القول بطهارة فضلة مأكول اللحم سواء كانت بولاً، أو روثاً، كما نصَّ عليه المصنف رحمه الله في هذه العبارة، وقد قوى هذا المعنى المستنبط مما ذكرنا من الأحاديث السابقة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما حُرّمَتْ لُحومُ الحُمُرِ الأهليةِ حكم بنجاستها،
فقال كما في الصحيح: [إِنها رِجْسٌ] فدلّ على أن تحريم الأكل يوجب الحكم بالنجاسة، وعكسه يدل على الطهارة،
ولذلك وصف الله مباح الأكل بالطيب فقال سبحانه: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ولا طيب لنجسٍ.
قوله رحمه الله: [ومنيّه، ومنيّ الآدمي]: قوله: [ومنيّه]: أىِ: منيُّ ما يؤكل لحمه، فإنه يُعتبر طاهراً، لأنه فضلة، وقد تقدم بيان الدليل على ذلك، ولأنه إذا كان روثه، وبوله طاهر، فمن باب أولى المني؛ لأن فضلة البول، والروث أشدّ في حكم النجاسة من المنيّ، أصله الآدمي.وأما منيُّ الآدمي فقد تقدم وصفه، وضبطه في باب الغسل.
وهو طاهر في أصحِّ قولي العلماء رحمهم الله كما بيّناه في شرح البلوغ حيث ذكرنا فيه قولي العلماء رحمهم الله بالنجاسة والطهارهَ، وهل نجاسته مخففة، أو باقية على الأصل؟وقد دلّ على طهارته دليل السنة، كما بيّنا في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيح، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصلي بثوبه، وأثر الجنابةِ فيه.
وقد أنكرت رضي الله عنها على ضيفها حينما غسل الثوب من المنيّ، وجاء في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند البيهقي،
وغيره أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إنّما هو بمنْزِلةِ المُخَاطِ يَكْفِيكَ أَن تَحُتّه عَنْكَ بإِذْخِرَةٍ] فأكّد القول بطهارته.
وظاهر قول المصنف رحمه الله: [الآدميّ] العموم في الرجال، والنساء.
قوله رحمه الله: [ورُطوبةُ فَرْجِ المَرأة]: الرطوبة: (سائل يخرج من رحم المرأة في حال الجماع، وغيره) فيخرج تارة بشهوة، وتارة بدونها، هذا السائل نصّ المصنف رحمه الله على طهارته، وهو رواية عند الحنابلة، ووجه عند الشافعية رحمة الله على الجميع، وقد بنوا مذهبهم على أن الأصل الطهارة، ولا دليل يخالفها، فوجب البقاء على الأصل الموجب للحكم بالطهارة.وذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى القول بنجاسته وهو الرواية الثانية عند الحنابلة، والوجه الثاني عند الشافعية رحمة الله على الجميع.واستدلوا على نجاسته بدليل النّقل،
والعقل: أما دليلهم من النّقل فما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [لِيَغْسِلْ مَا أَصابه مِنْها] وهذا الحديث وارد فيمن جامع زوجته، ولم يُترل حيث كان في أول الإسلام لا يلزمه غسلٌ للجنابة، ولكن يُؤمر بغسل فرجه، وما أصابه من رطوبة فرج المرأة، وهذا النصّ واضح في دلالته على نجاسة رطوبة فرج المرأة،
ووجه الدلالة: أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بغسل الذكر مما أصابه، والذي أصابه أثناء الجماع إذا وقع بدون إنزال للمني إنما هو رطوبة الفرج، فدلّ هذا على نجاستها، ووجوب غسل ما أصابته.وأما دليل العقل؛
فهو القياس: حيث إن رطوبة فرج المرأة تخرج عند شهوتها، فهي كالمذي في الرجل؛ فتكون نجسة.وإذا ثبت أن رطوبة فرج المرأة نجسة فإنه يرد الإشكال،
والسؤال: بأنه قد تعم البلوى بهذه الرطوبة ومن النساء من تجلس ساعاتٍ مبتلاةً بهذه الرطوبة؛ فهل نحكم بالنجاسة أيضاً، وكيف تكون طهارتها؟
نقول: إنها كالمستحاضة، فكما أن المرأة يصيبها دم الإستحاضة، ويستمر معها أحياناً شهوراً، والشريعة تحكم بكون هذا الدم نجساً، كما بين ذلك عليه الصلاة والسلام وذلك حينما أمر بغسله،
ويكاد يكون بالإجماع: أن دم الإستحاضة نجس، ولم تَمْنَعْ كثرةُ دم الإستحاضة الحكمَ بنجاسته شرعاً؛ كذلك كثرةُ رطوبةِ الفرج لا تمنع الحكم بالأصل، لكن إذا كثرت على المرأة فإنّها تترخص برخص المستحاضة فيما تشبهها به، فتضع قطنة تشدُّ بها الموضع، فإن غلبها الدم فإنها تصلي على حالتها، وتتوضأ لدخول كل وقت، فالمرأة التي تغلبها الرطوبة، وتصل بها إلى درجة المشقة حكمها حكم الإستحاضة سواء بسواء على التفصيل الذي سنذكره فيها -بإذن الله تعالى- في كتاب الحيض، وهذا لا حرج فيه، ولا مشقة؛
لأن القاعدة في الشريعة: " أَنَّ الأمرَ إِذَا ضاقَ إِتَّسَعَ "، فما دام أنه يضيق على المرأة، ويحرجها؛ فإنّها تتعبد الله -عز وجل- على قدر وسعها،
وطاقتها كما قال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3).
وقوله: [رُطُوبةُ]: فيه تخصيص، حيث دلّ على أن غير الرطوبة من فضلات بدن المرأة الأخرى تُعتبر طاهرة، ولا يُحكم بنجاستها مثل العرق والبصاق والريق واللعاب.
قوله رحمه الله: [وسؤرُ الهِرّةِ، وما دُونَها فِي الخلْقَةِ طَاهِرٌ]: قوله: [وسؤرُ الهِرّةِ]: السؤر: الفضلة من الشراب، واحد الآسَار،
وصورة المسألة: أن تشرب الهرة من إناء، ثم تُبْقِي فضلةً بعد شربها فهذه الفضلة باقية على الأصل، ولا يُحكم بنجاستها لما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي قتادةَ رضي الله عنه أنه كانَ يتوضّأ من إناء، فجاءت هرة فَأصْغَى لها الاناءَ حتّى شربتْ، ثُمّ أتم وضُوءَه من سؤرها،
وكبشةُ بنتُ كعبِ بنِ مالكٍ تنظرُ إليه فقال: أتَعْجبينَ يا إِبنَة أخي؟
فقالت: نعمْ،
فقال: إنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إِنها ليستْ بِنَجسٍ إنها من الطّوافينَ عليكُمْ، والطَّوافاتِ]، فدلّ هذا الحديث على طهارة الهرة حيث صرّح عليه الصلاة والسلام بعدم نجاستها، وفي هذا الحكم تيسير، ورحمة بالناس؛ لأن الهرة تخالطهم، وتكون معهم، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-
مشيراً إلى هذه العلّة: [إنها منَ الطوافينَ عَليْكُمْ، والطوافَاتِ] ومن أهل العلم من قال: هي نجسة، ولكن خُففَ في حكمها لمكان المشقة؛
وذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: [إِنها منَ الطّوافينَ عَليكمْ، والطّوافَاتِ] قالوا: إذ لو كانت طاهرة في الأصل لقال: إنها طاهرة،
لكن كونه يقول: [إنها من الطّوافينَ عليكمْ، والطّوافاتِ] كأنه يقول: إن فيها من الحرج،
والمشقة ما يوجب التخفيف في نجاستها وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله ولكنّ قوله عليه الصلاة والسلام: [إِنّها ليستْ بِنَجَسْ] صريح في الدلالة على نفي نجاسة الهرة، فترجّح به مذهب الجمهور رحمهم الله.
قوله رحمه الله: [وما دُونها في الخِلْقَةِ] الضمير عائد إلى الهرة، ودون
الشيء: أقلّ منه؛ ضدّ الأعلى،
وظاهر كلام المصنف رحمه الله العموم أي: أن كل ما كان من السباع دون الهرة في الخِلْقَة فهو طاهر مثل: النِّمْسِ، والنّسْناسِ، والقُنْفذِ، وابنِ عُرْسٍ، والفَأرِ.وأما ما كان فوق الهرة في الخِلقة من السباع فنَجِسٌ،
ومثاله: الأسدُ، والنّمرُ، والذِّئبُ، والفَهْدُ، والكَلْبُ،
وكذلك سباع الطير مثل: النّسرِ، والصّقرِ، والبَازِ.ويدخل في ذلك ما لا يؤكل لحمه فيلتحق بالسباع كما نصَّ عليه بعض فقهاء الحنابلة رحمهم الله،
ومثاله: الفيل، والحمار.وكذلك ما توالد من مأكول اللحم، وغيره كالسِّمع ولد الضَّبع من الذِّئب.فأصبح القدر المعتبر عندهم بالهرّة فما كان مثلها، أو زاد عليها من السباع، أو كان محرم الأكل فإنه نجس وسؤره كذلك، وما كان دونها فإنه طاهر، وسؤره طاهر، وهذا القول مرجوح لأنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إستثنى الهِرَّة من أصل عام، فبقي ما عداها على الأصل؛ لكننا لا نحكم بنجاسة سؤره إلا إذا تغيّر كما تقدم معنا في مسألة القُلّتين،
والحنابلة إحتاجوا إلى هذا لأن مذهبهم: أن ما دون القُلّتين ينجُس بمباشرة النجاسة سواء تغيّر، أو لم يتغيّر، وأما الحكم بطهارة الحيوان، ونجاسته فهذا راجع إلى حِلِّ أكله، وحرمته على تفصيل سيأتي -بإذن الله تعالى- في محله في كتاب الأطعمة.وإذا تبيّن أن الهرة طاهرة، وأن سؤرها طاهر، فإن هنا مسألة ينبغي التّنبيه عليها، وتُعتبر مستثناةً من هذا الحكم،
وهي: أن تراها قد أصابت نجاسة ورأيتها على فمها، فإن سؤرها نجس إذا تغيّر بذلك النجس.
صورة ذلك: لو رأيتها إِغتذت بميتةٍ، فنهَشَتْ من لحمها، ورأيت فضلة اللحم الذي نهشته على فمها، وشَرِبَتْ من إِناءٍ بعد ذلك، وأفضلت السؤر متغيّراً لونه، أو طعمه، أو رائحته بتلك النجاسة؛ حكمنا بكون الماء متنجساً؛ لكن هذا في بعض الأحوال؛ لا في كلّها فيقتصر الحكم بنجاسة السؤر عليها، وعلى أمثالها من الصُّور مما يتغير فيها الماء بعد شرب الهِرّة منه، وهذا معنى قول الإمام خليل بن إسحاق في مختصره [وإِنْ رِيئَتْ على فَمِهِ عُمِل عَليْها] فقوله: [وإن رِيئَتْ] يعني: رُئيت النجاسة،
وقوله: [على فَمِه] يعني فَمَ الهِرِّ عُمِل عليها يعني حُكِمَ بِحُكْمِها إن أثّرت في الماء فالماء نجس، وإن لم تؤثر فالماء طهور.
قوله رحمه الله: [وسباعُ البهائمِ، والطّيرِ، والحمارُ الأهليُّ، والبغلُ مِنْه نجسة] أي: أن جميع هذه الحيوانات محكوم بنجاستها فيدخل في قوله: [سِباعُ البَهائمِ] الأسد، والنّمر، والفَهْد، والذِّئب، ونحوها،
وقوله: [والطّيرِ] أي: سباعُ الطّير، وهي الطيور الجارحة كالصّقر، والبَاز، والنّسر، والعُقَاب، والشَّاهين، ونحوها كلُّها نجسة.
وقوله: [والحمارُ الأهليُّ] أي: أنه نجس،
ومفهوم قوله: [الأهْلِيُّ] أن الحكم خاص به، فلا يشمل حمار الوحش لأنه مباح الأكل طاهر، كما دلّت السّنة على ذلك في حديث أبي قتادة رضي الله عنه في الصحيح.
وقوله: [والبَغْلُ] هو الحيوان المعروف، وهو متولد من طاهر مباح الأكل، وهو الخيل، ونجس محرم الأكل وهو الحمار الأهلي،
ولذلك أشار إلى تولّده من الحمار الأهلي بقوله: [والبغلُ مِنْه] فالضمير عائد إلى الحمار، دون ما تولد من الخيل.أما الدليل على تحريم هذه الأشياء، ونجاستها فهو مبني على أنّ السنة دلّت على أن محرَّم الأكل نجسٌ في الأصل، وذلك لما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما نزلَ تحريم الحمُرِ الأهليّةِ أمر بإِكْفاءِ القدور،
وإراقتها وقال: [إِنها رِجْسٌ]، وفي هذا دليل على أن المطعوم إذا صار حراماً حُكِمَ بنجاسته فصار كالميتة التي لا تَعْملُ فيها الذكاة، فلا يَطْهُر حياً، ولا ميتاً، وأما الدليل على تحريم أكل هذه الحيوانات فسيأتي بيانه بإذن الله تعالى في كتاب الأطعمة، وتفصيل أحكامه، والله تعالى أعلم.(1) التوبة، آية: 28.
(2) البينة، آية: 1.
(3) البقرة، آية: 286.