عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 26-07-2020, 04:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,215
الدولة : Egypt
افتراضي رد: إدراك السعادة في ظلال العبادة






أيها الناس، إن أمامنا باباً مفتوحاً للسعادة والحياة الطيبة فما بالنا معرضون عنه لا نطرقه؟!







إنه باب الدعاء، فهو سلاح فاتك أمام الشقاء والعناء، لا يخيب حامله، ولا يقهر رافعه، يستدفع به البلاء قبل نزوله، ويرفع به بعد حلوله، لا مكان للهم والغم والحزن مع الدعاء. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم)[5].







بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه هذا الدواء فتقول أسماء بنت عميس رضي الله عنها: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب أو في الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئا) [6].







وهذه كلمات إيمان وتوحيد، وإخلاص وبعدٍ عن الشرك كله، قال ابن القيم: التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه، فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها قال تعالى: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [العنكبوت: 65]، وأما أولياؤه فينجيهم من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها؛ ولذلك فزع إليه يونس فأنجاه الله من تلك الظلمات قال تعالى: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة ذي النون إذا دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين؛ فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له) [7].







وروى الإمام أحمد وابن حبان عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما قال عبدقط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك ماضٍ في حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه، وأبدله مكان حزنه فرحاً) قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات، قال: (أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن)








ألا يا عباد الله الدعاءَ الدعاءَ، وإياكم واغلاقَ هذا الباب، فإذا دخلتموه فلا تستحسروا، ادعوا الله بهذه الدعوات، وادعوا الله بكشف أعيان ما يهمكم ويغمكم، فالموفق من وفق للدعاء، والمخذول من حُرِم طرقَ هذا الباب.







أيها المسلمون، طوبى لعباد الله المخلصين القانتين، فما أحسن عيشهم! وأروح حياتهم! يجدون في العبادة جنة الدنيا وحلاوتها، ويتلذذون بالمناجاة والطاعة أعظم من تلذذ العاصين بالشهوات، كان رسو الله صلى الله عليه وسلم (إذا حز به أمرٌ لجأ إلى الصلاة)، وكان يقول لبلال: (أرحنا بها يا بلال)، وما أجمل وألذ زمانهم وهم بين أحضان السحر ناصبون لأقدامهم قياماً راكعين ساجدين داعيين تاليين: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9].









إذا ما الليل أظلم كابدوه

فيسفر عنهم وهم ركوع



أطار الخوف نومهمُ فقاموا

وأهل الأمن في الدنيا هجوع.










قال ابن المنكدر: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة.







فلو جالست هؤلاء وحرصت على مرافقتهم وأنت كئيب حزين سلَّوك وآنسوك بعد ثقل الأحزان ووحشتها، وهدوك إلى طريق السعادة والراحة بعد ضلال الهموم وشدتها، ولا سيما إن كانوا على علم بشرع الله ودينه؛ لأن العلم سعادة وإسعاد: سعادة للنفس وراحة للبال والعقل، وسبب أصيل لجلب الراحة والاطمئنان للإنسان وللآخرين.







معشر المسلمين، شقي الظالمون –والله- وما سعدوا، وما وجدوا الراحة ولا طعموا. كيف يسعدون وهم يتعدون على حقوق خلق الله: سفكاً أو هتكاً أو ضرباً أو نهباً؟! فما أشقى الظالم وأتعسه، وأرداه وأبأسه!







ألا وإن من الظلم -يا عباد الله- الحقد على الآخرين وحسدهم، فقد تعتصر قلوب بعض الناس كرهاً وبغضاً على أناس لا يستوجبون الكره، في أشياء لا تستحق البغض! فيظل الحقود في ليل بهيم من الكآبة والضيق، لا يرى راحة ونوراً إلا بمصيبة تنزل على من يكرهه بفعله أو بفعل غيره! أفبهذا أمر الاسلام؟ أم لهذا دعا الخلق الكريم المبني على سلامة الصدر للآخرين، والعفو عنهم وإرادة الخير لهم؟!







وقد يحمله حقده إلى حسد من يكره متمنياً زوال نعمة ينعم بها، ومن العجب أن محسوده في نعماء، وهو في شقاء، عينه أ وسمعه في نعيم ولكن قلبه وصدره في جحيم.







فمن أراد السعادة-يا عباد الله- فليترك الظلم والحقد والحسد؛ فإنها مغارم لا مغانم، ووصائل داء لا أسباب شفاء.







إن الفرق شاسع والبون واسع بين صاحب تلك الأدواء الماضية- الظلم والحقد والحسد- وبين من يحسن إلى الناس، بل إلى كل خلق الله ناطقه وبهيمه، يبذل المعروف وينجد الملهوف، يحنو على الضعيف ويعطف على الأرملة واليتيم والمسكين، يفرج كُرب المكروبين، ويقضي الدين عن المدينين، ويساعد المحتاجين والسائلين، إن وجد خيراً أعان عليه، وإن وجد شراً نأى عنه وحذّر منه، يعيش همَّ الجماعة لا همَّ نفسه، عظيم الإحساس بالآخرين، سليم من الإيذاء لهم، كثير التعاون معهم، لم يقتصر إحسانه على أفراد جنسه، بل يعطف على الحيوان ويحسن إليه ويمد يده لبذل الخير له، حتى الشجر لم يقطعه لغير الحاجه، فإن رأى منه ما يؤذي طريق الآخرين أزاله ونحاه.







إن هذا الإنسان الخيّر ليحيا في بحبوحة من العيش بإحسانه وبذله الخير بين الخلق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) [8].







وقال عليه الصلاة والسلام: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء )[9].







إخوتي الكرام، إن الفراغ يصنع المشكلات، ويخلق الأزمات، ومن أعظم مشكلاته:



جلب الهموم والأحزان، والقلق والأكدار.







وإن الانشغال بالعمل المباح المحبوب للنفس مشغلة عن ذلك، ومسلاة عما يطرأ منه، وملهاة عن كتائب الأمراض النفسية التي تعشعش في قلوب الفارغين وعقولهم.







ولهذا حث الإسلام على العمل، ونبذ الفراغ والكسل، سواء كان هذا العمل جسدياً أم ذهنياً؛ فإنه يقضي على الفراغ القاتل الذي يولِّد الكآبة والغم.







ويكفي المنشغلَ بعمل من الأعمال أن يذهب عن نفسه أمراض الفراغ، وأن يقوت نفسه ومن يعول، فإن رأى من هو أعلى منه في الدنيا فلا يحزن ولا يهتم، بل ينظر إلى من هو أدنى منه؛ لئلا يزدري نعمة الله عليه؛ فإن من نظر إلى من هو فوقه في الدنيا بعين التطلع إلى نيل ما نال -ولم يكن عنده نصيب من الإيمان بالقضاء والقدر، ومعرفة تقلبات الدنيا، ومعرفة الحياة الحقيقية- فإنه سيعيش في شقاء وهم وغم.



وليكن المرء المسلم -عباد الله- ابن يومه الحاضر، لا يحزن على أمسه الفائت، ولا يهتم اهتماماً مضراً بغده الآتي.





ما فات مات والمؤمل غيبٌ

ولك اليوم الذي أنت فيه










ولأجل هذا استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن؛ لعظم جنايتهما على سعادة الإنسان وراحته.



والهم يكون على المستقبل والحزن على الماضي







وما أصدقَ لسان الشافعي يوم قال منشرحَ الصدر:





إذا كان عندي قوتُ يومي

طرحتُ الهمَّ عني يا سعيد



ولم تخطر هموم غدٍ ببالي

فإن غداً له رزق جديد










أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.







الخطبة الثانية



الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، أما بعد:



عباد الله، إن الناظر إلى حياة أسلافنا الصالحين ليرى أنهم كانوا يعيشون في سعادة وطيب حياة، لا يكدرها الهم، ولا ينقصها الحزن، وكثير من الناس في هذه الأيام غارق في القلق والهموم والأحزان والأمراض النفسية، ففتحت لأجلها مشافي، وعيادات خاصة، وما كان أولئك السعداء السابقون بأحسن دنيا منا بوسائلها الحديثة، وأنظمتها السريعة، وسهولة لقمة العيش، فنحن اليوم في عصر التكنولوجيا الحديثة التي قربت البعيد، وأنطقت الحديد، وسهل الله بها كثيراً مما صعب على من قبلنا، فلماذا ضاق عيشنا أكثر منهم، وتكدرت حياتنا، ورغدت حياتهم؟!







إن من وراء ذلك أنهم عاشوا مؤمنين بالله وقضائه وقدره، واكتفوا من عيشهم بما قُسم لهم، وعملوا ولم يعرفوا فراغ حضارتنا الحديثة، وحيوا متحابين متآلفين، معتزين بهذا الدين، حاملين له ومبلغين غيرهم، ومدافعين عنه أعداءهم بالجهاد في سبيل الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى؛ فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم)[10].







عباد الله، لا يمكن أن يعيش الإنسان في هذه الحياة دون أن يمرّ به يوم شرور، كما مرَّ به يوم سرور، لكن ما يميز المؤمنَ أنه يعرف طبيعة هذه الدنيا: بأنه لا راحةَ تامةً، ولا سعادة مكتملة فيها، فهي سجن في حقيقتها عما ينتظره في دار البقاء، ويصيب الكافرَ من الشقاء والعناء أعظم مما يصيب المؤمن، وإن رؤي بين الناس أنه في نعيم، لكن ذلك الشقاء يعتبر جنة له أمام ما ينتظره من العذاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )[11].







فلا يستريح المؤمن راحة تامة إلا بإطلاق أسره من قيد الدنيا كما جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرّ عليه بجنازة فقال: (مستريح ومستراح منه). قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ قال: (العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب )[12].







فالراحة والسعادة التي لا كدر ولا حزن فيها هناك هناك في جنة عرضها الأرض والسموات.







أيها الناس، إن أردتم السعادة والحياة الطيبة فما أقرب طريقها! ولكن أين السالكون؟.







فمن أراد السعادة فليلزم طاعة الله، ولينبذ معصيته، وليفهم الإسلام فهماً شمولياً، وليكن على علم وبصيرة ودراية لا يمرضها الجهل بدين الله وقلة الإيمان بالله، وضعف التسليم لقدره وقضائه، ولينتزع من نفسه حزازاتها ووسائل تقاطعها مع الآخرين، وليغرس حب الآخرين وإرادة الخير لهم.







فالسعيد من انتصر على نفسه فصارت رهن أمره، والشقي من تسلطت عليه نفسه فصار رهن أمرها.







فهذه السعادة بين حناياك كامنة، وبيدك جلبها أو دفعها، فلا تهرب من بين يديك.



يا باحثين عن السعادة إنها لتطل من بين النفوس وتعجب



أنت الذي تسطيع رسم حدودها ولأنت من جعل الشقاوة تغلب!



هذا وصلوا وسلموا على النبي المختار، وآله الأطهار، وصحابته الأبرار.......







[1] ألقيت في مسجد ابن تيمية في 21 /11 /1428هـ، إب-الدليل.




[2] رواه مسلم.




[3] رواه مسلم




[4] رواه البخاري.




[5] متفق عليه




[6] رواه أبو داود وابن ماجه، وهو صحيح.




[7] رواه الترمذي والنسائي في الكبرى، وهو صحيح.





[8] رواه مسلم




[9] رواه الطبراني في معجميه: الكبير والأوسط، وهو حسن.




[10] رواه أحمد وابن حبان، وهو حسن.




[11] رواه مسلم.




[12] متفق عليه






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.96 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.51%)]