ومن السَّعادة أن تَعرف الحقَّ من الباطل والباطل من الحق؛ ليطمئِنَّ قلبُك أنَّك على الحقِّ؛ وذلك لا يُنال إلاَّ بالعلم الصحيح المستمَدِّ من الكتاب والسُّنة على فهم السَّلَف الصالح.
ومن السعادة أن تكون من المتمسِّكين بالحق، ومن أهله المُناصرين له، العاملين به، والداعين إليه، المُجانبين للباطل.
ومن السعادة أن تَعيش مَصُون العِرض والشَّرَف، مُتحلِّيًا بأحسن الأخلاق، ومتخلِّيًا عن الرَّذائل.
ومن السعادة أن تكون قدوةً للنَّاس في الخير، وأن تكون إمامًا لهم في الحسنات، والبعد عن السيِّئات؛ قال تعالى: ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74]. ولا ينال الإمامة إلا بالصبر واليقين كما قال تعالى في آية السجدة ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].
ومن السَّعادة أن تكون أقوالُك وأفعالك غيرَ مختلفةٍ كالمنافقين، كما يجب أن يكون ظاهِرُك وباطنك متَّفِقين.
ومن السَّعادة بِرُّك للوالِدَين؛ ليبَرَّك أبناؤك غدًا، ولِيُسعدوك كما أسعدتَ والِدَيك، أمَّا إذا كنت أبكيتَهما بعقوقك يومًا، فسيُبكيك أبناؤك غدًا لا مَحالة، والعياذ بالله.
ومن السَّعادة أن تبتعد عن المعاصي كلها فتجتنب عن الكبائر ولا تفعلها، وتترك الصَّغائر كذلك حسب استطاعتك كما أسلفنا.
ومن السَّعادة أن تكون من أهل الله وخاصَّتِه، الحافظين لكتابه، المتعاهدين له بالدراسة المتكرِّرة، القائمين به في صلاة اللَّيل، وفي الحديث الذي في السُّنن: ((فأوتِرُوا يا أهل القرآن)).
أَخْبَرَنَا جَدِّي أَبُو الْحُسَيْنِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، ثنا قُتَيْبَةُ، ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ ". رواهرواة السنن الأربعة والإمام أحمد رحمة الله عليهم.
وورد في مقابل ذلك النَّهي عن ذلك؛ أي: النوم عن القيام بالقرآن لِمَن حَفِظَه، ووَردَ في ذلك عقابٌ كما في الرُّؤيا التي أراها الله النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ومن السعادة أن يُثنِي عليك النَّاسُ بالخير لا بالشَّر، وأن تكون مألوفًا وآلفًا.
ومن السعادة ألاَّ تكون ممن ترَكَه الناس لِفُحشه، أو سوء أخلاقه.
ومِن السعادة ألاَّ تكون مصلحيًّا وانتِهازيًّا، بل تُحبُّ للناس ما تحب لنفسك، بل تُؤْثِرهم، وتَصْبر على الشدَّة في ذلك، وهي صفةٌ نادرة جدًّا، قلَّما توجد، خصوصًا في هذا الزَّمن.
ومن السعادة أن تكون مُتطوِّعًا ومتبَرعًا؛ فإنَّ هذا مِمَّا يجلب السعادة والبَرَكة في بيتك، فتنبَّهْ لهذا السرِّ؛ وذلك لِمُساعدتك الضُّعفاء والمساكين والمُعْوِزين، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: « رَأَى سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ »1 أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ « إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ »2 أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
1: البخاري: الجهاد والسير (2896) , والنسائي: الجهاد (3178) , وأحمد (1/173).
2: البخاري: الجهاد والسير (2896) , والنسائي: الجهاد (3178) , وأحمد (1/173).
ومن السَّعادة أن تَزْهد في أشياء الناس؛ لِيُحبَّك الناس، وأن تزهد في الدُّنيا؛ ليحبَّك الله؛ كما ورد ذلك في حديث عن أبي العبَّاسِ -سَهْلِ بنِ سَعْدٍ الساعديِّ- رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: (جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقالَ: يا رسولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِيَ اللهُ وأَحبَّنِيَ النَّاسُ.
فَقَالَ: ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ)). حديثٌ حَسَنٌ رواهُ ابنُ ماجَه وغيرُهُ بأسانيدَ حَسنةٍ.
ومن السعادة استِقامتك على هذا الدِّين، ومن السَّعادة حِرصُك على زيادة إيمانك، ومُحاسبة نفسك.
ومن السعادة أن تُدْرِك إيمانَك إذا ساءَتْ تربيةُ نفسك، وأرادت أن تنفَلِت عنك! وقد قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9-10].
ومن السعادة المبادَرة للتَّوبة إذا وقعَ منك ذنبٌ؛ حتَّى تكون أحسنَ مِن حالتك الأولى فإن ذلك يرضي ربك ويحزن شيطانك ويدحره.
ومن السعادة تعظيم الله وخشيته في السرِّ والعلن، بل ومراقبته.قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
ومن السعادة أن تكون عادلاً ومحبوبًا للناس. قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ [الأنعام: 152] وقال تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83] وقال تعالى: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ... ﴾ [الإسراء: 53] الآية فإذا لم تقل بالأحسن والأطيب فلا أقل من أن تقول بالحسن, خذ مثالا ًبسيطاً: تنادي أخاك بالأحسن فلابد إذن أن تقول يا أخي الحبيب أو يا أخي الكريم, تناديه بالحسن تقول يا أخي ولكن لا تقل له يا رجل أو نحو ذلك من الأقوال فإن ذلك قد يكون للشيطان فيه مدخل لينزغ بين الأحبة والإخوان, تريد أن تناديه باسمه لا بأس ولكن لابد أن تراعي مقام الرجل ودرجته فلا تقل له مثلا يا فلان وأنت قادر أن تناديه بكنيته. فإن كل هذا مما يجلب السعادة بين الأحبة والإخوان ويصون من البيوت من الخراب.
ومن السعادة رضاك بالقضاء والقدَر؛ بألاَّ تحزن لِما فات، ولا تَفْزع لما هو حاصل من المصائب، ولا تفرح إن كان خيرًا حاصلا بِمِلء فيك بطَرًا وطغياناً قال تعالى: ﴿ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: 76]، وقال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22 - 23]، فالفرَحُ الممنوع هو الفرح مع البطَر؛ كما هو ظاهرٌ في الآية، أمَّا إذا كان مع الشُّكر لله، والاعتِراف بنِعَم الله والخضوع له، فكما قال تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58]، وقد دخل النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مكَّة بعشرة آلاف، منتَصِرًا على أعدائه، منكِّسًا رأسه توَاضُعًا لله.
ومن السعادة حُزنك للآخرة لا للدُّنيا؛ لأنَّك لو حزنتَ لأَجْل مصيرك، وأشفَقْتَ مِن ذلك؛ فهذا أرجى أن تكون من أهل الجنَّة؛ لِمَا ورد في ذلك من الآيات في القرآن الكريم، منها الآيات التي سبقَت، ومنها قولُه تعالى: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ﴾ [المعارج: 28]، وهذا هو الميزانُ الصَّحيح للحزن.
وهذه الآية مما يُهيجك بالقلق والخوف في كلِّ وقت، مع الزُّهد في أشياء الدُّنيا، لا سيَّما إذا تفكَّرت فيما ستموت عليه؛ أهي خاتمةٌ حسَنة، أم سيِّئة والعياذ بالله؟
ولكن بالنَّظَر لِمَا ستَلْقى من جزاءٍ غدًا في الجنَّة؛ فأنت سعيد، ولست كالذي قال الله تعالى في شأنِه: ﴿ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴾ [الانشقاق: 13 - 15].
ومن السَّعادة أن تكون من المُوحِّدين المخلصين الحقيقيِّين.
ومن السعادة أن تكون من أهل السُّنة والجماعة، لا أهل الفِرَق والتفرُّق والأهواء.
ومن السعادة أن تَستمتع بما رزَقك الله من الرِّزق الحلال؛ على أن تكون قاعدتك: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]، وكان الإمامُ أحمد بن حنبل - رحمه الله - يحبُّ التقلُّل من الدُّنيا؛ لِطُول حِساب يوم القيامة، ولكن لا يَعني ذلك أن يَبقى النَّاسُ فقراء، ولكن المَقْصود أن تُخْرِج الفائضَ الكبير الذي عِندك للمُحتاجين وللمُعْوِزين الفقراء؛ ليسعد الناس كلهم في الدُّنيا والآخرة، وجعَلَنا الله من أهل الحقِّ والسَّعادة في الدُّنيا والآخرة، وفهَّمَنا ووفَّقَنا وأعاننا، ويسَّرَ لنا هذا الطريق المستقيم، وفي الحديث: ((من يُرِد الله به خيرًا يُفقِّهْهُ في الدِّين))، ومَفْهوم المخالفة: مَن لا يرد الله به خيرًا لا يفقههُ في الدِّين؛ أفاده الإمامُ ابن القيِّم - رحمه الله - في كتابه "مفتاح دار السَّعادة"؛ اهـ.
ولا أعلم دعاءً أعظم من هذا الدُّعاء: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، ولو كان دعاءٌ أعظمَ مِن هذا الدُّعاء، لوَضَعه الله في هذه السُّورة المباركة؛ أُمِّ الكتاب؛ إذْ هذا الدُّعاء العظيم لَم يقتصر بالهداية على الصِّراط المستقيم فقط، بل زاد الله - سبحانه وتعالى - على ذلك أن يكون هذا الصِّراطُ صراطَ الذين أنعمَ الله عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين، بل والأكثر من ذلك أنَّ الله سبحانه لَم يقتصر على ذلك أيضًا، حتَّى أوضحَ لنا طُرقَ المُنحرِفين، وهم الَّذين لا يَعْملون بعِلْمهم كاليهود، و الَّذين يعبدون ربَّهم على جهالةٍ كالنصارى.
ولذلك امتَنَّ الله - سبحانه وتعالى - على نبيِّه - في سورة الحجر -: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87] أن أعطاه القرآن، وسورة الفاتحة بصِفَة خاصَّة، وقد ذكَرَها الله منفصِلةً عن القرآن؛ لتبيين عِظَم مكانتها وشرَفِها عند الله، ثُم نصحَ سبحانه نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ووجَّهه بألاَّ يمدَّ عينيه إلى ما متَّعَ الله به غيرَه في هذه الحياة الدَّنيا، وألاَّ يَحْزن عليهم، وأن يَخْفض جناحَه للمؤمنين، ولنا في رسول الله أسوة حسَنة، فعلَيْنا أن نتَّبِعه على ذلك، ونتأسَّى به - بأبِي هو وأُمِّي.
ولكن - مع الأسف الشَّديد - قليلٌ مِن يفهم هذه الحقيقة.
وذلك لأنَّنا رأَيْنا كثيرًا من النَّاس - هَداهم الله - يَحْزنون للدُّنيا؛ حِرْصًا شديدًا عليها، وكأنَّهم لا يَعْرفون قَدْر هذه النِّعمة الَّتي أعطاهم الله؛ فقد روى عبد الله بن مسعود وأبو موسى- رضي الله عنهما- أنَّ أعرابيًّا سألَ النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: الرَّجلُ يحبُّ القوم، ولَمَّا يلحَقْ بهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المرء مع مَن أحبَّ)).
(حديث مرفوع) يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قثنا أَبُو الأَشْعَثِ أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلا قَالَ " يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: لا، إِلا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ: فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ". قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ بَعْدَ الإِسْلامِ فَرَحَنَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ: " إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ". قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ كُنْتُ لا أَعْمَلُ بِأَعْمَالِهِمْ. رواه الشيخان والإمام أحمد رحمهم الله.
وكلُّ هذا إن دلَّ على شيء، فإنَّما يدلُّ على علُوِّ هِمَّة الصَّحابة، ودنُوِّ الهمَّة عند كثيرٍ من الناس - والله المستعان - وأظنُّ الكثير منَّا يَعرف قصة الصحابي الذي كان من أهل الصُّفة، والذي كان لا يَمْلك من الدُّنيا إلاَّ الرِّداء الذي كان يَرْبِطه على عنُقِه؛ كهيئة الصِّبيان، وكان الرجل يَخْدم النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلما وضَّأَه ذاتَ يوم، قال له النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تَمنَّ)).
بالله عليكم، انظُروا إلى أمنيَّة هذا الصحابي الجليل الذي كانت حالته الاقتصاديَّة كما أشَرْنا إليه آنِفًا.
قال: أسألك مُرافقتَك في الجنَّة، فقال له النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فأَعِنِّي على نفسك بكثرة السُّجود)).
ونص الحديث:
عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: " سل؟ ". فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: " أو غير ذلك" قلت: هو ذاك. قال: " فأعني على نفسك بكثرة السجود "؛ رواه مسلم والنسائي وأبو داود.
ونسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يَمنَّ علينا - بِمَنَّه وكرَمه إنَّه هو المولى والقادر على ذلك؛ فنِعْم المولى ونعم النَّصير. - بقلوبٍ مُنشرحة للإسلام، ليِّنةٍ ورقيقة بذِكْر الله؛ كما مدَحَ رسولُ الله بذلك أهلَ اليمَن في الحديث المتفق عليه، ورَحِم الله الشيخين البخاريَّ ومسلِمًا؛ فقَدْ رَوَيا في صحيحَيْهما عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - عن النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أتاكم أهل اليمَن، أضعَفُ قلوبًا، وأرَقُّ أفئدةً، الفقه يَمَان، والحِكْمة يَمَانيَّة)).
وقد قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 22].
والله أعلم.
[1] راجع شرح هذا الحديث للشيخ الخضيري في شرحه للتجريد الصريح
وأرى ما جاء في آخر فقرات الحديث - وهو قوله صلى الله عليه وسلم- (ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك) للذين لم يتوبوا أو تابوا ولكن لم تكن توبتهم نصوحا ومقبولة عند الله كما أشرنا مثل هذه المسألة في آية سورة فاطر, إذ التائب من الذنب كمن لا ذنب له وقد قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾.
وهكذا ما جاء في قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ للذين ماتوا على الشرك أو عدم التوبة عن الكبائر, أما الأحياء الذين اقترفوا على هذه الشركيات والعظائم من الذنوب فقد فتح الله لهم أبواب التوبة على مصراعيها كما قال قال تعالى في آية الزمر: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ بل لعظم رحمة الله الوسعة يبدل الله السيئات ولو كانت كبائر حسنات كما قال تعالى في آية الفرقان: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا﴾ والله أعلم.