فلا يقدر على تحويل الحال، وتغيير الوضع من فقر إلى غنى، ومن مرض إلى صحة ومن ضيق إلى سعة إلا القادر الذي لا يعجزه شيء، والقاهر الذي لا يغلب ولا ينازع وهو الله عز وجل وحده فهو الذي يداول الدنيا بين الناس، ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾، فهو الذي يداولها بين خلقه على وفق ما يشاء "يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن" فمن شأنه أن يجيب داعيًا أو يعطي سائلًا أو يفك عانيًا أو يشفي سقيمًا أو يكشف كربًا أو يغفر ذنبًا أو يجيب مضطرًا.
"يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن"، قال قتادة: لا يستغني عنه أهل السموات والأرض يحيي حيًُا ويميت ميتًا ويربي صغيرًا ويفك أسيرًا وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ومنتهي شكواهم. [14]
نعم - أيها الإخوة - إن ربكم عز وجل كل يوم هو في شأن فيعتق رقابًا، ويعطي رغابًا ويقحم عقابًا ويرفع أقوامًا ويضع آخرين: "قل اللهم مالك الملك" الآيتين آل عمران.
هذا ما يملكه ربنا، فما الذي يملكه الفقراء الضعفاء من الصالحين أو الأولياء، لا شيء ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السموات وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ [فاطر: 1-3].
هل من خالق غير الله والجواب: لا، حاشا لله، فلا الأولياء ولا الأنبياء يملكون فرجًا ولا غيره لأحد وربما قال بعض الأحبة: إننا نسمع عن بعض من يفعلون ذلك أي يستغيثون عند القبور والأضرحة، تجاب دعواتهم وتفرج كرباتهم وتقضى حوائجهم أفلا يكون ذلك دليلًا على صحة حالهم.
والجواب أيها الكرام الأحباب: بأن هذه الأحوال الشيطانية التي تحصل لعباد القبور من قضاء الحاجات هي ابتلاء من الله وامتحان منه عز وجل لكلا الطرفين الداعي والرائي، للذي دعا غير الله والذي يراه، فأما بالنسبة للرائي: هل يتزعزع في قلبه الثقة والرضا بأن الله هو المجيب، وأما بالنسبة للداعي فهو استدراج له من الله عز وجل يمهلهم الله ويستدرجهم ليزدادوا إثمًا ورهقًا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والحديث أخرجه أحمد وغيره من حديث عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد ما شاء، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه له" ثم تلا ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾"[15].
وقد قال الله تعالى في حق الكافرين: ﴿ فلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 44]، - أيها الإخوة - لقد كان المنتظر لما نسوا ما ذكروا به وكذبوا الله تعالى ورسله – عليهم الصلاة والسلام - أن يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، أو ينزل عليهم رجزًا من السماء أو يسقط الله عليهم كسفًا من السماء، أو تأخذهم الصيحة أو الرجفة.
لكن الله قال: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾، أعطيناهم الخيرات جميعها وفتحنا عليهم أبوابها وليس هذا عطاء بل هو استدراج وبلاء.
فقد قال - عز وجل -: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44]"، هذا هو استدراج الله تعالى لعباده ﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ [الأعراف: 183]. استدراج من الله لهم لما عصوه وذكروا فما تذكروا ونصحوا فما انتصحوا، فالاجتماع وبذل الطاعات للقبور كما نرى من الطواف والدعاء والذبح والنذر لها هذا كله شرك ما فعله أحد من السلف ولا من صالحي هذه الأمة من بعدهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (قد كان من قبور أصحاب رسول الله بالأمصار عدد كثير، وعندهم التابعون، ومَن بعدهم مِن الأئمة، وما استغاثوا عند قبر صاحب قط، ولا استسقوا عند قبره ولا به، ولا استنصروا عنده ولا به. ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه، ومن تأمل كتب الآثار، وعرف حال السلف، تيقن قطعاً أن القوم ما كانوا يستغيثون عند القبور، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلاً، بل كانوا ينهون عن ذلك من كان يفعله من جُهّالهم)[16].
ويقول ابن القيم مبيّناً أن صنيع القبوريين مفارق لما كان عليه سلف الأمة متسائًلا بما يقطع حبل القبوريين ويذبح عقائدهم بأحد سكين فيقول: (هل يمكن لبشر على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم [أي: السلف الصالح] بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلاً أن يصلّوا عندها، أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم، فليوقفونا على أثر واحد، أو حرف واحد في ذلك...)[17]
ولا زال التساؤل قائمًا؛ فهل يجيب عنه أحد من هؤلاء لو استطاع؟! ويقول العلامة الصنعاني: (إن أردت الإنصاف وتركت متابعة الأسلاف، وعرفت أن الحق ما قام عليه الدليل، لا ما اتفق عليه العوالم جيلاً بعد جيل وقبيلاً بعد قبيل؛ فاعلم أن هذه الأمور التي ندندن حول إنكارها، ونسعى في هدم منارها صادرة عن العامة الذين إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل، ينشأ الواحد فيهم فيجد أهل بلدته يلقنونه: أن يهتف باسم من يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون له، ويرحلون إلى محل قبره، فنشأ على هذا الصغير، وشاخ عليه الكبير، ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير؛ ولا يخفى على أحد يعرف بارقة من علم الكتاب والسنة والأثر أن سكوت العالم على وقوع المنكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر)[18].
ويقول العلامة الشوكاني: (اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة - رضي الله عنهم - إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء عليها من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول صلى الله عليه وسلم لفاعلها، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين)[19]
ثالثا: من صور دعاء غير الله تعالى والاستغاثة بغيره سبحانه: الاستغاثة بالصالحين الأحياء غير الحاضرين في مكان المستغيث أو الاستغاثة بهم وهم حضور لكن في غير ما يقدرون عليه ولا يستطيعه إلا الله عز وجل وهذا موجود بل حدثنا بعض العلماء الأفاضل بأنه ركب حافلة مع أتباع شيخ يريد أن يرى أفعالهم وأحوالهم يقول: وفي بعض الطريق لما رجعنا قافلين عائدين توقفت السيارة فجأة حتى انقلب بعضنا فوق بعض فما كان منهم إلا أن صاروا ينادون على شيخهم الغائب الذي تركوه وراءهم في الحلقة أو الحضرة فإذا هم يقولون: أغثنا يا شيخنا فلان مدد، نظرة، ونحو هذا من كلامهم.
ولازلت أذكر شيئًا طريفًا جدًّا يردده عندنا الناس متضاحكين به متندرين وهو أن رجلًا مزارعًا شارك رجلًا غنيًّا ثريًّا على جاموسة ومعلوم أن ما تلده من العجول يكون لصاحب المال الغنى نصفه ولصاحب الرعاية الفلاح نصفه الآخر، وفى مرة من مرات ولادتها تعسرت الجاموسة فما كان من امرأة ذلك الفلاح إلا أن قالت: يا سيد يا بدوى إن نزل هذا العجل فلك نصفه فنظر إليها زوجها الذى كان يعالج العجل ليخرج وقال - بصوت ساخر -: يا سيد يا بدوى لك نصفه ثم قال: الله! لفلان - يعنى شريكه الغنى- لفلان نصفه وللسيد البدوي نصفه وأطلع أنا منها بلا شيء، ارجع يا عجل إلى بطن أمك.
فهذه الصورة وغيرها - أيها الإخوة - من الشرك بالله تعالى فقد قال عز من قائل: ﴿ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس: 106].
فالداعي يبتغي النفع والضر ويسلم الوجه ويقصد الخير من يدي من يدعوه ويتوجه إليه ويرجوه ويعلق قلبه به حال قصده وبعده ويرغب إليه وينطرح ويتذلل بين يديه فمن فعل ذلك مع غير الله - سبحانه وتعالى -، بالله تعالى عليكم هل بقى له من اسم الإسلام شيء؟ كلا وربي إنه لمشرك.
قال النعمي - ولله دره فيما قال -: "إن من أمعن النظر في آيات الكتاب وما قص من محاورات الرسل مع أممهم وجد أن أس الشأن ومحط رحال القصد شيوعًا وكثرة وانتشارًا وشهرة هو دعاء الله وحده وإخلاص العبادة له فمن فعل ذلك مع غير الله كان مشركًا شاء أم أبى شركًا أكبر سواء كان هذا المدعو نبياً أو ولياً أو ملكًا أو جنياً أو حياً أو ميتاً. قال تعالى: ﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾"، ولله در شيخ الإسلام وعطر الأنام ابن تيمية إذ يقول: "ومن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان أن يدعي غير الله فإن ذلك من الشرك والله لا يغفر أن يشرك به".[20]
بل أحدثكم - أيها الإخوة - بما قد تعجبون له عجبًا شديدًا: إن الميت لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا ولا لغيره، وأما هذا الغير فإنه يملك ذلك للميت فيما يقدر عليه، فنحن نستطيع أن ننفع السيد البدوي وهو لا يستطيع ذلك، ونملك أن ننفع الدسوقي والجيلاني والرفاعي بدعوة وهم لا يملكون ذلك-وها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استغاث برجل مسلم موحد من خطر كان يحيق به وهو ميت في قبره، لأن ذلك المسلم يستطيع دفع هذا الخطر عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقد ذكر ذلك الطبري في تاريخه وابن كثير في البداية والنهاية أنه في عصر السلطان الزاهد التقي العابد الورع النقي الطاهر نور الدين محمود زنكي رحمه الله تعالى فقد أراد المجرمون الخبثاء اليهود والنصارى أن يخرجوا جثمان النبي الطاهر صلى الله عليه وسلم من قبره فأرسل المجرمون رجلين في زي المغاربة لعمل ذلك، لكن الله أحبط كيدهم بهذا السلطان العظيم، والقصة كما حكاها الطبري: أن السلطان محموداً رأى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات في ليلة واحدة، وهو يقول له في كل واحدة منها: يا محمود أنقذني من هذين الشخصين الأشقرين فحلفه، فاستحضر وزيره قبل الصبح فذكر له ذلك فقال: هذا أمر حدث بالمدينة ليس له غيرك، فتجهز وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك حتى دخل المدينة الشريفة على غفلة من أهلها، وزار وجلس في المسجد لا يدري ما يصنع، فقال له وزيره: أتعرف الشخصين إذا رأيتهما؟ قال: نعم، فأمره بالصدقة وطلب الناس عامة وفرق عليهم ذهباً وفضة، وقال: لا يبقين أحد بالمدينة إلا جاء، فلم يبق إلا رجلين مهاجرين من أهل الأندلس نازلين في الناحية التي تلي قبلة حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فطلبهما للصدقة فامتنعا، فجد في طلبهما فجيء بهما فلما رآهما، قال: هما هذان فسألهما عن حالهما، فقالا: جئنا للمجاورة، فقال: اصدقاني، وتكرر السؤال حتى أفضى إلى معاقبتهما، فأقرا أنهما من النصارى وأنهما وصلا لكي ينقلا من في هذه الحجرة المقدسة باتفاق من ملوكهما، ووجدوهما قد حفرا نقباً من تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبلي، وهما قاصدان إلى جهة الحجرة الشريفة، ويجعلان التراب في بئر عندهما في البيت الذي هما فيه، فضرب أعناقهما عند الشباك الذي في شرقي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم خارج المسجد، ثم أحرقا آخر النهار، وركب وتوجه إلى الشام....."[21]
أيها الإخوة! لا شك على الإطلاق أن القلوب اطمأنت أو هي بحمد الله مطمئنة من قبل ذلك إلى أن ربنا عز وجل هو الذي ترفع إليه الأيادي وحده كما تحنى الجباه له عز وجل وحده والسؤال الذي يلح علي الآن - أيها الإخوة -: إذا كانت هذه قيمة الدعاء ومكانته وهذا قدره وشأنه فأين الدعاء في حياتنا؟ وهذا العتاب محله الخطبة الثانية بعد جلسة الاستراحة وأسأل الله لي ولكم من فضله.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.
أما بعد، فيا أيها الإخوة! أين الدعاء في حياتنا؟
لا شك أن الدعاء عبادة مهجورة في حياتنا وواقعنا اليوم غاية الهجران، وقلما يفكر أحدنا في ساعة يخلو فيها إلى نفسه يناجي فيها ربه ويتوجه فيها إليه بحوائجه وطلباته.
وأستطيع أن أضع بين يدي حضراتكم الآن الأدلة على هجراننا الدعاء مع أن الدعاء صفة العقلاء كما في بعض الآثار عما جاء في صحف موسى وإبراهيم عليهما السلام: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن تكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيها في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب.
وفي مسند أحمد بسند صحيح من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أصاب أحدًا قط هم ولا حزن فقال: "اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيّ حكمك عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن الكريم العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله حزنه وأبدله مكانه فرحا".
فقيل: يا رسول الله! ألا نتعلمها؟ قال: "ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها".[22]
فلا ينبغي - أيها الإخوة - أن نغفل أبدًا عن الدعاء فهو السهم الماضي الذي لا يخطئ، نعم الدعوات كالسهام ربما تبطئ لكنها أبداً لا تخطئ.
أتهزأ بالدعاء وتزدريه
وما يدريك ما صنع الدعاء 
سهام الليل لا تخطئ
ولكن لها أمد وللأمد انقضاء 
أيها الإخوة!
من منا يدعو الله أن يثبته على الإيمان وأن لا يزيغه عنه؟ من منا يدعو الله أن يصلح شئونه وييسر أموره؟ من منا يستخير الله تعالى قبل كل عمل يقدم عليه؟ من منا يستعين الله على تربية أبنائه ويدعو لهم بالصلاح والفلاح؟ ألم أقل لحضراتكم إننا قد هجرنا الدعاء؟ فلنعد إلى روضة الدعاء مع الأخذ بالأسباب المادية فلا ينبغي في غمرة الأخذ بالأسباب المادية المتاحة أن نغفل عن الدعاء، فإنه لا يكون شيء إلا بأمر الله وقدره، لكن ينبغي - أيها الإخوة - أن يكون الدعاء بشروطه الشرعية مع انتفاء موانع الإجابة حتى يستجيبه الله تعالى.
فما هي شروط الدعاء؟
أولًا: الإخلاص: وهو تصفية الدعاء والعمل من كل ما يشوبه، وصرف ذلك كله لله وحده، لا شرك فيه، ولا رياء ولا سمعة، ولا طلباً للعرض الزائل، ولا تصنعاً وإنما يرجو العبد ثواب الله ويخشى عقابه، ويطمع في رضاه.
ثانيًا: المتابعة، وهي شرط في جميع العبادات، لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾. والعمل الصالح هو ما كان موافقاً لشرع الله تعالى ويُراد به وجه الله سبحانه. فلا بد أن يكون الدعاء والعمل خالصاً لله صواباً على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: الثقة بالله تعالى واليقين بالإجابة، لأنه تعالى يقول للشيء كن فيكون، قال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ ومما يزيد ثقة المسلم بربه تعالى أن يعلم أن جميع خزائن الخيرات والبركات عند الله تعالى، قال سبحانه: ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "يدُ الله ملأى لا يَغِيضُها نَفَقةٌ سحّاءُ (سحَّاءُ: أي دائمة الصب تصب العطاء صبّاً ولا ينقصها العطاء الدائم في الليل والنهار،[23] الليلَ والنهارَ أرأيتُم ما أنفقَ مُذْ خلَقَ السماءَ والأرض فإنه لم يغِضْ ما في يده وكان عرشُهُ على الماءِ وبيده الميزان يخفض ويرفع.
رابعًا: حضور القلب والخشوع والرغبة فيما عند الله من الثواب والرهبة مما عنده من العقاب وقد جاء في حديث أبي هريرة عند الإمام الترمذي: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ"[24].
خامسًا: العزمُ والجَزم ُوالجِدُّ في الدعاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يَقُولَنَّ أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة وليُعظِّم الرغبة فإن الله لا يتعاظمُهُ شيءٌ إلا أعطاه"[25] هذا عن شروط قبول الدعاء.
وأما موانع إجابة الدعاء فهي:
أولًا: الوقوع في الحرام:
أكلاً، وشرباً، ولبساً، وتغذية فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إن الله طيّبٌ لا يقبلُ إلا طيباً، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: ﴿ يَآ أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾. وقال: ﴿ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا ربِّ! يا ربِّ! ومطعمُهُ حرامٌ، ومشربُهُ حرامٌ، وملبسُهُ حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام فأنَّى يُستجاب لذلك"[26]
ثانيًا: الاستعجال وترك الدعاء لتأخر الإجابة:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُستجاب لأحدكم ما لم يعجلْ فيقول: قد دعوتُ فلم يُستجَبْ لي"[27]
ثالثًا: ارتكاب المعاصي والمحرمات:
ولهذا قال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طريقها بالمعاصي، وأخذ هذا بعض الشعراء فقال:
نحنُ ندعو الإله في كلِّ كربٍ
ثمَّ ننساه عند كشف الكروبِ 
كيف نرجو إجابةً لدُعاءٍ قد
سددْنا طريقها بالذنوب[28] 
رابعًا: ترك الواجبات التي أوجبها الله:
فعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأْمُرُنَّ بالمعروفِ ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يبعثَ عليكم عِقاباً منه ثمَّ تدعونَهُ فلا يُستجابُ لكم"[29]
خامسًا: الدعاء بإثم أو قطيعة رحم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يزالُ يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعةِ رحمٍ ما لم يستعجل". قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: "يقول قد دعوتُ، وقد دعوتُ فلم أرَ يستجيبُ لي فيستحسر عند ذلك ويدعُ الدعاءَ". [30]
فإذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع استجيب للعبد إن شاء الله في دعائه واستغاثته واستعاذته، فلنضرع إلى جبار السموات والأرض وملك السموات والأرض فليس أحد أرحم بنا من الله - عز وجل - "لتتعلم شريف الخطابِ معه؛ فتناجيهِ وتناديهِ وتدعوهُ وترجوه، فإن وجدْتهُ وجدْت كلَّ شيءٍ، وإن فقدت الإيمان به فقدت كلَّ شيء، إن دعاءك ربَّك عبادةٌ أخرى، وطاعةٌ عظمى ثانيةٌ فوق حصولِ المطلوبِ، وإن عبداً يجيدُ فنَّ الدعاءِ حريٌّ أن لا يهتمَّ ولا يغتمَّ ولا يقلق، كل الحبال تتصرّم إلاَّ حبلُه، كلُّ الأبوابِ توصدُ إلاَّ بابهُ، وهو قريبٌ سميعٌ مجيبٌ".[31]
وأخيرًا اعلم أن عبد السوء هو من يدعو الله في الضراء فإذا فرج عنه نساه، ومن يعبد الله في الضيق فإذا وسع عليه نسب السعة إلى غيره من الشركاء وهذه حال كثير من الناس ولا حول ولا قوة إلا برب الفلق والناس، فحالنا كما قيل:
كم نطلب الله في ضر يحل بنا
فإن تولت بلايانا نسيناهُ 
نرجوه في البحر أن يرعى سفينتنا
فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه 
ونركب الجو في أمن وفي دعة
فما سقطنا لأن الحافظ الله 
ننساه بعد نجاة في امتحان غدٍ
وإن رسبنا وأكملنا دعوناه 
عُمي عن الذكر والآيات تندبنا
لو كلم الذكر جلمودًا لأحياه 
أقول قولي هذا وأسأل الله أن يعصمنا من استدراج الشيطان وضلاله، وأن يسددنا لما يقرب من طاعته وبلوغ مرضاته، اللهم اجعلنا من الذين يخافونك وحدك فلا يرهبون إلا أنت، ولا يخشون إلا أنت، ولا يذلون إلا لما في يديك الكريمتين، ولا يقفون إلا ببابك ولا يلوذون إلا بجنابك، ولا يستعينون إلا بك، ولا يستعيذون إلا بك، ولا يستنزلون إلا بركاتك، يا أرحم الراحمين ويا رب العالمين، ......الدعاء.
[1] أخرجه أبو داود 2 / 78، والترمذي 5 / 211، وابن ماجه 2 / 1258، وانظر صحيح الجامع الصغير 3 / 150، وصحيح ابن ماجه 2 / 324.
[2] أخرجه أبو داود 2/ 78 1488، والترمذي 5/ 557، وابن ماجه 2/ 1271، والبغوي في شرح السنة 5/ 185، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 3/ 179 وصحيح ابن ماجه 3865. وصفرًا أي: خاوية.
[3] أخرجه أحمد (3/ 18)، وحسنه العلامة أحمد شاكر رحمه الله.
[4] الجواب الكافي (ص22، 23، 24) نقلًا من "شروط الدعاء وموانع الإجابة في ضوء الكتاب والسنة - (ص10)، لسعيد بن علي بن وهف القحطاني.
[5] أخرجه أحمد في المسند 3/ 18، وهو في الترمذي عن جابر بن عبدالله 3381، وعن عبادة بن الصامت 3573، وحسنهما الألباني في صحيح الترمذي 3/ 140، 181.
[6] أخرجه الترمذي 5/ 456، 3373، وابن ماجه 2/ 1258، وأحمد 2/ 442، وحسن إسناده الألباني في صحيح الترمذي 3/ 138.
[7] أخرجه البخاري (4205).
[8] الجواب الكافي - (ص 7).
[9] لا تحزن.
[10] لا تحزن.
[11] لا تحزن.
[12] انظر: الدرر السنية، 9/ 418، واقتضاء الصراط المستقيم، 2/ 705.
[13] أخرجه ابن هشام في السيرة النبوية (1/ 420)، عن ابن إسحاق، وأخرجه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن جعفر، وقال الهيثمي (6/ 35) بعد أن عزاه للطبراني: "وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة وبقية رجاله ثقات"، وحكم عليه الألباني في تخريج فقه السيرة للغزالي (ص132) بالضعف والحديث ضعفه الأرناؤوط في تخريج زاد المعاد (3/ 130). لكن ألفاظ الحديث ينقدح منها نور مشكاة النبوة.
[14] تفسير ابن كثير - (7 / 495).
[15] أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (4926)"مجمع البحرين"، والبيهقي في شعب الإيمان (4540) من طريق عبد الله بن صالح عن حرملة بن عمران به، وأخرجه أحمد (4/ 145)، والدولابي في الكنى (1/ 111)، وقد حسنه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (3749).
[16] اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 681).
[17] إغاثة اللهفان، 1/ 318.
[18] تطهير الاعتقاد، ص 36، باختصار.
[19] شرح الصدور ص 8.
[20] الرد على البكري (ص 95)، شيخ الإسلام ابن تيمية.
[21] نقلًا من خطب الشيخ محمد حسان 1/ 143، مكتبة فياض.
[22] أخرجه أحمد (3784)، وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (198).
[23] انظر: الفتح (13/ 395).
[24] أخرجه الترمذي 3479، وحسنه الألباني في الصحيحة (594)، وصحيح الترمذي (2766).
[25] أخرجه البخاري (339)، ومسلم (2679).
[26] أخرجه مسلم (1015).
[27] أخرجه البخاري (6340)، ومسلم (2735).
[28] جامع العلوم والحكم 1/ 377.
[29] أخرجه الترمذي 2169، وغيره، وهو في صحيح الجامع (6947).
[30] أخرجه مسلم 4/ 2096، ومعنى يستحسر: أي ينقطع عن الدعاء ومنه قوله تعالى: ﴿ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ﴾ أي لا ينقطعون عنها. انظر الفتح 11/ 141، وانظر: شروط الدعاء وموانع الإجابة في ضوء الكتاب والسنة ، للشيخ المفضال سعيد بن على بن وهف القحطاني وفقه الله.
[31] لا تحزن.