الموضوع: خطبة عن الفساد
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 15-08-2020, 03:09 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,455
الدولة : Egypt
افتراضي خطبة عن الفساد

خطبة عن الفساد


الشيخ سعد الشهاوي




الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء عنده بأجل مسمى يعطى ويمنع، ويخفض ويرفع ويضر وينفع، لا مانع لما أعطى ولا معطى لما يمنع. يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل. يعلم الأسرار، ويقبل الأعذار، وكل شيء عنده بمقدار سبحانه كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ: غِنى كُلِّ فَقِيرٍ، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ، مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ، وَمَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ، وَمَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَمَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
ربي لك الحمد العظيم لذاتك
حمدًا وليس لواحد إلاَّك

يا مدرك الأبصار والأبصار
لا تدري له ولِكُنْهِهِ إدراكًا

ولعل ما في النفس من آياته
عجب عجاب لو ترى عيناك

والكون مشحون بأسرار إذا
حاولْتَ تفسيرًا لها أعياك

إن لم تكن عيني تراك فإنني
في كل شيء أستبين عُلاك


من للعباد غيره يدبر الأمر ومن يعدل المائل من يشفى المريض ومن يرعى الجنين فى بطون الحوامل من يحمى العباد وهم نيام وهل لحمايته بدائل من يرزق العباد ولولا حلمه لأكلوا من المزابل من ينصر المظلوم ولولا عدله لسووا بين القتيل والقاتل ومن يظهر الحق ولولا لطفه لحكم القضاة للباطل من يجيب المضطر اذا دعاه وغيره استعصت على قدرته المسائل من يكشف الكرب والغم ومن يفصل بين المشغول والشاغل من يشرح الصدور ولولا هداه لنعدم الكوامل من كسانا. من أطعمنا وسقانا.. من كفانا وهدانا من خلق لنا الأبناء والحلائل من سخر لنا جوارحنا ومن طوع لنا الأعضاء والمفاصل من لنا إذا انقضى الشباب وتقطعت بنا الأسباب والوسائل هو الله,,, هو الله...هو الله الإله الحق وكل ما خلا الله باطل

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، أرسله ربه رحمة للعالمين وإماماً للموحدين وقدوة للمتقين الصابرين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غُلفاً. اللهم اجزِه عنا أفضل ما جزيت نبياً عن أمته، وأَعْلِ على جميع الدرجات درجته، واحشرنا تحت لوائه وزمرته، وأوردنا حوضه في الآخرة. وصلى اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وسلم تسليماً كثيراً.
صلى عليك الله يا علم الهدى
واستبشرت بقدومك الأيام

هتفت لك الأرواح من أشواقها
وازينت بحديثك الأقلام

♦♦♦
.. وشغلتم كلمي بكم وجوارحي
وجوانحي أبداً تحن إليكم

وإذا نظرت فلست أنظر غيركم
وإذا سمعت فمنكم أو عنكم

وإذا نطقت ففي صفات جمالكم
وإذا سألت الكائنات فعنكم

وإذا رويت فمن طهور شرابكم
وبذكركم في خلوتي أترنم


عباد الله: الإسلام دين الصلاح والإصلاح، يدعو إلى الخير وينهى عن الشرّ والإفساد والإفسادُ في الأرض شِيمَة المجرِمين، وطبيعة المخرِّبين، وعمل المفسِدين، ففيه ضَياعٌ للأملاك، وضِيقٌ في الأرزاق، وسُقُوطٌ للأخلاق، إنَّه إخفاقٌ فوق إخفاق، يُحوِّل المجتمع إلى غابَةٍ يأكُل القوي فيه الضعيف، وينقضُّ الكبير على الصغير، وينتَقِم الغني منَ الفقير، فيزداد الغنيُّ غنًى، ويزداد الفقير فقرًا، ويَقوَى القويُّ على قوَّته، ويضعُف الضعيف على ضعفه!. والفسادُ داءٌ مُمتدٌّ لا تحُدُّه حدودٌ، ولا تمنعُه فواصِلُ، يطَالُ المُجتمعات كلَّها مُتقدِّمها ومُتخلِّفها بدرجاتٍ مُتفاوِتة.

وشرائع السماء كلها نهت عن الفساد في الأرض ودعت الناس إلى عدم الانقياد لهم أو معاونتهم فإن من أعان المفسدين أو رضي بأفعالهم أو تستر عليهم فهو شريك لهم في الإثم، وقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال ﴿ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2] وقال تعالى: ﴿ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾ [الشعراء152] و قال تعالى: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ [الأعراف: 56].

هذه الآيات العظيمة، وغيرها مما يقارب خمسين آية في كتاب الله تعالى كلها تحذر من الفساد بجميع صوره وأشكاله وأنواعه والتحذير من الفساد جاء عاماً، للتحذير من كل صور الفساد،ولم يخصص نوعاً من أنواع الفساد؛ حتى يبتعد المسلمون عن جميع الصور.

والإفساد في الأرض أمر يجب التحذير منه والتنبه له، لأنه أمر مخالف لدعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام الذين جاءوا بالإصلاح في الأرض، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله عز وجل.

وتتابعت رسُل الله وأنبياؤه ينهَون عن الفساد في الأرض:
قال نبيّ الله صالح عليه السلام لقومه: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 74] ونبيُّ الله شعيب يقول لقومه: ﴿ وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [هود: 85]، ونبي الله موسى يخاطب أخاه نبيَّ الله هارون قائلاً له: ﴿ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 142]، وقال مخاطبًا آلَ فرعون، قال لهم: ﴿ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 81]. وصالحوا البشر يخاطبون قارون قائلين له: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77].

وَالنَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي تَحْدِيدِ الصَّلَاحِ مِنَ الْفَسَادِ، وَالْإِصْلَاحِ مِنَ الْإِفْسَادِ بِحَسَبِ أَدْيَانِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ، وَإِلَّا فَإِنَّ الصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ يَدَّعِيهِ كُلُّ أَحَدٍ، وَالْفَسَادَ وَالْإِفْسَادَ يَتَبَرَّأُ مِنْهُ كُلُّ النَّاسِ، وَالْمُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ لَا يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ، وَمَلَاحِدَةُ الْبَشَرِ يَرَوْنَ أَنَّ الدِّينَ هُوَ الْمُفْسِدُ لِلنَّاسِ؛ وَلِذَا يُحَارِبُونَهُ لِتَحْرِيرِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْهُ كَمَا يَزْعُمُونَ، وَقَدِيمًا قَالَ فِرْعَوْنُ الطَّاغِيَةُ وَهُوَ رَأْسٌ فِي الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ يقول لقومه عن موسى عليه السلام: ﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 26]. ففرعون سمَّى دينَ موسى عليه السلام فسادًا ويصف موسى عليه السلام بأنه يسعى في الأرض فسادًا، وفرعون أعظم المفسدين والمسرفين. فهو الذي قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24] يرى أنه مصلح، وهذا من انتكاس الفطر والعياذ بالله. وقال تعالى عن قوم فِرعون أنّهم قالوا له: ﴿ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ﴾ [الأعراف: 127].

وَإِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْبَشَرِ فِي تَحْدِيدِ الصَّلَاحِ مِنَ الْفَسَادِ، وَالْمُصْلِحِ مِنَ الْمُفْسِدِ قَدْ بَلَغَ هَذَا الْحَدَّ؛ فَإِنَّ الْمِيزَانَ فِي ذَلِكَ شَرِيعَةُ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ الْخَلْقِ وَمُدَبِّرُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الدِّينَ وَشَرَعَهُ لَهُمْ، وَهُوَ مَنْ يُحَاسِبُهُمْ بِهِ وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ مَعْرِفَةُ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَتَحْدِيدُ الْمُصْلِحِينَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ عَنْ طَرِيقِ وَحْيِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَتِلْكَ حَقِيقَةٌ يَجِبُ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهَا مُسْلِمَانِ، وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾ [الْبَقَرَةِ: 220]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 63]، وَفِي آيَةٍ ثَالِثَةٍ: ﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾ [يُونُسَ: 40].

فَكُلُّ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ تَعَالَى، مُصَدِّقٌ بِمَوْعُودِهِ، دَاعِيَةٌ إِلَى دِينِهِ، مُحَارِبٌ لِمَا عَارَضَهُ فَهُوَ صَالِحٌ مُصْلِحٌ وَإِنْ رُمِيَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَكُلُّ مُعَارِضٍ لِشَرِيعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُمَالِئٌ لِمَنْ يُحَارِبُهَا، فَهُوَ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ وَلَوْ زَعَمَ خِلَافَ ذَلِكَ.

وَمِنْ طَبِيعَةِ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَنَّهُمْ يَتَشَاءَمُونَ بِالْمُصْلِحِينَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ سَبَبُ بَلَاءِ الْبَشَرِ، وَانْتِكَاسِ حَالِهِمْ، وَتَرَدِّي أَوْضَاعِهِمْ، وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ الْأَقْدَمُونَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَتَشَاءَمُوا مِنْ رُسُلِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ سَبَبُ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ؛ فَقَبِيلَةُ ثَمُودَ تَطَيَّرُوا بِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ﴿ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾ [النَّمْلِ: 47]، وَأَصْحَابُ الْقَرْيَةِ تَطَيَّرُوا بِرُسُلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ؛ ﴿ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾ [يس: 18، 19]، وَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أَنَّهُمْ تَطَيَّرُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ، ﴿ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الْأَعْرَافِ: 131]، وَالْمُفْسِدُونَ مِنْ قُرَيْشٍ فَعَلُوا ذَلِكَ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَتَطَيَّرُوا بِهِ، وَأَرْجَعُوا كُلَّ مَصَائِبِهِمْ إِلَيْهِ وَإِلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ؛ ﴿ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ [النِّسَاءِ: 78].

صور وأشكال الفساد:
أيها المسلمون: للإفساد في الأرض صور وأشكال وألوان مختلفة ومتعددة: فمن الواضح الذي لا يختلف فيه اثنان، أن الفساد عم وطم في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي، فأصبحنا نشاهد الفساد الاقتصادي والفساد الإداري والفساد السياسي والفساد الاجتماعي والفساد الأخلاقي والفساد الديني والفساد العلمي بجميع الصور، نسأل الله ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. وعندَ تدبُّر كتابِ الله والتأمُّل فيه نرى في كتاب الله تحذيرًا من أنواع الفساد؛ ليكون المسلم على حذرٍ منها. وإذاتأملت الآيات التي ذكر الله فيها الإفساد فرأيت أن الله - تبارك وتعالى - إذا ذكر الإفساد بهذا اللفظ نفى الإصلاح، أو ذكره معه. لتعلم أن المفسدين يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون.

ولعلي أتتبّع الآيات التي ورد فيها ذكر الإفساد لنتعرف على أنواع الإفساد وصوره:
1 - الشرك بالله والصد عن سبيله إفساد قال الله تبارك وتعالى: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ﴾ [النحل: 88] فهؤلاء جمعوا بين إفسادين: كفرٌ بالله وصدٌ عن سبيل الله وقال سبحانه ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 40] وقال تعالى عن شعيب عليه السلام أنّه قال لقومه: ﴿ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 86].

2 - النِّفاق إفساد في الأرض ففيه إضلالَ الناس وتشكيكَهم في دينهم وصرفَهم عن الطريق المستقيم قال الله تبارك وتعالى ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11، 12].

3 - تكذيب الرسل، ورد الحق برغم الإيقان به قال الله تبارك وتعالى عن آل فرعون ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل: 14] وقال سبحانه وتعالى عن قوم صالح، وأن صالحاً قال لهم ﴿ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾ [الشعراء: 151، 152].

4 - اللجوء إلى غير الله ودعاء الأموات إفساد قال الله تبارك وتعالى ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 55، 56].

5 - بخس الموازين والتطفيف بالكيل إفساد. قال الله تبارك وتعالى على لسان شعيب ﴿ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ [الأعراف: 85].

6 - التقاطع في الأرحام وعدم وصلها قال الله تبارك وتعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴾ [محمد: 22].

7 - نقض العهد، وعدم الوفاء به، وقطع ما أمر الله به أن يُوصل. قال الله تبارك وتعالى ﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 27] (ولذا قال سبحانه وتعالى بعدها مباشرة: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 28] وقال جل جلاله: ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [الرعد: 25].

8 - الإسراف ومجاوزة الحد في الغي والتمادي في المعاصي إفساد. قال الله تبارك وتعالى على لسان موسى عليه الصلاة والسلام): ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [البقرة: 60].

وقال سبحانه وتعالى عن الألدّ الخصِم: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ [البقرة: 205].

9 - السِّحر إفساد فقد سمى الله - عز وجل - فاعله مفسدًا فقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ ﴾ [يونس:81]، وسمى الله عمل السحرة والسحر بأنه عمل المفسدين، وذلك لما يترتب عليه من فساد الأسر والتفريق بين الزوجين وخراب البيوت.

10 - الجبروت والتكبّر على عباد الله إفساد، والإفراط في الفرح والأشر والبَطَر. قال جل جلاله عن رمز الثراء الفاحش " قارون ": ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 76، 77].

11 - ارتكاب المنكرات وإتيان ما حرّم الله من الفواحش. قال الله تبارك وتعالى على لسان لوط: ﴿ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [العنكبوت: 28 - 30].

12 - إيقاد نيران الحروب بين عباد الله إفساد. واليهود هم أهل هذا التخصص. قال الله تبارك وتعالى ﴿ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64].

13 - قتل النفس إفساد، وتعظم الجريرة إذا كان المقتول مُصلحاً. قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾ [النمل: 48] واشترك القوم بالرأي والمكيدة، فهو إفساد الطبقة المتنفّذة المتسلّطة، ولذا قال سبحانه: ﴿ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [النمل: 49].

والتبييت قتله ليلا فهم خفافيش الظلام التي يبهرها النور فلا تستطيع أن تتحرك وتعمل إلا تحت جُنح الظلام.

وقتل الأنفس البريئة إفساد قال جل جلاله عن فرعون: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4] ولذا قالت الملائكة ﴿ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ [البقرة: 30]؟

وقال تعالى: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـٰهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾ [المائدة:32]، و قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـٰفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة:33].

أيّها المسلم: إنّ قصدَ القتل وترويع الآمنين جريمةٌ نكراء، كبيرةٌ من كبائر الذنوب، وفي الحديث: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» (الترمذي). وفي الحديث: "لا يزال العبدُ في فسحة من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا".

وفساد القتل ليس قاصراً على قتل نفس المسلم، بل أيضا يشمل ذلك المعاهد، والمستأمن، فإن الله - عز وجل - قد حفظ له حقه، فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا».
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.88 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.59%)]