وروى مسلم عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم على أبي سلمة وقد شقّ بصره فأغمضه ثمّ قال: "إنّ الرّوح إذا قبض تبعه البصر" فضجّ ناس من أهله فقال: "لا تدعوا على أنفسكم إلاّ بخير فإنّ الملائكة يؤمّنون على ما تقولون" ثمّ قال: "اللّهمّ اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديّين، واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا ربّ العالمين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه".[13]
خامسًا: الشفاعة في بعض من استوجب النار ألا يدخلها، أو يخفف عنه بعض عذابها بسبب شفاعته.
فعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي[14]
سادسًا: الشفاعة في خروج الموحدين من النار، وسيأتي معنا الحديث الذى يدل على ذلك، حين نتحدث عن شفاعات وشفعاء.
سابعًا: الشفاعة في بعض الكافرين، وهي شفاعته في تخفيف العذاب عن أبي طالب كما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر عنده عمه أبو طالب فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه أم دماغه".[15]
وهذا الحديث يدل على أنّ أبا طالب مات كافرًا، إذ لو كان مسلمًا لخرج من النّار مع الموحدين كما تواترت الأحاديث بخروج الموحدين من النار، لا كما يزعم الشيعة الأفاكون أنه مات موحدًا.
ويؤيد دلالة هذا الحديث على عدم إسلام أبي طالب ما رواه البخاري من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه أنّه أخبره أنّه لمّا حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبدالله بن أبي أميّة بن المغيرة، قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم لأبي طالب: "يا عمّ قل: لا إله إلاّ الله كلمةً أشهد لك بها عند الله" فقال أبوجهل وعبدالله بن أبي أميّة: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبدالمطّلب. فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتّى قال أبوطالب آخر ما كلّمهم: هو على ملّة عبدالمطّلب. وأبى أن يقول: لا إله إلاّ الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: "أما والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله تعالى فيه: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ﴾ الآية. [16]
وفيه: فنزلتْ: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113]، ونزلت: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [القصص: 56].
وأخرج أبوداود عن علي عليه السّلام قال: قلت للنّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: إنّ عمّك الشّيخ الضّالّ قد مات. قال: "اذهب فوار أباك ثمّ لا تحدثنّ شيئًا حتّى تأتيني" فذهبت فواريته وجئته فأمرني فاغتسلت ودعا لي. [17]
ولا إشكال في شفاعة النبي لأبي طالب مع ما قدمنا من أنه لا شفاعة للكافرين والمشركين، لأنها خصوصية للنبي – صلى الله عليه وسلم - يؤتاها فقط في أبي طالب.
ومن جميل ما قرأت بهذا الصدد - أيها الإخوة - ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الزهري عن عروة بن الزبير، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة بنت أبى سفيان، قالت: يا رسول الله انكح أختى بنت أبى سفيان ولمسلم: "عزة بنت أبى سفيان"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم"أو تحبين ذلك؟"قلت: نعم لست لك بمُخْلِية، وأحب من شاركني في خير أختى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن ذلك لا يحل لى"، قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبى سلمة، وفى رواية: "درة بنت أبى سلمة"قال: "بنت أم سلمة؟" قلت: نعم، قال: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لى، إنها لابنة أخى من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثوبية، فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن".[18]
زاد البخاري: قال عروة: وثويبة مولاة لابي لهب أعتقها فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أُرِيَه بعض أهله بشر حَيْبة، فقال له: ماذا لقيت؟ فقال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرا، غير أنى سقيت في هذه بعتاقتى ثويبة.
أشار إلى النقرة التى بين الابهام والتى تليها من الأصابع، وذكر السهيلي وغيره: أن الرائى له هو أخوه العباس، وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبى لهب بعد وقعة بدر، وفيه: إن أبا لهب قال للعباس: إنه ليخفف على في مثل يوم الاثنين.
قالوا: لأنه لما بشرته ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - أعتقها من ساعته، فجوزي بذلك لذلك. [19] ذكر ذلك كله الحافظ ابن كثير في السيرة.
ومما قاله أحد المجيدين في هذا قال:
فيا رب
إذا كان هذا كافر جاء ذمه وتبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في يوم الاثنين يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره بأحمد مسرورًا ومات موحدا
اللهم ارزقنا شفاعة نبيك يا أرحم الراحمين
جعلت حياتك للزمان ربيعا ومشى بشيرك في الأنام مذيعا
الله أكبر حين بشرها قائلا وهب الإله إلى الأنام شفيعا
فهذه الشفاعات الخاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما الشفاعات التي له ولغيره فلها حديث أيضًا ماتع جذاب! وهل غير النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع؟
والجواب: نعم يشفع بقية الأنبياء، ويشفع الملائكة المقربون، ويشفع المؤمنون، بل ويشفع أرحم الراحمين رب العالمين - سبحانه وتعالى - وما أدراك ما شفاعة أرحم الراحمين الذي وسعت رحمته كل شيء؟! ويجمع هذه الشفاعات كلها – أيها الإخوة - حديث عظيم جليل عذب جميل روى هذا الحديث الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ نَاسًا فِى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -" نَعَمْ ". قَالَ " هَلْ تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ ". قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ " مَا تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ اللَّهِ -تبارك وتعالى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ كَمَا تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ. فَلاَ يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْصَابِ إِلاَّ يَتَسَاقَطُونَ فِى النَّارِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ. فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ فَمَاذَا تَبْغُونَ قَالُوا عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا. فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلاَ تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِى النَّارِ. ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ. مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ. فَيُقَالُ لَهُمْ مَاذَا تَبْغُونَ فَيَقُولُونَ عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا. - قَالَ - فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلاَ تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِى النَّارِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ - سبحانه وتعالى - فِى أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِى رَأَوْهُ فِيهَا.
قَالَ فَمَا تَنْتَظِرُونَ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ. قَالُوا يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِى الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ. فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ لاَ نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا - حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ. فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلاَّ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ وَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ. ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِى صُورَتِهِ الَّتِى رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا. ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ ". قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِسْرُ قَالَ " دَحْضٌ مَزِلَّةٌ. فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلاَلِيبُ وَحَسَكٌ تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمَكْدُوسٌ فِى نَارِ جَهَنَّمَ. حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِى اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِى النَّارِ يَقُولُونَ رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ. فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثيرًا قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا مَا بَقِىَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ. فَيَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا. ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا. ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا ". وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ يَقُولُ إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِى بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ "فَيَقُولُ اللَّهُ - عز وجل - شَفَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا فَيُلْقِيهِمْ فِى نَهْرٍ فِى أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهْرُ الْحَيَاةِ فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ أَلاَ تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ أَوْ إِلَى الشَّجَرِ مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ ". فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ قَالَ " فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِى رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلاَءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلاَ خَيْرٍ قَدَّمُوهُ ثُمَّ يَقُولُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ.
فَيَقُولُونَ رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. فَيَقُولُ لَكُمْ عِنْدِى أَفْضَلُ مِنْ هَذَا فَيَقُولُونَ يَا رَبَّنَا أَىُّ شَىْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا. فَيَقُولُ رِضَاىَ فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا".[20]
أيها الإخوة! هذه هي الشفاعة وأنواعها وأنواع الشفعاء وشفاعاتهم فهنيئًا لمن كان على السبيل الذي تناله عليه الشفاعة لقد أفلح وأنجح وسعد في الدنيا والآخرة ولكن من هذا السعيد المفلح؟! والجواب بعد جلسة الاستراحة بمشيئة الله تعالى، أسأل الله أن يجعلنا من أهل الطاعة، ومن يستحقون الشفاعة.
الخطبة الثانية
الحمد لله الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.
أما بعد، من أسعد الناس بشفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ومن معه يوم القيامة؟
والجواب من فم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة يا رسول الله؟ فقال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "لقد ظننت أنه لا يسألني عن هذا السؤال أحد قبلك لما رأيت من حرصك على الحديث، يا أبا هريرة! أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصًا مخلصًا من قلبه.[21]
ورواه الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة بلفظ: سألت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ماذا ردّ إليك ربّك في الشّفاعة؟ فقال: "والّذي نفس محمّد بيده لقد ظننت أنّك أوّل من يسألني عن ذلك من أمّتي، لما رأيت من حرصك على العلم، والّذي نفس محمّد بيده ما يهمّني من انقصافهم على أبواب الجنّة أهمّ عندي من تمام شفاعتي، وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلاّ الله مخلصًا يصدّق قلبه لسانه ولسانه قلبه".[22]
وفي صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً".[23]
أخي في الله! هل تدبرت هذه الأحاديث؟ إنها كلها تُجمع على أمر واحد هو أن الشفاعة لا ينالها إلا الموحدون ولا تنال إلا الموحدين، إذاً حتى تنال الشفاعة فلا بد من أن تصحح توحيدك وتحققه وذلك بأن تقول كلمة لا إله إلا الله، وتعيش بها، وتعمل من أجلها وتدعو إليها، وبالجملة أن تحيا حياة لا إله إلا الله كاملة، بمنهجها الشامل الكامل فتكون كلمة التوحيد كلمة لا إله إلا الله منهجك في الحياة.
فمن الناس من يردد لا إله إلا الله بلسانه ولا يفقه ولا يدري معناها بقلبه، ومن الناس من يقول لا إله إلا الله ويخالفها بعمله وعبادته فراح يصرف العبادة لغير الله فهو لا يعرف لكلمة التوحيد معنى ولا يقف لها على مضمون ولا يعرف لها مقتضى، ولا تؤثر في حياته وسيرته.
ومن الناس من يردد بلسانه لا إله إلا الله وقد انطلق حرّاً طليقاً ليختار لنفسه من المناهج الأرضية والقوانين الوضعية بها ما يوافق هواه.
ومن الناس من ينطق ولا يتبع منهج الحبيب محمد – صلى الله عليه وسلم -، ومن الناس من يردد كلمة لا إله إلا الله وهو لم يحقق الولاء والبراء لله فلربما كان حب مغنية أو راقصة أكبر فى قلبه من حب الله ورسوله.
ومن الناس من يردد بلسانه كلمة لا إله إلا الله وقد ترك الصلاة وضيع الزكاة وضيع الحج مع قدرته واستطاعته، وأكل الربا، وشرب الخمر، وأكل أموال اليتامى، يسمع أمر الله فيهز كتفيه في سخرية وكأن الأمر لا يعنيه، ويسمع المواعظ فيهزأ وكأن الأمر لا يعنيه.
فلابد من إخلاص التوحيد، فإن كلمة التوحيد ليست مجرد كلمة يرددها اللسان فحسب، بل إن التوحيد قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان ورحم الله الحسن البصري إذ يقول: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شرّاً لم يقبل منه وإن قوماً غرتهم الأماني فقالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، فوالله لن يسعد بالشفاعة إلا من أخلص التوحيد لله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحديث في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل".[24]
وفي حديث عتبان بن مالك - وهو في الصحيحين كذلك -: "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله"[25]، ولاحظ هذا القيد العظيم"يبتغي بها وجه الله".
فكلمة التوحيد كلمة عظيمة مثلها كمثل الشجرة الطيبة جذورها الحب والإخلاص، وساقها اليقين والقبول، وأوراقها الانقياد، وكما أن الشجرة من غير ماء وضوء لا تعيش فكذلك لا إله إلا الله بدون علم وصدق لا تعيش، فإن العلم ماؤها والصدق ضوؤها.
وصلى الله وسلم على من ادخر دعوته شفاعة لنا ففي مسلم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: "لكلّ نبيّ دعوة دعا بها في أمّته فاستجيب له، وإنّي أريد إن شاء الله أن أؤخّر دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة". [26]
نسأل الله تعالى أن يحسن خاتمتنا، وأن يشفع فينا نبينا وصل اللهم وسلم وزد وبارك على الرحمة المهداة والنعمة المسداة حبيبك ومصطفاك، اللهم شفع فينا نبيك يا أرحم الراحمين، واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا الطريق إلى رضاك وألزمنا الرضا بما يرضيك عنا، يا جواد يا كريم يا حنان يا منان يا ذا الجلال والإكرام..... الدعاء.
[1] تفسير الطبري - 15 / 347.
[2] أخرجه البخاري 1432.
[3] أخرجه مسلم 5861.
[4] إعانة المستفيد 1/ 244.
[5] "الشعب" 1 /205.
[6] الشفاعة ص / 14، للعلامة مقبل بن هادي الوادعي - رحمه الله تعالى -.
[7] أخرجه البخاري 4712.
[8] أخرجه مسلم 197.
[9] أخرجه أحمد 3 / 178، وابن خزيمة ص254، وقال الحافظ ابن كثير في "النهاية" 2 / 191: وقد حكم الترمذي بالحسن لهذا الإسناد. اهـ.
[10] أخرجه الآجري في الشريعة 2 / 379، والبغوي في"حديث علي بن الجعد"12 / 166 / 2 وهو في الصحيحة 4 / 500.
[11] أخرجه الترمذي 4 /540، وابن ماجه 2 / 1433، وأحمد 5 / 268، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص329، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
[12] أخرجه البخاري 4323، ومسلم 6562، ونزا منه الماء: أي انصب من موضع السهم، سرير مرمّل - براء مهملة ثم ميم مثقلة -: أي معمول بالرمال، وهي حبال الحصر التي تضفر بها الأسرة، كما في "الفتح".
[13] أخرجه مسلم 2169.
[14] أخرجه أبو داود 4739، الترمذي 2435، وغيرهما، وصححه العلامة الألباني وهو في الروض النضير 43 و 65، والمشكاة 5598 و 5599، والظلال 831 - 832.
[15] أخرجه البخاري 6564، ومسلم 535.
[16] أخرجه البخاري 1360، ومسلم 141.
[17] أخرجه أبو داود 3214، وغيره وصححه العلامة الألباني، الأحكام 134، 135.
[18] أخرجه البخاري 5101، وأخرجه مسلم 1449.
[19] السيرة النبوية لابن كثير - 1 / 224.
[20] أخرجه مسلم 472.
[21] أخرجه البخاري 6570.
[22] أخرجه أحمد 8056، والبخاري في "التاريخ الكبير" 4/ 111، وابن حبان كما في "الموارد" ص645، والحاكم 1/70 وقال: صحيح الإسناد وسكت عليه الذهبي، وهو حديث حسن، وقال الأرناؤوط في التعليق على المسند: صحيح دون قوله" والذي نفس محمد بيده ما يهمنى من انقصافهم على أبواب الجنة أهم عندي من تمام شفاعتي" وإسناد الحديث قابل للتحسين.
[23] أخرجه مسلم 512.
[24] أخرجه البخاري 3435 ومسلم 28.
[25] أخرجه البخاري 425 ومواضع، ومسلم 33.
[26] أخرجه مسلم 514.