عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 17-08-2020, 04:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,091
الدولة : Egypt
افتراضي الوصية: فضائلها وأحكامها

الوصية: فضائلها وأحكامها


أحمد الجوهري عبد الجواد





(خطبة فقهية)






إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.


أما بعد فيا أيها الأحبة!


الموت ليس آخر المطاف، بل بعد الموت بعثٌ وحياة، هي الحياة الحقيقيّة، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]



شبّه الله تعالى الحياة الدنيا التي نعيشها، "وما فيها من حطام، فى سرعة انقضائها وزوال متعها، بالأشياء التى يلهو بها الأطفال، يجتمعون عليها وقتاً، ثم ينفضّون عنها.



أما الدار الآخرة، فهى دار الحياة الدائمة الباقية، التى لا يعقبها موت، ولا يعتريها فناء ولا انقضاء".[1]



فالدنيا فانية والآخرة باقية، الدنيا زائلة والآخرة دائمة، الدنيا لهو زائف، وأما الآخرة فهي حقٌّ وحقيقةٌ ونعيمٌ مقيمٌ خالدٌ، ولهذا فالعارفون بالله حقيقة، هم الفطناء الذين لا يُؤثِرون متع الدنيا الفانية على خيرات الآخرة الباقية، ولهذا راحوا يحصّلون الأعمال الصالحة ليعبروا بها إلى الآخرة؛ فإنها هي التي ستنفعهم، لا ينفعهم غيرها كما قال الله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]



وقد ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا مات ابنُ آدم انقطع عمَلُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له".[2]



وقد أحسن الإمام الشافعيّ - رحمه الله تعالى - التعبيرَ عن هذا المعني إذ يقول:



إِنَّ للهِ عِبَادًا فُطَنَا

طَلَّقُوا الدُّنْيَا وخَافُوا الفِتَنَا



نَظَروا فيهَا فَلَمَّا عَلِمُوا

أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَا



جَعَلُوها لُجَّةً واتَّخَذُوا

صَالِحَ الأَعمالِ فيها سُفُنا




أيها الأحبة!

ومن صالح الأعمال التي تبقى ذخرًا للإنسان بعد مماته، وتثقل بالخيرات ميزان حسناته، وترفع في الآخرة درجاته: الوصيّة؛ فهي وِصالٌ بين الإنسان والحياة الدنيا، يفارق الإنسانُ الحياةَ بجسده وبدنه وتبقى الوصية كأثرٍ من آثاره يُكتب له بها الأجر، ويحطّ عنه بها الوزر، ويرفع له بها في درجته؛ كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 12].



ومعنى هذه الآية كما يقول العلماء -رفع الله أقدارهم -: أى: نسجّل عليهم أعمالَهم التى عملوها فى الدنيا، ونسجّل لهم - أيضًا - آثارَهم التى تركوها بعد موتهم، سواء أكانت صالحةً أم غيرَ صالحة[3].



نعم! أيها الأحبّة!

ألم يقل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - "من سَنَّ في الإسلام سُنةً حَسَنَةٌ فله أجْرُها وأجْرُ من عَمِل بها من غير أن يُنْتَقَصَ مِنْ أُجُورِهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سُنَّةٌ سيئة فله وِزُرُها ووِزْرُ منْ عَمِل بها من غير أن يُنْتَقَص من أوزَارِهم شيء ".[4]



وهذا الإنسان الذي أوصى ببعض ماله ليصرف في وجوه البرّ والخير بعد وفاته هو من أعظم سنن الخير التي يكون للإنسان ثوابها بعد وفاته إلى يوم القيامة.



فالوصيّة - أيها الأحبة الكرام! - وصالٌ ورباطٌ بين أمرين: ما قبل الوفاة وما بعد الوفاة، ولهذا السبب يُعرّف علماء اللغة الوصية فيقولون: الوصيّة مأخوذة من وصيت الشيء أوصيه، إذا أوصلته، فالموصِى وصل ما كان في حياته بعد موته.



والوصية في الشرع هي: هبة الإنسان غيره عينًا أو دينًا أو منفعة، على أن يملك المُوصَى له الهبة بعد موت المُوصِى.



فالإنسان المسلم الذي يوقن بلقاء الله ويحبّ أن يكون هذا اللقاء له لا عليه، يقدّم أثناء حياته ما يستطيعه من العمل الصالح، بل وهو من ذكائه وفطنته يحرص على بقاء الصالحات من بعد رحيله، فإذا ترك مالا لورثته من أبوين وزوجة وأبناء وهكذا.. جعل مع هؤلاء الورثة بعضَ جهات الخير كالفقراء والمرضى، بأعيانهم، أو من خلال المؤسسات الموثوقة التي تقوم على خدمتهم ورعايتهم.



وهذه الوصية في المال حكمها في دين الله الوجوب فقد حثّ الله تبارك وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم على الوصية، فقال تعالى: ﴿ كتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 180].


وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يُوصَى فيه، يَبِيتُ ليلتين إلا ووصيَّتُه مكتوبةٌ عنده".[5]




فحكم الوصيّة أخذًا من هذه الآية والحديث الوجوب فقد قال العلماء رحمهم الله: الوصية واجبة على من له مالٌ يوصى فيه، فمن ترك مالًا يورّث وجب عليه أن يوصِي بشيء من ذلك المال في وجوه البرّ والخير.



الوصية في المال واجبة للفقراء لا سيما إذا كان لرجلٍ فرعٌ وارثٌ مات في حياته، فإنّ عليه أن يوصى لأولاد هذا الفرع، كثير من الناس يأتينا يسأل: مات ابن لي في حياتي وليس لأبنائه من بعده مال يتقوّتون به وأنا أرعاهم في حياتي وأنفق عليهم، ولا أدرى ماذا يكون حال أعمامهم معهم بعد وفاتي؛ أخشى ألا يكونوا لهم مثلما كنت أنا لهم في البر والإنفاق والقيام بالمسئولية، فماذا أفعل نقول: هؤلاء الأحفاد لهم في مالك حق واجب، وهو الوصيّة، فأوصِ لهم بثلث مالك أو أقلّ، ذلك أنّ التصرّف في هذا الثلث هو إليك، فوّضك الشرع فيه، تفعل به لنفسك وآخرتك ما تشاء، وهؤلاء الأحفاد من خير من تعطيهم الصدقة بالوصيّة فيكون برّا وصدقةً وصلةَ رحمٍ.



نسأل الله تعالى القبول.




فإن مات الجدّ - أيّها الإخوة الكرام! - ولم يوص لأولاد ولده! ماذا نفعل؟



إذا مات الجدّ ولم يوص لأولاد ولده فإنهم يعطون قدر ما كان يجب عليه أن يوصى به، لأن هذا دين عليه، حتى لو مات ولم يكتبه لم يضع هذا الدّيْن، والحمد لله أن العمل على هذا في المحاكم اليوم.



وهكذا يجب أن يوصى الإنسان بشيء من ماله، لا سيما إذا كانوا أحفاده الذين توفي أبنه والد هؤلاء الأحفاد في حياته.



هؤلاء يوصِى لهم، لكن لا يوصِي إلى وارث من الورثةِ المستحقين لماله، فإذا مات الإنسان لا يصح أن يكتب وصيّته تلك لزوجته أو لأحد أبنائه أو لأحد أبويه، أو لأي وارث من الورثة، هذا لا يجوز في دين الله، وإذا فعل ذلك أحد فلا تنفّذ وصيته فيه؛ لأنه لا وصية في الإسلام للوارث؛ كما أخرجه أبو داود وغيره وصحّحه العلامة الألبانيّ رحمه الله عن أبي أمامة الباهليّ قال: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته عام حجّة الوداع: "إن الله قد أعطى كلّ ذى حقٍّ حقَّه، فلا وصيّةَ لوارثٍ".[6]



وتكاد هذه الأمور الثلاثة:

وجوب الوصيّة.

وأولوية الأحفاد بها على غيرهم.

وعدم جواز الوصيّة لأحد من الورثة.



تكاد هذه الأمور أن تكون مجهولةً لدى معظم الناس؛ فأنا على ثقةٍ من أنّ كثيرًا من المستمعين الآن يتعجبون لهذا الكلام؛ إذ يسمعونه لأوّل مرّة! وليس هذا بذنب الشرع! فإنّ من الواجب على كلّ مسلمٍ أن يتعلّم من أحكام دينه ما يقوم بحياته قيامًا صحيحًا ويوصّله في الآخرة لمرضاة الله والجنّة، ومن ذلك أنه إذا كان صاحبَ مالٍ وجب عليه أن يتعلّم أحكام الشرع في ماله؛ من حلالٍ وحرامٍ، وكسبٍ وإنفاقٍ، وزكاةٍ وصدقاتٍ، ووصيّةٍ وميراثٍ إلخ هذه الأحكام.



فالوصيّةُ واجبةٌ على مَن كان له مال يبقيه بعد وفاته لورثته فيجب أن يوصي ببعضه لأنواعٍ من وجوه الخير والبرّ.



ومن المعقول أن يرِد على ذهن المرء السؤال التالي:

لماذا يتبرّع الإنسان بماله في هذا الوقت؟ وعلى هذا النحو؟!



والجواب: "قد يغفل الإنسان في حياته عن أعمال البر والخير، فمن رحمة الله بعباده أن شرع لهم الوصية؛ زيادة في القربات والحسنات، وتداركاً لما فرّط فيه الإنسان في حياته من أعمال البر.



فجعل سبحانه للمسلم نصيباً من ماله يفرضه قبل مماته في أعمال البرّ التي تعود على الفقراء والمحتاجين بالخير والفضل، وتعود على الموصِي بالثواب والأجر، والاستزادة من العمل الصالح، ومكافأة من أسدى للمرء معروفاً، وصلةً للرحم والأقارب غيرِ الوارثين، وسدّ خَلّة المحتاجين".[7]



وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أعقلَ هذه الأمة بعد نبيّها عليه الصلاة والسلام، ولهذا اهتموا بالوصيّة واعتنوا بها غاية الاعتناء، فسألوا عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل وكانوا أحرص على إخراج أكثر مما يجب عليهم!



ولا عجب فقد قرأوا قول الله عزّ وجلّ: ﴿ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة: 13]، وقوله عزّ وجلّ: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار: 5، 6]




قرأ الصحابة هذه الآيات وتفاعلوا معها؛ فجعلوا ما قدّموا خيرًا، وجعلوا ما أخّروا خيرًا، فسعدوا دنيا وأخرى.



ونِعمَ ما فهموا! أليس قد قرأوا قول الله تعالى لنبيّه: ﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾ [الضحى: 4] فهم يحبّون أن يكونوا مع نبيّهم - صلى الله عليه وسلم - فلذلك هم يعملون كعمله، ويقدّمون لآخرتهم كما رأوه يقدّم لها، لتكون لهم كما كانت لنبيهم خيرًا من الأولى.



أليس قد جلسوا يومًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألهم قائلا: أيُّكم مالُ وارثِِه أحبُّ إليه مِن مالِه؟ فأجابوه قائلين: يا رسول الله! ما منّا أحدٌ إلا مالُه أحبُّ إليه. هنا قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنّ مالَه ما قدّم ومالَ وارثِه ما أخّر".[8]



يدعوهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ويحرّضهم على تقديم ما يمكن تقديمه من المال في وجوه القربة والبرّ؛ لينتفع به المرءُ في الآخرة، فإنّ كلّ شيء يُخلّفه الميّت يصير ملكًا للوارث، فإن عمل فيه بطاعة الله كان الثواب خاصًّا بذلك الابن أو الوراث مع أن الميت هو الذي تعب في جمع المال وتحصيله وتوفيره.[9] فليحرص المرء على أن يعمل لنفسه الخير قبل وفاته وليقدّم بين يديه ما يكون سببا عند الله لنجاته، وهكذا يفعل العقلاء.



فها هو الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يأتيه النبي - صلى الله عليه وسلم يعوده وهو مريض فيهمه - رضي الله عنه - ذلك الأمر - أمر الوصية - فيسأل سعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ما يفعل في ماله؟ يقول سعد: قلت: يا رسول الله! أوصى بمالى كله؟ قال: لا قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: الثلث؟ قال: فالثلث، والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى فىّ امرأتك، وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناسٌ ويُضرّ بك آخرون".



ولم يكن له يومئذٍ إلا ابنة.[10]



فليتصدّق الإنسانُ ولينفق في سبيل الله تعالى ابتغاءَ الأجر والثواب من الله، ولا يبخل فيذر المال لمن وراءه من الورثة لا يعرف: هل يطيعون الله بالمال أم يعصونه؟ وهل يتذكرون والدهم بالصدقة عنه أو ينسونه؟!



فأنفقوا يا عباد الله! ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 272]، ﴿ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273]



فاعملوا - يا عباد الله - في أموالكم بالصدقة في حال الحياة، وبالوصية ببعض المال لما بعد الوفاة، فإنّ بين يدي الجنة والنار لقاء يتمنّى الإنسان فيه أن لو كان تصدّق بنصف تمرة، فعن عدي بن حاتم - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ". [11] فتصدّقوا يا عباد الله قبل فوات الأوان مختارين لا مضطرين، فَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَىُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «لَتُنَبَّأَنَّ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْبَقَاءَ وَتَخَافُ الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا أَلاَ وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ».[12]



أنفقوا يا عباد الله! أنفقوا من مال الله، الذي ملّككم الله إيّاه.



أيها الأحبّة!

وقد يبخّل الإنسان عن الوصيّة أنّ يريد أن يترك المال لأبنائه يغنيهم بالحلال ويعفّهم عن الحرام، ويكفّهم عن سؤال النّاس، ويحوطهم بسياج من المنعة عن الحاجة إلى غيرهم، وهذا كلّه حسنٌ، لكنّ ذلك وحده لا يغني عنهم من الله شيئًا مثلما يكون معه جنبًا إلى جنب تقوى الله، أن يتقيَ الإنسانُ ربّه في أثناء حياته ويربّي أبناءَه على تلك التقوى قال الله تعالى: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء: 9]



لما جاء أبو بكرٍ - رضي الله عنه - بماله يتصدّق به بين يدَي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «ما تركت لأهلك»؟ قال: تركت لهم الله ورسوله.[13]



ولمّا حضرت الوفاةُ أميرَ المؤمنين عمرَ بنِ عبد العزيز - رحمه الله - قيل له: ماذا تركت لأولادك من بعدك؟ قال: إن يكونوا صالحين فالله يتولّى الصالحين، وإن يكونوا غير ذلك فلا أترك لهم مالي يستعينون به على معصية الله.



إنّ خيرَ ما يتركه الإنسانُ وراءَه ليحافظ به على أولاده ويحميهم ويغنيهم به هو تقوى الله، لا شيء سواه، فإنّ عَدِموا التقوى فلا مال ينفعهم ولا غنى يحميهم! فليوص الإنسان أبناءَه بالدّين والإيمان والتقوى، فأعظم الوصايا وأعلاها وأهمها هي الوصية بالدِّين والإيمان والتقوى وهي وصية الله للأولين والآخرين.. ووصية الأنبياء لأبنائهم وأتباعهم إلى يوم الدين.



قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ﴾ [النساء:131].



وقال الله تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة:132- 133].



وَعَنْ طَلْحَة بن مُصَرِّفٍ قَالَ: سَألْتُ عَبْدَالله بْنَ أبِي أوْفَى رَضيَ اللهُ عَنهُ، هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أوْصَى؟ فَقال: لا، فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الوَصِيَّةُ، أوْ أُمِرُوا بِالوَصِيَّةِ، قال: أوْصَى بِكِتَابِ الله. متفق عليه؛ أخرجه البخاري (2589)، ومسلم (1634). انظر موسوعة الفقه الإسلامي (ص 175).



وكم سمعنا في التاريخ وما نراه اليوم واقعًا في دنيا النّاس، عن أناس عاشوا ملوكًا سادوا الدنيا فزال عنهم ظلها الزائل الزائف، فصاروا بحيث لا يجدون الملابس الجديدة في يوم عيدٍ، فهذا المعتمد بن عبّاد كان من ملوك الأندلس، فكيف ظنكم ببناته؛ ماذا يلبسن؟ وبم يتزيين؟ لكن دالت عليه الأيام والأيام دول فأسره ابن تاشفين في مدينة أغمات وعندما جاءته بناته يزرنه في حبسه رأى على بناته ثيابًا رثة في العيد، فأنشد قائلا:



فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً

فساءك العيد في أغمات مأسوراً



ترى بناتك في الأطمار جائعةً

يغزلن ‏ للنّاس ما يملكن قطميراً



برزن نحوك للتسليم خاشعةً

أبصارهنَّ‏ حسيرات مكاسيراً



يطأن في الطّين والأقدام حافيةً

كأنها لم تطأ مسكاً وكافوراً



أفطرت في العيد لا عادت إساءتُه

فعاد فطرك للأكباد تفطيراً



قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً

فردّك الدهر منهياً ومأموراً






فخير ما يتركه الإنسانُ لأولاده في الحياة هو تقوى الله، لا شيء سواه.



و لست أرى السّعادة جمع مالٍ

و لكنّ التقيّ هو السّعيدُ



وتقوى الله خير الزّاد ذخراً

و عند الله للأتقى مزيدُ






ومع ذلك - أيها الأحبّة!- فقد حذَّر الشرع الكريم الوالدَ أن يجور في وصّيته على حقوق أبنائه ورثته، فيفتقون من بعده بسببها، فجعل للوصية مقدارًا محدّدًا ولم يتركها هكذا هملًا ففي حديث سعد - رضي الله عنه - الذي سقته على حضراتكم قبل قليل، يقول فيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "فالثلث، والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم".



بل فهم حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أنّه يستحب الإنقاص من الثلث شيئًا، ولو أن يتصدّق الإنسان بالربع وجعله أفضل؛ قال ابن عباس: لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبُعِ فِى الْوَصِيَّةِ لَكَانَ أَفْضَلَ لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:« الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ ».[14]



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.44 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.82 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.41%)]