الحلقة (574)
تفسير السعدى
(سورة الواقعة)
من (1)الى (26)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الواقعة
{ إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } 1 { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } 2 { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } 3 { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً } 4 { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } 5 { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } 6 { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } 7 { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } 8 { وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } 9 { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ } 10 { أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } 11 { فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } 12 { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ }13
يخبر تعالى بحال الواقعة التي لا بد من وقوعها، وهي القيامة التي { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } أي: لا شك فيها، لأنها قد تظاهرت عليها الأدلة العقلية والسمعية، ودلّت عليها حكمته تعالى، { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } أي: خافضة لأناس في أسفل سافلين، رافعة لأناس في أعلى عليين، أو خفضت بصوتها فأسمعت القريب، ورفعت فأسمعت البعيد.
{ إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً } أي: حركت واضطربت، { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } أي: فتتت، { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } فأصبحت الأرض ليس عليها جبل ولا معلم، قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، { وَكُنتُمْ } أيها الخلق { أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } أي: انقسمتم ثلاث فرق بحسب أعمالكم الحسنة والسيئة، ثم فصل أحوال الأزواج الثلاثة، فقال: { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } تعظيم لشأنهم، وتفخيم لأحوالهم، { وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } أي: الشمال، { مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } تهويل لحالهم.
{ وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } أي: السابقون في الدنيا إلى الخيرات، هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات. أولئك الذين هذا وصفهم، المقربون عند الله، في جنات النعيم، في أعلى عليين، في المنازل العاليات، التي لا منزلة فوقها. وهؤلاء المذكورون { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } أي: جماعة كثيرون من المتقدمين من هذه الأمة وغيرهم.
{ وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } 14 { عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } 15 { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ }16
{ وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } وهذا يدل على فضل صدر هذه الأمة في الجملة على متأخريها، لكون المقربين من الأولين أكثر من المتأخرين، والمقربون هم خواص الخلق، { عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } أي: مرمولة بالذهب والفضة، واللؤلؤ، والجوهر، وغير ذلك من [الحلي] الزينة، التي لا يعلمها إلا الله تعالى، { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا } أي: على تلك السرر، جلوس تمكن وطمأنينة وراحة واستقرار.
{ مُتَقَابِلِينَ } وجه كل منهم إلى وجه صاحبه، من صفاء قلوبهم، وحسن أدبهم، وتقابل قلوبهم.
{ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } 17 { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } 18 { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ } 19 { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } 20 { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } 21 { وَحُورٌ عِينٌ } 22 { كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } 23 { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } 24 { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } 25 { إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً }26
{ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أي: يدور على أهل الجنة للخدمة وقضاء حوائجهم، ولدان صغار الأسنان، في غاية الحسن والبهاء،{ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } [الطور: 24] أي: مستور، لا يناله ما يغيره، مخلوقون للبقاء والخلد، لا يهرمون ولا يتغيرون، ولا يزيدون على أسنانهم، ويدورون عليهم بآنية شرابهم { بِأَكْوَابٍ } وهي التي لا عرى لها، { وَأَبَارِيقَ } الأواني التي لها عرى، { وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } أي: من خمر لذيذ المشرب، لا آفة فيها، { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } أي: لا تصدعهم رؤوسهم كما تصدع خمرة الدنيا رأس شاربها. ولا هم عنها ينزفون، أي: لا تنزف عقولهم، ولا تذهب أحلامهم منها، كما يكون لخمر الدنيا. والحاصل: أن جميع ما في الجنة من أنواع النعيم الموجود جنسه في الدنيا، لا يوجد في الجنة فيه آفة، كما قال تعالى:{ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [محمد: 15] وذكر هنا خمر الجنة، ونفى عنها كل آفة توجد في الدنيا. { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } أي: مهما تخيروا، وراق في أعينهم، واشتهته نفوسهم، من أنواع الفواكه الشهية، والجنى اللذيذ، حصل لهم على أكمل وجه وأحسنه، { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } أي: من كل صنف من الطيور يشتهونه، ومن أي جنس من لحمه أرادوا، وإن شاؤوا مشوياً، أو طبيخاً، أو غير ذلك. { وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } أي: ولهم حور عين، والحوراء: التي في عينها كحل وملاحة، وحسن وبهاء، والعين: حسان الأعين وضخامها وحسن العين في الأنثى، من أعظم الأدلة على حسنها وجمالها. { كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } أي: كأنهن اللؤلؤ الأبيض الرطب الصافي البهي، المستور عن الأعين والريح والشمس، الذي يكون لونه من أحسن الألوان، الذي لا عيب فيه بوجه من الوجوه، فكذلك الحور العين، لا عيب فيهن [بوجه]، بل هن كاملات الأوصاف، جميلات النعوت. فكل ما تأملته منها لم تجد فيه إلا ما يسر الخاطر ويروق الناظر، وذلك النعيم المعد لهم { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فكما حسنت منهم الأعمال، أحسن الله لهم الجزاء، ووفر لهم الفوز والنعيم. { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } أي: لا يسمعون في جنات النعيم كلاماً يلغى، ولا يكون فيه فائدة، ولا كلاماً يؤثم صاحبه، { إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } أي: إلا كلاماً طيباً، وذلك لأنها دار الطيبين، ولا يكون فيها إلا كل طيب، وهذا دليل على حسن أدب أهل الجنة في خطابهم فيما بينهم، وأنه أطيب كلام، وأسره للنفوس، وأسلمه من كل لغوٍ وإثم، نسأل الله من فضله.