الحلقة (575)
تفسير السعدى
(سورة الواقعة)
من (27)الى (57)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الواقعة
{ وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ } 27 { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } 28 { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } 29 { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } 30 { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } 31 { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ } 32 { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } 33 { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } 34 { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً } 35 { فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } 36 { عُرُباً أَتْرَاباً } 37 { لأَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } 38 { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } 39 { وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ }40
ثم ذكر نعيم أصحاب اليمين، فقال: { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ } أي: شأنهم عظيم، وحالهم جسيم، { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } أي: مقطوع ما فيه من الشوك والأغصان [الرديئة] المضرة، مجعول مكان ذلك الثمر الطيب، وللسدر من الخواص، الظل الظليل، وراحة الجسم فيه، { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } والطلح معروف، وهو شجر [كبار] يكون بالبادية، تنضد أغصانه من الثمر اللذيذ الشهي، { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } أي: كثير من العيون والأنهار السارحة، والمياه المتدفقة، { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } أي: ليست بمنزلة فاكهة الدنيا تنقطع في وقت من الأوقات، وتكون ممتنعة [أي: متعسرة] على مبتغيها، بل هي على الدوام موجودة، وجناها قريب يتناوله العبد على أي حال يكون، { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } أي: مرفوعة فوق الأسرة ارتفاعاً عظيماً، وتلك الفرش من الحرير والذهب واللؤلؤ وما لا يعلمه إلا الله. { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً } أي: إنا أنشأنا نساء أهل الجنة نشأةً غير النشأة التي كانت في الدنيا، نشأةً كاملةً لا تقبل الفناء، { فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } صغارهن وكبارهن، وعموم ذلك يشمل الحور العين ونساء أهل الدنيا، وأن هذا الوصف - وهو البكارة - ملازم لهن في جميع الأحوال، كما أن كونهن { عُرُباً أَتْرَاباً } ملازم لهن في كل حال، والعروب: هي المرأة المتحببة إلى بعلها بحسن لفظها، وحسن هيئتها ودلالها وجمالها [ومحبتها]، فهي التي إن تكلمت سبت العقول، وود السامع أن كلامها لا ينقضي، خصوصاً عند غنائهن بتلك الأصوات الرخيمة والنغمات المطربة، وإن نظر إلى أدبها وسمتها ودلها ملأت قلب بعلها فرحاً وسروراً، وإن برزت من محل إلى آخر، امتلأ ذلك الموضع منها ريحاً طيباً ونوراً، ويدخل في ذلك الغنجة عند الجماع. والأتراب اللاتي على سن واحدة، ثلاث وثلاثين سنة، التي هي غاية ما يتمنى ونهاية سن الشباب، فنساؤهم عرب أتراب، متفقات مؤتلفات، راضيات مرضيات، لا يَحزَنَّ ولا يُحزِنَّ، بل هن أفراح النفوس، وقرة العيون، وجلاء الأبصار.
{ لأَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } أي: معدات لهم مهيئات، { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } أي: هذا القسم من أصحاب اليمين عدد كثير من الأولين، وعدد كثير من الآخرين.
{ وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ } 41 { فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ } 42 { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } 43 { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } 44 { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } 45 { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ } 46 { وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } 47 { أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } 48 { قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ } 49 { لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } 50 { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضِّآلُّونَ ٱلْمُكَذِّبُونَ } 51 { لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } 52 { فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ } 53 { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ } 54 { فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ } 55 { هَـٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ ٱلدِّينِ } 56 { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ }57
{ وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ * وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ }. المراد بأصحاب الشمال [هم:] أصحاب النار، والأعمال المشئومة، فذكر [الله] لهم من العقاب، ما هم حقيقون به، فأخبر أنهم { فِي سَمُومٍ } أي: ريح حارة من حر نار جهنم، يأخذ بأنفاسهم، وتقلقهم أشد القلق، { وَحَمِيمٍ } أي: ماء حار يقطع أمعاءهم، { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } أي: لهب نار يختلط بدخان، { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } أي: لا برد فيه ولا كرم، والمقصود أن هناك الهم والغم، والحزن والشر، الذي لا خير فيه، لأن نفي الضد إثبات لضده. ثم ذكر أعمالهم التي أوصلتهم إلى هذا الجزاء، فقال: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } أي: قد ألهتهم دنياهم، وعملوا لها، وتنعموا وتمتعوا بها، فألهاهم الأمل عن إحسان العمل، فهذا الترف الذي ذمهم الله عليه، { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ } أي: وكانوا يفعلون الذنوب الكبار ولا يتوبون منها، ولا يندمون عليها، بل يصرون على ما يسخط مولاهم، فقدموا عليه بأوزار كثيرة [غير مغفورة]. وكانوا ينكرون البعث، فيقولون استبعاداً لوقوعه: { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } أي: كيف نبعث بعد موتنا وقد بلينا، فكنا تراباً وعظاماً؟ [هذا من المحال] { أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } قال تعالى جواباً لهم ورداً عليهم: { قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } ، أي: قل إن متقدم الخلق ومتأخرهم، الجميع سيبعثهم الله ويجمعهم لميقات يوم معلوم، قدّره الله لعباده، حين تنقضي الخليقة، ويريد الله تعالى جزاءهم على أعمالهم التي عملوها في دار التكليف. { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضِّآلُّونَ } عن طريق الهدى، التابعون لطريق الردى، { ٱلْمُكَذِّبُونَ } بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق والوعد والوعيد، { لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } وهو أقبح الأشجار وأخسها، وأنتنها ريحاً، وأبشعها منظراً، { فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ } والذي أوجب لهم أكلها - مع ما هي عليه من الشناعة - الجوع المفرط، الذي يلتهب في أكبادهم وتكاد تنقطع منه أفئدتهم. هذا الطعام الذي يدفعون به الجوع، وهو الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
وأما شرابهم، فهو بئس الشراب، وهو أنهم يشربون على هذا الطعام من الماء الحميم الذي يغلي في البطون شرب الإبل الهيم أي: العطاش، التي قد اشتد عطشها، أو [أن الهيم] داء يصيب الإبل، لا تروى معه من شراب الماء. { هَـٰذَا } الطعام والشراب { نُزُلُهُمْ } أي: ضيافتهم { يَوْمَ ٱلدِّينِ } وهي الضيافة التي قدموها لأنفسهم، وآثروها على ضيافة الله لأوليائه. قال تعالى:{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } [الكهف: 107-108]. ثم ذكر الدليل العقلي على البعث، فقال: { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ } أي: نحن الذين أوجدناكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، من غير عجز ولا تعب، أفليس القادر على ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير، ولهذا وبَّخهم على عدم تصديقهم بالبعث، وهم يشاهدون ما هو أعظم منه وأبلغ.