عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 26-08-2020, 02:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,340
الدولة : Egypt
افتراضي الاحتكار والاستغلال والغش أدواء قاتلة حرمها الإسلام

الاحتكار والاستغلال والغش أدواء قاتلة حرمها الإسلام
الشيخ سعد الشهاوي








الحمدُ لله القويِّ المتين، القاهرِ الظاهرِ الملكِ الحقِّ المبين، لا يخفى على سمعِه خفيُّ الأنينِ، ولا يعزُب عن بصرِه حركاتُ الجنِين، ذلَّ لكبريائِه جبابرةُ السلاطين، وَقدر وقضى بحكمتِه وهو أحْكَمُ الحاكمين، أحمده حمْدَ الشاكِرين، وأسْألُه مَعُونَةَ الصابِرين، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له إِلهُ الأوَّلين والآخرين، وأشَهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المصطَفَى على جميع المرسلين، المؤيد بالروح الأمين وبالملائِكةِ المنزَلين، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابه والتابِعين لهم بإحْسانٍ إلى يومِ الدين، وسلم تسليماً كثيراً.







أمَّا بَعْد:



العناصر:



أولا: الحث على الكسب الحلال.



ثانيا: خطورة الاحتكار وغلاء الأسعار والاستغلال والغش على الفرد والمجتمع.



ثالثا: حرمة الاحتكار والاستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس.



رابعا: أسباب كثرة انتشار الاحتكار والاستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس.



خامسا: حلول مشكلة الاحتكار والاستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس في شريعة الله عز وجل كثيرة.



سادسا: دور الدولة والمجتمع في التعامل مع المحتكرين.



سابعا وأخيرا: رسالة إلى تجار المسلمين وما ينبغي أن يكونوا عليه في مثل هذه الأحوال.







أولا: الحث على الكسب الحلال أيها المسلمون إنَّ طلب الحلال وتحريه أمر واجب وحتم لازم ومن آداب العمل والكسب في الإسلام أن يكون من حلال فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51] وَقَالَ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" مسلم (1015 ))







أيها المسلمون: أرأيتم ذلك الرجل ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وقال عنه يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ ويقول يا رَبِّ يا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ) لقد استجمع هذا الرجل من صفات الذلة والمسكنة والحاجة والفاقة ما يدعوا إلى رثاء حاله ويؤكد شدة افتقاره ويؤهله لاستجابة دعوته فقد تقطعت به السبل وطال عليه السفر وتغربت به الديار وتربت يداه وأشعثَّ رأسه واغبرَّت قدماه ولكنَّه قطع صلته بالله وحرم نفسه من مدد خالقه ومولاه فحيل بين دعائه وبين القبول لأنَّه أكل الحرام وشرب الحرام واكتسى من الحرام ونبت لحمه من الحرام فردت يداه خائبتين وأيُّ لحم نبت من سحت أي حرام فالنار أولى به.







أيها المسلمون: قولوا لي بربكم ماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه وحجب دعائه وحيل بينه وبين القبول والرحمة؟ لمثل هذا قال وهيب بن الورد: " لو قمت في العبادة قيام هذه السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أم حرام" حلية الأولياء ج 8 ص154







إنَّ العجب كلَّ العجب ممن يحتمي من الحلال مخافة المرض لنصح طبيب فيترك بعض ما يشتهى من ألذ المأكولات والمشروبات الحلال خوفا على صحته ولا يحتمي من الحرام مخافة النار وقد نصحه أرحم الراحمين ونصحه بعده أصدق الخلق أجمعين صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.







إن تحري الحلال له تأثير على نفسك وجميع جوارحك، قال سهل رضي الله عنه: من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى، علم أو لم يعلم؛ ومن كانت طعمته حلالاً أطاعته جوارحه ووفقت للخيرات. وقال بعض السلف: إن أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنوبه، ومن أقام نفسه مقام ذل في طلب الحلال تساقطت عنه ذنوبه كتساقط ورق الشجر.







عباد الله: حق عليكم تحري الحلال واتقوا الله جميعاً في أنفسكم وفي أولادكم لا تطعموهم الحرام فإنهم يصبرون على الجوع ولا يصبرون على حر النار وكانت بعض الصالحات توصي زوجها فتقول: " يا هذا اتقي الله في رزقنا فإنَّنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار ".







ولا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ بل ستسأل حتى عن شربة الماء قال تعالى: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾(8) سورة التكاثر.




عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَمٍ الأشعري قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِى الْعَبْدَ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ. أخرجه الترمذي (3358) الصحيحة (539)، المشكاة (5196 ).








وقال لقمان الحكيم لابنه يوما: يا بني، استعن بالكسب الحلال؛ فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته؛ وأعظم من هذه الخصال: استخفاف الناس به إنَّ حقاً على كل مسلم ومسلمة أن يتحرى الطيب من الكسب والنزيه من العمل ليأكل حلالاً وينفق في حلال، وتأملوا رحمكم الله في حال الصديق رضي الله عنه فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت كان لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ له الْخَرَاجَ وكان أبو بَكْرٍ يَأْكُلُ من خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ منه أبو بَكْرٍ فقال له الْغُلَامُ تدري ما هذا فقال أبو بَكْرٍ وما هو قال كنت تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ في الْجَاهِلِيَّةِ وما أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إلا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ فَهَذَا الذي أَكَلْتَ منه فَأَدْخَلَ أبو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ في بَطْنِهِ " البخاري (3629) وفي رواية قال" إن كدت أن تهلكني فأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ وجعلت لا تخرج فقيل له إن هذه لا تخرج إلا بالماء فدعا بطست من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها فقيل له يرحمك الله أكلَّ هذا من أجل هذه اللقمة؟ قال لو لم تخرج إلَّا مع نفسي لأخرجتها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به " فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة. حلية الأولياء (ج1 ص31.







وقيل أدخل أصابعه في فيه وجعل يقيء حتى ظنَّ أن نفسه ستخرج، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء.







ومن ذلك -أيضاً- ما رواه عبد الرحمن بن نجيح قال: نزلت على عمر، فكانت له ناقة يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبناً أنكره، فقال: ويحك من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها، فخليت لك ناقة من مال الله، فقال: ويحك تسقيني نارًا فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر، حيث خشي من عذاب الله جل وعلا لما شرب ذلك اللبن مع أنه لم يتعمد ذلك، ولم تطمئن نفسه إلا بعد أن استحل ذلك من بعض كبار الصحابة الذين يمثلون المسلمين في ذلك الأمر، بل انظر كيف فرَّق- بحلاوة إيمانه ومذاقه- بين طعم الحلال وبين ما فيه شبهة. أولئك هم الصالحون يخرجون الحرام والمشتبه من أجوافهم وقد دخل عليهم من غير علمهم، ثمَّ خلف من بعدهم خلوف يعمدون إلى الحرام ليملئوا به بطونهم وبطون أهليهم وأولادهم لا يبالون بما اخذوا من الحرام فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ" البخاري (1954).







ثانيا: خطورة الاحتكار وغلاء الأسعار والاستغلال والغش على الفرد والمجتمع:



ومع الدعوة الى تحرى الحلال في العمل والكسب فإننا نرى أسعار السلع والخدمات لا تزال تزداد يومًا بعد يومًا بصورة هستيرية، ففي خلال أيام معدودات يمكننا أن نرصد تضاعف أسعار بعض السلع أضعافًَا مضاعفة، دون حاجة ضرورية لهذه الزيادة وفى ذلك خطورة شديدة على المجتمع عامة وعلى التجار خاصة.







أولا: خطورة ذلك على الناس عامة فبعض التجار -إلا من رحم الله- غرضهم الأساسي الربح، وتراهم يسلكون من أجل ذلك كل مسلك، سواء أكان بطريق الحلال أم الحرام، وسواء أكان في ذلك استغلال للمواطنين أم لا، وما قضايا الاحتكار والغش التجاري عنا ببعيد، فهي كثيرة ومنتشرة بين التجار الذين لا يراعون فقر المستهلكين ولا حاجتهم، بل يزيدون أموالهم يومًا بعد يوم بمص دماء الفقراء والمحتاجين واستغلال حاجتهم للسلع الأساسية، وهذا يدفع بالفقراء في دوامة من العمل لا تنتهي، فبدلاً من أن يعمل عملاً صباحيًا يكفيه وأسرته؛ ثم يتفرغ بعدها لتربية أبنائه التربية الصحيحة، فإنه لا يكتفي بعمل واحد، بل يسعى للبحث عن عمل ثانٍ وثالث ليسد نفقة الأبناء وتعليمهم وإطعامهم وكسوتهم وعلاجهم، وهذا بالتأكيد يؤثر تأثيرًا سلبيًا على الأبناء وعلى تربيتهم التربية السليمة، وبالتالي يتأثر المجتمع بذلك تأثرًا بالغًا فيصبح مجتمعًا ماديًا بحتًا يلهث وراء المادة ولا يعرف للروحانيات سبيلاً.







وبالتالي يزداد الهم والحزن الذي ينتاب المواطنين البسطاء -وما أكثرهم- حول إطعام أبنائهم وأهليهم أو كسوتهم، وليت الغلاء الفاحش الذى نعيشه متعلق بالكماليات فيستغنوا عنها، ولكنها احتياجاتهم الضرورية التي لا يستطيعون منها فكاكًا، فالطعام والشراب والكسوة والدواء من الأمور التي لا يستغني عنها بشر، وإذا حورب الإنسان في رزقه وزاد التجار في أسعار السلع رغمًا عنه ودون مراعاة لقدراته المادية فإنهم بذلك يصنعون من هذا الإنسان قنبلة موقوتة دون علم أو دراية قد تنفجر في أي وقت وفى أي مكان.







ثانيا: خطورة ذلك على التجار خاصة نقول لهؤلاء التجار إنَّ أكل الحرام يعمي البصيرة ويضعف الدين ويقسي القلب ويظلم الفكر ويقعد الجوارح عن الطاعات ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها ويحجب الدعاء ولا يتقبل الله إلَّا من المتقين، وإنَّ للمكاسب المحرمة آثار سيئة حيث تنزع البركات وتفشوا العاهات وتحل الكوارث فترى أزمات مالية مستحكمة وبطالة متفشية وتظالم وشحناء إذا كان الكسب من حرام فويل ثمَّ ويل للذين يأكلون الحرام ويتغذَّون بالحرام ويربُّون أولادهم وأهليهم على الحرام إنَّهم كالشارب من ما البحر كلما ازدادوا شرباً ازدادوا عطشا، شاربون شرب الهيم لا يقنعون بقليل ولا يغنيهم كثير يستمرؤن الحرام ويسلكون المسالك المعوجة من ربا وقمار وغصب وسرقة وغش واحتيال، تطفيفٌ في الكيل والوزن وكتمُ للعيوب، وأكلٌ لأموال اليتامى وانتهابٌ لأموال العمال بغير حق، أيمانٌ فاجرة ومكرٌ وخديعة، زورٌ وخيانة ورشوةٌ وتزوير وطرقٌ مظلمة كثيرة فالاحتكار والغش دليل على دناءة نفس المحتكر، ومؤشر على سوء خلقه، وعلامة على قلة إيمانه لأنه يعرض نفسه للوعيد وليعلموا أنه لن تنفعهم أموالهم ولا أملاكهم فتمنع عنهم عقاب الله، وليعلموا أنهم موقوفون بين يدي خالقهم فيسألهم عن كل ما جمعوه، أهو مِن حلال أم مِن حرام؟.







ثالثا: حرمة الاحتكار والإستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس:



ولذلك نهى الإسلام عن الاحتكار وغلاء الأسعار والاستغلال والغش وكل هذه السلوكيات الاقتصادية السيئة، فأمر بإيفاء الكيل والميزان قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾ [الأنعام: 152]. وقال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴾ [الإسراء: 35]. ويمكن القول: إنَّ الأمانة في الكيل والميزان من جملة الأمانات التي أمَر الله تعالى بأدائها ومُراعاتها. ("التفسير الكبير")؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، وهي من الأخلاق العظيمة التي تبعَثُ على حِفظ حُقوق الآخَرين، وتُؤكِّد ما بينهم من مُودَّةٍ ومحبَّةٍ، وتُزيل طمَع النُّفوس إلى ما في أيدي الناس دُون جهدٍ، وحبَّذا للمرء أنْ يُرجِّح إذا أعطى، ويُنقص إذا أخَذ؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إذا وزنتُم فأَرْجِحوا" (ابن ماجه، "صحيح الجامع": 825







وكمَا يعتَنِي الإسلام بتوفية الكَيْلِ والميزان يُحذِّر من التَّطفِيف؛ لأنَّ التَّطفِيف فيه دلالةٌ على أنَّ فاعلَه قد تأصَّلت فيه مَساوئ الأخلاق من غِشٍّ وخداع وخِيانة.







والتَّطفيف في الكيل والميزان أمرٌ محرَّم وكبيرةٌ من الكبائر؛ قال تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾ [المطففين: 1 - 3]، وهو مُنذِرٌ بعقوبة الجبَّار في الدُّنيا التي تحصل في جلْب الشِّدَّة وغَلاء الأسعار والضِّيق في المعيشة. ("الأمانة في الإسلام" ص190)







وجاء عن ابن عباسٍ - رضِي الله عنهما - قوله: "لَمَّا قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا مِنْ أخْبثِ الناس كيلاً، فأنزَل الله سبحانه: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾[المطففين: 1]، فأحسَنُوا الكيل بعد ذلك" (ابن ماجه، وحسَّنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه")







والتَّطفيف في الكيل والميزان سبب من أسباك هلاك البلاد والعباد أخرج البيهقيُّ والحاكم عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خصالٌ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ ويتحرَّوا فيما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ " " رواه البيهقي، والحاكم، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، رقم (7978)، ؛ ("الصحيحة": 106، "صحيح الجامع": 7855)فهل يعي المسلمون معنى هذا الحديث العظيم في أحوالهم التي يعيشونها الآن؟.







وعند الطبراني في "الكبير" عن ابن عبَّاس - رضِي الله عنهما - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمسٌ بخمْسٍ، ما نقضَ قومٌ العهدَ إلاَّ سُلِّط عليهم عدوُّهم، وما حكَموا بغير ما أنزَل الله إلاَّ فَشَا فيهمُ الفقرُ، ولا ظهَرت فيهم الفاحشةُ إلاَّ فشا فيهمُ الموتُ، ولا طفَّفوا المكيالَ إلاَّ مُنِعوا النَّبات وأُخذوا بالسنين، ولا منَعوا الزكاة إلاَّ حُبِسَ عنهُم القَطْرُ" ("صحيح الجامع": 3240)







وذكَر الله تعالى في كتابه الكريم عن أهل مَدْيَنَ أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، ويبخَسون الناس أشياءهم؛ أي: يُنقِصُونهم قيمة أشيائهم في المعاملات؛ لذا كانت دعوةُ نبيِّه شعيب - عليه الصلاة والسلام - قومَه إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ورعاية أمانة المكيال والميزان في المعاملات - ظاهرةً؛ قال تعالى: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [هود: 84، 85].







قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "بخس المكيال والميزان من الأعمال التي أهلَكَ الله بها قومَ شُعيب - عليه الصلاة والسلام - وقصَّ علينا قصَّتهم في غير موضعٍ من القُرآن؛ لنعتبر بذلك، والإصرارُ على ذلك من أعظم الكبائر، وصاحِبُه مُستوجِبٌ تغليظَ العُقوبةِ، وينبغي أنْ يُؤخَذ منه ما بخسَه من أموال المسلمين على طُول الزَّمان، ويُصرَف في مَصالح المسلمين، إذا لم يمكن إعادته إلى أصحابه" ("مجموع الفتاوى" (29/474)







وكذلك حرَّم الرسول صلى الله عليه وسلم الاحتكار وهذا يتناول كل بضاعة أو سلعة يحتاج إليها المسلمون، من قوت أو غير قوت، فعن معمر بن عبد اللّه- رضي اللّه عنه- عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا يحتكر إلّا خاطئ» « مسلم (1605) وابن ماجه (2154)







والخاطئ هو الآثم، المذنب، أي: لا يفعل هذا الفعل الشنيع إلا مَنْ اعتادت نفسه فعل الخطيئة والمعصية. وقال أيضاً: "من احتكر حَكْرة يريد أن يغلي بها على المسلمين، فهو خاطئ" أحمد، وصححه الألباني في "الصحيحة".







ووصف المحتكر بأنه خاطئ ليس أمرًا هينًا، فالله سبحانه وصف فرعون وهامان وجنودهما بأنهم كانوا خاطئين ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ (القصص: 8)







ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على كل محتكر بأن يبتليه الله بالمرض والإفلاس من جميع الأموال المحرمة التي جمعها من وراء هذه السلوكيات الخاطئة ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة عن عمر بن الخطّاب- رضي اللّه عنه- قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «من احتكر على المسلمين طعاما ضربه اللّه بالجذام والإفلاس» « ابن ماجة (2155)، وفي الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله موثقون، وأحمد (1 لا 21) وصححه الشيخ أحمد شاكر رقم (135) وله شاهد عن ابن عمر (أحمد 2/ 33) وصححه الشيخ أحمد شاكر (488) وكذا عن أبي هريرة (2/ 351) ح (8602) وينظر مجمع الزوائد (4/ 100) ».







انظروا يا عباد الله إلى كلمة: "ضربه الله بالجذام والإفلاس"، فهذه معاملة له بنقيض قصده، فإنه لما سعى إلى أن يقلل السلع في الأسواق وأن يزداد المال عنده لكي يغتني ولكي يربح، أصابه الله بالإفلاس، وهو الفقر الشديد، وأيضا وعده بوعيد وهو أن يصيبه الجذام، والجذام مرض تتساقط منه الأعضاء ويتساقط منه اللحم، لأنه لما سعى إلى احتكار هذه السلع مع حاجة الناس إليها فإن الناس سيمرضون وسيصيبهم العناء، فعاقبه الله بأشد الأمراض وهو الجذام.







وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المحتكر ملعون والملعون هو المطرود من رحمة الله تعالى قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ) [رواه مسلم].







وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله برئ من هؤلاء المحتكرين والغشاشين جاء في مسند الإمام أحمد، وصححه العلامة أحمد شاكر، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي اللّه عنهما- أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ(عرصة -أي: مكان- ) أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى). أَخْرَجَهُ أحمد 2/33 (4880). وقال الشيخ أحمد شاكر (7/ 49) برقم (4880): إسناده صحيح. ».







وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن يبيع طعاما مغشوشا للمسلمين وذلك حينما مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجل يبيع طعاما "حبوبا"، فأدخل يده فيه فرأى بللا، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟"، قال: أصابته السماء، أي: المطر، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "فهلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ من غشنا ليس منا" رواه مسلم. وفى رواية أخرى يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من غش فليس مني" رواه مسلم وأبو داود والترمذي.







وجاء الوعيد الشديد لمن أدخَل في أسعار المسلمين شيئا ظُلمًا وعدوانًا ليغلِيَه عليهم، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثَقُلَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، الطيالسي في مسنده ج 1/ ص 125 حديث رقم: 928.





يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.38 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.75 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.35%)]