الحلقة (581)
تفسير السعدى
(سورة الحديد)
من (22)الى (29)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الحديد
{ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } 22 { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } 23 { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ }24
يقول تعالى مخبراً عن عموم قضائه وقدره: { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَفِيۤ أَنفُسِكُمْ } وهذا شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق، من خير وشر، فكلها قد كتبت في اللوح المحفوظ، صغيرها وكبيرها، وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول، بل تذهل عنده أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير، وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر، فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم، مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا إليه، لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، لا بدّ من نفوذه ووقوعه، فلا سبيل إلى دفعه، ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومَنِّه، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ودفع النقم، ولهذا قال: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي: متكبر فظ غليظ، معجب بنفسه، فخور بنعم الله، ينسبها إلى نفسه، وتطغيه وتلهيه، كما قال تبارك وتعالى:{ ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } [الزمر: 49]. { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ } أي: يجمعون بين الأمرين الذميمين، اللذين كل منهما كاف في الشر البخل: وهو منع الحقوق الواجبة، ويأمرون الناس بذلك، فلم يكفهم بخلهم، حتى أمروا الناس بذلك، وحثُّوهم على هذا الخلق الذميم بقولهم وفعلهم، وهذا من إعراضهم عن طاعة ربهم وتوليهم عنها، { وَمَن يَتَوَلَّ } عن طاعة الله فلا يضرّ إلا نفسه، ولن يضرّ الله شيئاً، { فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } الذي غناه من لوازم ذاته، الذي له ملك السماوات والأرض، وهو الذي أغنى عباده وأقناهم، الحميد الذي له كل اسم حسن، ووصف كامل، وفعل جميل، يستحق أن يحمد عليه ويثنى ويعظم.
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } 25 { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } 26 { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }27
يقول تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ } وهي الأدلة والشواهد والعلامات الدالة على صدق ما جاؤوا به وحقيته. { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ } وهو اسم جنس يشمل سائر الكتب التي أنزلها الله لهداية الخلق وإرشادهم، إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، { وَٱلْمِيزَانَ } وهو العدل في الأقوال والأفعال، والدين الذي جاءت به الرسل، كلّه عدل وقسط في الأوامر والنواهي وفي معاملات الخلق، وفي الجنايات والقصاص والحدود [والمواريث وغير ذلك]، وذلك { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } قياماً بدين الله، وتحصيلاً لمصالحهم التي لا يمكن حصرها وعدها، وهذا دليل على أن الرسل متفقون في قاعدة الشرع، وهو القيام بالقسط، وإن اختلفت أنواع العدل، بحسب الأزمنة والأحوال، { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } من آلات الحرب، كالسلاح والدروع وغير ذلك. { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } وهو ما يشاهد من نفعه في أنواع الصناعات والحرف، والأواني وآلات الحرث، حتى إنه قَلَّ أن يوجد شيء إلا وهو يحتاج إلى الحديد. { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ } أي: ليقيم تعالى سوق الامتحان بما أنزله من الكتاب والحديد، فيتبين من ينصره وينصر رسله في حال الغيب، التي ينفع فيها الإيمان قبل الشهادة، التي لا فائدة بوجود الإيمان فيها، لأنه حينئذ يكون ضرورياً. { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي: لا يعجزه شيء، ولا يفوته هارب، ومن قوته وعزّته أن أنزل الحديد الذي منه الآلات القوية، ومن قوته وعزّته أنه قادر على الانتصار من أعدائه، ولكنه يبتلي أولياءه بأعدائه، ليعلم من ينصره بالغيب، وقرن تعالى في هذا الموضع بين الكتاب والحديد، لأن بهذين الأمرين ينصر الله دينه، ويعلي كلمته بالكتاب الذي فيه الحجة والبرهان والسيف الناصر بإذن الله، وكلاهما قيامه بالعدل والقسط، الذي يستدل به على حكمة الباري وكماله، وكمال شريعته التي شرعها على ألسنة رسله. ولما ذكر نبوة الأنبياء عموماً، ذكر من خواصهم النبيين الكريمين نوحاً وإبراهيم اللذين جعل الله النبوة والكتاب في ذريتهما، فقال: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ } أي: الأنبياء المتقدمين والمتأخرين كلهم من ذرية نوح وإبراهيم عليهما السلام، وكذلك الكتب كلها نزلت على ذرية هذين النبيين الكريمين، { فَمِنْهُمْ } أي: ممن أرسلنا إليهم الرسل { مُّهْتَدٍ } بدعوتهم، منقاد لأمرهم، مسترشد بهداهم. { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي: خارجون عن [طاعة الله و] طاعة الرسل والأنبياء، كما قال تعالى:{ وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف: 103]. { ثُمَّ قَفَّيْنَا } أي: أتبعنا { عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } خصَّ الله عيسى عليه السلام لأن السياق مع النصارى، الذين يزعمون اتباع عيسى عليه السلام، { وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ } الذي هو من كتب الله الفاضلة، { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } كما قال تعالى:
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } الآيات [المائدة: 82]. ولهذا كان النصارى ألين من غيرهم قلوباً، حين كانوا على شريعة عيسى عليه السلام. { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } والرهبانية: العبادة، فهم ابتدعوا من عند أنفسهم عبادة، ووظفوها على أنفسهم، والتزموا لوازم ما كتبها الله عليهم ولا فرضها، بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم، قصدهم بذلك رضا الله تعالى، ومع ذلك { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي: ما قاموا بها ولا أدُّوا حقوقها، فقصروا من وجهين: من جهة ابتداعهم، ومن جهة عدم قيامهم بما فرضوه على أنفسهم. فهذه الحال هي الغالب من أحوالهم. ومنهم من هو مستقيم على أمر الله، ولهذا قال: { فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } أي: الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع إيمانهم بعيسى، كلٌّ أعطاه الله على حسب إيمانه { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 28 { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }29
وهذا الخطاب، يحتمل أنه [خطاب] لأهل الكتاب الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام، يأمرهم أن يعملوا بمقتضى إيمانهم، بأن يتقوا الله فيتركوا معاصيه، ويؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم إن فعلوا ذلك أعطاهم الله { كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } أي: نصيبين من الأجر نصيب على إيمانهم بالأنبياء الأقدمين، ونصيب على إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون الأمر عاماً يدخل فيه أهل الكتاب وغيرهم، وهذا الظاهر، وأن الله أمرهم بالإيمان والتقوى الذي يدخل فيه جميع الدين، ظاهره وباطنه، أصوله وفروعه، وأنهم إن امتثلوا هذا الأمر العظيم، أعطاهم الله { كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } لا يعلم وصفهما وقدرهما إلا الله تعالى أجر على الإيمان، وأجر على التقوى، أو أجرٌ على امتثال الأوامر، وأجر على اجتناب النواهي، أو أن التثنية المراد بها تكرار الإيتاء مرة بعد أخرى. { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } أي: يعطيكم علماً وهدىً ونوراً تمشون به في ظلمات الجهل، ويغفر لكم السيئات. { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } فلا يستكثر هذا الثواب على فضل ذي الفضل العظيم، الذي عم فضله أهل السماوات والأرض، فلا يخلو مخلوق من فضله طرفة عين ولا أقل من ذلك. [وقوله] { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ } أي: بينَّا لكم فضلنا وإحساننا لمن آمن إيماناً عاماً، واتقى الله، وآمن برسوله، لأجل أن أهل الكتاب يكون لديهم علم بأنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله أي: لا يحجرون على الله بحسب أهوائهم وعقولهم الفاسدة، فيقولون:{ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } [البقرة: 111] ويتمنون على الله الأماني الفاسدة، فأخبر الله تعالى أنَّ المؤمنين برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، المتقين لله، لهم كفلان من رحمته، ونورٌ، ومغفرة، رغماً على أنوف أهل الكتاب، وليعلموا { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } ممن اقتضت حكمته تعالى أن يؤتيه من فضله، { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الذي لا يقادر قدره].