الموضوع: سفينة النجاة
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 29-08-2020, 04:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,306
الدولة : Egypt
افتراضي سفينة النجاة

سفينة النجاة


أحمد الجوهري عبد الجواد






﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد
صلى عليه الله ما جنَّ الدُّجى ♦♦♦ وما جَرَتْ في فَلَكٍ شمس الضحى

أما بعد فيا أيها الإخوة:
إن من تمام توحيد العبد ربه أن يصبر على أقدار الله تقرباً إلى الله ورجاء لثوابه وخوفاً من عقابه فيطمئن القلب ويقوى إيمان العبد وتوحيده ويقينه، وهذا هو أحد أنواع الصبر التي أرشد الله إليها ورسوله وورد في الكتاب والسنة فضل أهله وثوابهم وما لهم في الآخرة من الأجر الجزيل والثواب العظيم.

فتعالوا بنا - أيها الإخوة - لنشنف الآذان ونمتع الأسماع ونرقق القلوب ببعض أخبار الصبر وأحاديثه وآثاره في النفس والواقع.

وكما تعودنا فسوف ننظم سلك هذا الموضوع في العناصر المحددة التالية:
أولاً: ما هو الصبر وما أقسامه؟
ثانياً: فضل الصبر ومكانته.
ثالثاً: كيف يوفق العبد لتحصيل فضل الصبر ويكون من الصابرين؟

فأعيروني القلوب والأسماع - أيها الإخوة - والله أسأل أن يحفظنا بعينه التي لا تنام، وأن يكلأنا بكلئه الذي لا يرام ولا يضام.

أيها الإخوة.. أولاً: ما هو الصبر وما أقسامه؟
أحبتي! الصبر لغة: الكف والحبس، واصطلاحاً هو: حبس القلب عن الجزع وحبس النفس عن التسخط وحبس اللسان عن التشكي وحبس الجوارح عن فعل ما يغضب الله عز وجل.

ولذلك قال الله عز وجل لنبيه: ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: الصبر الجميل هو ما لا شكوى فيه إلى أحد غير الله تعالى، وأخرج عن عبد الأعلى بن الحجاج أنه قال: الصبر الجميل هو ما يكون معه صاحب المصيبة في القوم حيث لا يُدرى من هو.

وقال علي رضي الله عنه: إن من إجلال الله ومعرفة حقه أن.. لا تشكو وجعك.. ولا تذكر مصيبتك.

وقال الأحنف: لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة.. وما شكوت ذلك لأحد..

يقول صاحب الظلال: "الصبر الجميل هو الصبر المطمئن الذي لا يصاحبه سخط ولا قلق ولا الشك في صدق الوعد، صبر الواثق من العاقبة، الراضي بقضاء الله وقدره، الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء، الموصول بالله المحتسب لكل شيء عنده مما يقع به".[1]

ولذلك - أيها الإخوة - لا ينال أجر الصبر إلا من حفظ قلبه ولسانه وجوارحه عن الشكوى لغير الله أما الشكوى لله فلا حرج فيها على الإطلاق.

لأن التحقيق - أيها الإخوة - أن الشكوى نوعان: شكوى إلى الله وشكوى من الله، أما الشكوى إلى الله تعالى فلا بأس على صاحبها أبداً ولا مؤاخذة عليه فيها، كيف وقد لجأ إليها أنبياء الله ورسله وصحابة النبي والصالحون من أمته؟.

كما قال الله عز وجل عن نبيه أيوب عليه السلام: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ [ص: 41].

وكما قال الله عز وجل عن نبيه يعقوب عليه السلام: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 86].

وقال عن نبيه نوح عليه السلام: ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ﴾ [القمر: 10، 11].

وقال عز وجل عن نبينا صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30] فهذه أيها الأحباب شكوى إلى الله وهي رجاء ودعاء ورغبة، كما قال أيضاً عز وجل عن زكريا عليه السلام: ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 3 - 6].

ولذلك قال تعالى عنه وعن زوجه: ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 89، 90].

لا بأس على الإطلاق أن يلجأ العبد إلى هذا بل هو الحق والهدى أن يلجأ إلى الله ويرغب إليه ويناديه ويناجيه.

طرقت باب الرجاء والناس قد رقدوا
وبت أشكو إلى مولاي ما أجد

وقلت يا أملى في كل نائبة
يا من عليه لكشف الضر أعتمد

أشكو إليك أموراً أنت تعلمها
ما لي على حملها صبر ولا جلد

لقد مددت يدي بالذل مفتقرًا
إليك يا خير من مدت إليه يد

فلا تردنها يا رب خائبة
فبحر جودك يروي كل من يرد


هذه أيها الكرام الشكوى إلى الله وهي كما ترون رغبة ورجاء وتقرب وتزلف إلى الملك - سبحانه وتعالى -، وعلى الضد من هذا تماماً الشكوى من الله فإنها سخط وتضرم وتبرم من الله عز وجل تسمع هذا من بعض أهل البلاء ممن أنزل الله بهم بعض أقداره في تعبيرات شتى فمن قائل: أما وجد الله بين السماء والأرض من خلقه إلا أنا؟ ومن قائل: هي كل بلوى في الدنيا تنزل على فلان، أليس في الدنيا إلا فلان، كل مصائب الدنيا على رأس فلان، أليس هناك غيري، أما وجدت إلا أنا وهكذا.

وربما لا تظهر هذه الألفاظ على الألسن لكن القلوب تكنها وتحويها والعبارات تحوم حولها وتظهر رغما عنها في بعض لحنها كما جاء رجل يوماً إلى أبي حامد الغزالي رحمه الله وعفا عنه يشكو إليه شدة حاجته وفقره فأكثر وأطال حتى أحس أبو حامد منه سخطاً ونقمة على الرحمن جل جلاله فأراد أن يرده الى صوابه لكن بطريقة حسنة سهلة راشدة فقال: يا فلان إني أعرف رجلاً من أهل اليسر والغنى في مكان كذا وكذا وقد ابتلاه الله بالعمى فهو يريد عيناً يبصر بها أتعطيه إحدى عينيك ويعطيك عشرة آلاف؟ فأجاب الرجل على الفور: لا، قال أبو حامد: أفتعطي الكسيح رجلاً بعشرة آلاف، قال: لا، قال أبو حامد: فتعطي الأشل يداً بعشرة ألاف، قال: لا قال أبو حامد: أفتعطي الأصم أذناً بعشرة آلاف، قال الرجل: لا،. واستمر أبو حامد يعدد عليه نعم الله الظاهرة فيه فقط كل ذلك والرجل يقول: لا، بتعبيرنا: ثم قال أبو حامد: يا هذا إن معك من الأموال ما يزيد على ألف ألف مما ظهر فكيف بما خفي (إنك ملياردير) ومثلك لا تحق له الشكوى. ورحم الله الذي قال:
لا تسألن بني آدم حاجة
وسل الذي أبوابه لا تحجب

الله يغضب إن تركت سؤاله
وبني آدم حين يسأل يغضب


وقال آخر:
فإذا شكوت إلى ابن آدم حاجة فإنك تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

ولذلك - أيها الإخوة - من نزلت به فاقة فأنزلها بالله قضاها الله له ومن نزلت به حاجة فأنزلها بالناس لم يقضها الله له أبداً، هذا سر من أسرار قبول الدعاء وتفريج الكروب والإخلال به هو سبب عدم استجابة الله لنا وهو أننا ننزل حوائجنا بالناس أولاً ونتذكر الله آخراً هذا إذا تذكرناه.

روى أبو داود بسند صحيح عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى إما بموت عاجل أو غنى عاجل". [2]

هذا هو تحقيق مسألة الشكوى أنها نوعان شكوى إلى الله وهي لا تنافى الصبر بل تدعمه وتقويه، وشكوى من الله وهي تضاد الصبر وتنافيه، والصبر - أيها الإخوة - ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صبر على المأمور، وصبر عن المحظور، وصبر على المقدور.

أما الصبر على المأمور فهو الصبر على طاعة الله عز وجل فالطاعة تحتاج إلى صبر كما قال الله عز وجل: "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين". فالطاعة تحتاج إلى صبر ومجاهدة ومرابطة ومصابرة حتى تؤتي ثمارها بإذن ربها وإلا كانت آلية ميكانيكية يؤديها العبد ولا يحس حلاوتها ولا يذوق لذتها ولذلك قال من قال من رجالات السلف: عالجت قيام الليل سنة ثم استمتعت به عشرين سنة فالطاعة تحتاج إلى صبر.

القسم الثاني: صبر عن المحظور وهو الصبر عن المعصية والذنوب والسيئات فيحجز العبد نفسه الأمارة بالسوء عن ارتكاب المعصية ولا يسارع إليها أول ما تدعوه بل يجاهدها ويجاهد شيطانها وهذا إنما يتأتي بالصبر.

القسم الثالث: هو الصبر على المقدور وهو الصبر على أقدار الله مما يصيب الله به عباده من الأمراض والأوجاع وجميع المصائب وهذا هو محك الإيمان ومختبر الإسلام والاستسلام والإيقان، ولذلك جاء الفضل فيه في القرآن العظيم وسنة النبي الكريم كثيرًا جدًّا وحثت عليه الآيات والأحاديث والآثار عن السلف وسارع فيه المتنافسون وفاز في دربه المتسابقون وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء: فضل الصبر ومكانته.

أيها الإخوة..
ذكر الله تعالى الصبر في القرآن الكريم في تسعين موضعاً وكفى بهذا شرفًا و فضلاً للصبر وأهله وحسبك بذلك حثاً عليه وترغيباً فيه، ولا نستطيع في مقامنا هذا أن نشير إلى جميع هذه المواضع لكن بحسبنا أن نومئ إلى بعضها فمن ذلك قوله تعالى آمراً بالصبر حاثاً عليه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].

وقال عز وجل معلناً أن الصبر من شيم طلاب المعالي: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43].

وقال عز وجل يعلن عن شرف صحبة الصابرين وذلك لشرف معيته لهم سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾.

وقال عز وجل يكشف عن عظيم أجرهم لديه: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب". وقال: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 158].

هذه بعض آيات القرآن العظيم في بيان مكانة الصبر وفضل الصابرين، وقد أفاضت السنة المطهرة كذلك في الحث على الصبر والترغيب فيه والتعريف بفضل الصابرين والكشف عن علو درجاتهم.

روى مسلم من حديث أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء".[3]

الله! أرأيت إلى هذا التعبير: "والصبر ضياء"، قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: والصبر ضياء: يضيء للإنسان عندما تحتلك الظلمات وتشتد الكربات يهدي صاحبه إلى الحق، ولهذا أمر الله عز وجل بالاستعانة بالصبر فقال: "واستعينوا بالصبر" فهو ضياء للإنسان في قلبه وضياء له في طريقه ومنهاجه وعلمه فكلما سار العبد إلى الله على طريق الصبر زاده الله هدى وضياء وبصيرة. [4]

وروى مسلم من حديث صهيب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن".[5]

وفي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وما أعطى أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر".[6]

ويكفي - أيها الإخوة - أن الصبر دليل محبة الله للعبد كما قال عز وجل: "إن الله يحب الصابرين" وكما في الحديث الذي أخرجه الترمذي وسنده حسن من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط". [7]

الله! من رضي فله الرضا، ولنا في السابقين الصادقين الأسوة والقدوة
أين الذين رضوا بالفقر وأحبوا الفقراء فمحمد إمامهم إلى الجنة.
أين الذين حجوا واعتمروا فآدم إمامهم إلى الجنة.
أين الذين أحبوا الكرم وأكرموا الضيوف فإبراهيم إمامهم إلى الجنة.
أين الذين صبروا في البلاء فأيوب إمامهم إلى الجنة.
أين الذين قالوا الحق لوجه الله فموسي إمامهم إلى الجنة.
أين الذين أحبوا الصدق واتصفوا به فأبو بكر إمامهم إلى الجنة.
أين الذين أحبوا العدل واتصفوا به فعمر إمامهم إلى الجنة.
أين الذين أحبوا الجهاد في سبيل الله فعلي إمامهم إلى الجنة.
أين الذين أحبوا الإيثار واتصفوا به فالحسين إمامهم إلى الجنة.
أين الذين خافوا الله عند المقدرة فيوسف إمامهم إلى الجنة.

أيها الإخوة!
من علامات حب العبد لله: أن يكون صابراً على المكاره، فالصبر من آكد المنازل في طريق المحبة، وألزمها للمحبين، فإنَّ بقوة الصبر على المكاره في مراد المحبوب، يُعلم صحة محبته، ولهذا كانت محبة أكثر الناس كاذبة، لأنهم كلهم ادعوا محبة الله تعالى، فلما امتحنهم بالمكاره، ظهروا على حقيقتهم، ولم يثبت إلا الصابرون، فلولا تحمّل المشاق، وتجشم المكاره، بالصبر، لما ثبتت صحة محبتهم، انظر رعاك الله، كيف وصف الله تعالى بالصبر خاصة أوليائه وأحبابه، فقال عن حبيبه أيوب: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً ﴾، ثم أثنى عليه قائلاً: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾، وأمر الله أحب الخلق إليه بالصبر لحكمه وأخبر أنَّ صبره به وبذلك تهون جميع المصائب فقال: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ وقال: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ ﴾ وأثنى الله على الصابرين أحسن الثناء فقال: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾. ونعود فنردد ما قال سيد الصابرين صلى الله عليه وسلم: (وما أُعطي أحدٌ عطاءً خير وأوسع من الصبر). وقال سبحانه: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾. فهنيئاً لهم بشارة ربهم، وهنيئاً لهم: ﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾"[8]

وهذا الجزاء - أيها الإخوة - لمن صبر الصبر الجميل الذي أشرنا إليه في بداية اللقاء فمن كان كذلك حاله نال هذا الأجر والثواب والفضل، فليس كل أحد على هذه الدرجة ليس أهل البلاء كلهم سواء في تلقي أمر الله وقدره بل يختلفون في أحوالهم ويتباينون في مواقفهم.

ولذلك كان تلقي البلاء بالشكر والرضا هو محك اختبار الإيمان وبه تستبين درجة العبد ويظهر قدره كما في الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألبانى فى الصحيحة من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه"[9] فلا ريب أن ينزل الصبر تلك المنزلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى قال علي رضي الله عنه: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ثم قال: أما إنه لا إيمان لمن لا صبر له".
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.85 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.22 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.70%)]