عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 01-09-2020, 05:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,340
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (59)

صـــــ(11) إلى صــ(19)

[حكم صلاة من انكشف بعض عورته]
قال المصنف رحمه الله: [ومن انكشف بعض عورته وفحش، أو صلى في ثوبٍ محرمٍ عليه أو نجس أعاد].بعد أن بين المصنف رحمه الله وجوب ستر العورة، ثم بين حدود العورة، ثم بيَّن ما تستر به العورة شرع في المسائل الطارئة، فلو أن إنساناً صلَّى وانكشف منه بعض عورته،
فقال رحمه الله:
[ومن انكشف بعض عورته وفحش] انكشاف بعض العورة يكون بالاختيار، ويكون بالاضطرار، أما بالاختيار فقولاً واحداً يوجب بطلان صلاته، فإذا كشف عورته مختاراً، دون حاجةٍ ولا ضرورةٍ مع علمه، فإنه تبطل صلاته.وانكشافها بالاضطرار يتأتى في قصر اللباس، كما لو كان له لباسٌ أو ثوب واحد، فإذا سَجَد انكشفت عورته، وكان هذا موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا -كما في أبي داود - يصلون وهم عاقدو أُزرهم على عواتقهم رضوان الله عليهم، فإذا سجد الرجل منهم انكشفت عورته، من قلة اللباس.مصعب بن عمير رضي الله عنه كانت له شملة هي التي خرج بها من الدنيا، إن غطوا بها وجهه في الكفن بدت قدماه، وإن غطوا بها قدميه بدا وجهه، وهذا من ضيق الحالة التي كان عليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم عاذراً لهم في ذلك، ولم ينزل الوحي بإلزامهم بشيء، أو تحميلهم تبعة ذلك، فدل على أن المضطر لا يكلف أكثر من قدرته.وإن كشفها ذاهلاً وناسياً دون إدراك منه،
فقال بعض العلماء: إنه إذا كان ولم يعلم به، صحَّت صلاته إذا لم يفحش،
واستدلوا على هذا بما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه أنه قال:
(وكانت العرب تَلَوَّمُ بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فأسلم الناس بعد فتح مكة،
وقدم أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ولأصحابه:
صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً،
قال:
فرجعوا فنظروا فإذا أنا أكثرهم قرآناً فقدموني)
.فذكر رضي الله عنه أنه كان له ثوبٌ إذا سجد بدت به عورته،
فقال رضي الله عنه:
(فقالت النساء: استروا عنا است قارئكم).
ووجه الدلالة من هذا الحديث قول النساء: (استروا عنا است قارئكم)، فدل على انكشاف عورته، ومع هذا لم تبطل صلاته،
ولذلك قالوا:
من انكشفت عورته لذهول أو نسيان فإن صلاته تصح بشرط عدم الفحش كما ذكر المصنف رحمه الله.وكان الإمام أحمد رحمه الله يضعف متن هذا الحديث،
فكان إذا ذُكِر له حديث عمرو بن سلمة يقول:
أي شيءٍ هذا؟ أي شيءٍ هذا؟ دعه فإنه ليس ببيِّن وهذا من فقهه ودقة فهمه رحمة الله عليه.
فإن حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه يقول: (رجعوا فنظروا) أي: اجتهدوا، وكان هؤلاء الصحابة -كما هو معلوم- أسلموا في عام الوفود حينما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فمعنى ذلك أن اجتهادهم رضوان الله عليهم مع حدث عهدٍ بجاهلية لا يُؤمَن معه وجود الخلل؛ لأن انكشاف عورة المصلي يوجب البطلان بالأصل، فكونهم يتركونه يصلي بهم والعورة منكشفة -مع إمكان سترها- من ناحية أصول الشرع لا يقتضي الصحة، فكأنه يرى أن هذا فعل صحابيٍ في زمان النبوة لا يستلزم الاحتجاج بمثله، فلو كان في المدينة وبمحضر من النبي صلى الله عليه وسلم وإقرارٍ منه لصح الاحتجاج،
لكن كون عمرو نفسه يقول:
(فنظروا) يؤكد أن هذا خرج منهم على سبيل الجهل رضي الله عنهم وأرضاهم،
وكان كما جاء عنه في بعض الروايات أنه إذا قيل نفض يديه وقال: أي شيءٍ هذا؟ لأننا لو جئنا نقول بظاهره لأدى ذلك إلى بطلان أصل ستر العورة؛ لأنه بإمكانهم أن يستروه، وبإمكانهم أن يمنعوه من انكشاف عورته،
ولذلك قال عمرو:
(فنظروا).وهناك رواية عند عبد الرزاق في مصنفه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره، ولكنها روايةٌ ضعيفة لم يصح سندها، ومثلها الرواية التي تفيد أن عمراً قدمَ مع أبيه، وهي رواية غير صحيحة، والصحيح أن عمراً كان عند أهله، وأنه كان يتلقى من قدم من المدينة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحفظ ما عنده من القرآن حتى كان أحفظ القوم، وكانوا حديثي عهدٍ بجاهلية، فرأوا أنه أحفظهم فقدموه.
[حكم الصلاة في ثوب حرام أو نجس]
قال المصنف رحمه الله:
[أو صلى في ثوبٍ محرمٍ عليه، أو نجسٍ أعاد].
قوله: [أو صلى في ثوبٍ محرمٍ] كالثوب المغصوب، كأن يغتصب من إنسانٍ ثوبه ويصلى فيه،
والصلاة في الثوب المغصوب للعلماء فيها قولان:
قال الجمهور: من صلى في ثوبٍ مغصوبٍ فصلاته صحيحة، فلا يُطَالب بالإعادة، ولكنه آثمٌ بلبس هذا الثوب، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية رحمة الله على الجميع.
وقال الحنابلة رحمهم الله: إن من صلى في ثوبٍ محرمٍ كالمغصوب والمسروق فصلاته باطلة، وتلزمه الإعادة، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن النهي لم ينصب على ذات الصلاة، والنهي إذا لم ينصب على ذات الشيء لم يقتض الفساد؛ لأن النهي هنا عن خارجٍ ليس بمتصلٍ بذات الصلاة، فلو كان النهي عن متصلٍ بذات الصلاة لأوجب البطلان.وبناءً على ذلك قال الجمهور بانفكاك الجهة، فقالوا: نقول: هو آثمٌ بلبس الثوب مثابٌ بفعل الصلاة،
وبناءً على ذلك نقول:
إن صلاته صحيحة، ولبسه للثوب حرامٌ عليه وهذا أصح القولين لما ذكرناه من أن النهي إذا لم يرجع إلى ذات المنهي عنه لا يقتضي البطلان، ولا يقتضي الفساد، وأما إذا رجع إلى ذاته فإنه يقتضي البطلان والفساد.
قوله: (أو نجسٍ) أي: أن صلى في ثوبٍ نجس تلزمه الإعادة، وسيأتي إن شاء الله الكلام على الصلاة في الثوب النجس والمكان النجس، ولكن هنا إذا لم يكن مضطراً، أما لو اضطر وكان الثوب الذي يصلي فيه نجساً، ولم يوجد ما يطهر به هذا الثوب، كأن يكون في بريةٍ ونحوها،
فقالوا:
يصلي ولا تلزمه الإعادة.واستحب بعض العلماء أنه إذا اضطر وصلى في ثوبٍ نجس ثم وجد الطاهر قبل خروج الوقت أن يعيد استحباباً، وهذا مذهب بعض العلماء رحمة الله عليهم.
قال رحمه الله تعالى: [لا من حُبس في محل نجس].
قوله: [حُبِس] بمعنى أنه ألجأه الوقت أن يصلي في مكانٍ غير طاهر،
قالوا:
في هذه الحالة يصلي؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فلو كان في مكانٍ نجس ولا يستطيع أن يخرج عنه، فحينئذٍ يصلي وصلاته صحيحة.وهكذا لو استغرق امتناعه عن الخروج مدة وقت الصلاة، فيصلي ولا إعادة عليه؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهذا ليس بوسعه أن يجد مكاناً طاهراً، فيصلي على حالته.
[حكم عدم كفاية الساتر لستر العورة]
يقول المصنف رحمه الله: [ومن وجد كفاية عورته سترها وإلا فالفرجين فإن لم يكفهما فالدبر].بعد أن بيَّن المصنف رحمه الله وجوب ستر العورة للصلاة، وأنه ينبغي على كل مصلٍ أن يستر عورته، بيَّن أن من وجد هذا الساتر الذي أمر الله به فينبغي عليه أن يستتر، أما لو كان الإنسان غير واجدٍ للسُّترة التي أمر الله بها، كأن يكون خرج من غرق في البحر، ولا يجد ما يستر به عورته إلا شيئاً يسيراً من الثياب فيستر السوءتين وذلك هو الأصل في العورة، وما زاد على السوءتين إنما هو آخذٌ حكمها بحكم التَّبَع لا بحكم الأصل، فإذا تعارض عندنا ستر السوءة بنفسها
-أعني: العورة- وستر ما جاورها قدم ستر العورة على ما جاورها، فيبتدئُ بستر الفرجين، فإذا كان هناك شيءٌ زائد على ما يستر به الفرجين ستره، وأما إذا كان القدر من الثياب الذي معه لا يكفي إلا للفرجين ستر الفرجين.
وقوله: (فإن لم يكفهما فالدبر) للعلماء في تقديم أحدهما وجهان: فمنهم من قال: إن المكلف إذا فقد الساتر ولم يجد إلا ما يستر به أحد الفرجين ستر الدبر؛ لأنه أبلغ في الانكشاف خاصةً عند سجوده، ولإمكان ستر القبُل بالمواجهة، وبإنزال اليدين بمحاذاة الفرج دون مسٍ؛ لأن مس الفرج يؤدي إلى انتقاض طهارته وبطلان صلاته.
قالوا: فخُفِّف في القبُل وشُدد في الدبر، ولأن القبل يستتر في حال السجود والدبر ينكشف، فأصبح أحد الموضعين أبلغ من الموضع الثاني في الانكشاف، وإذا كان أحد الموضعين أبلغ كان هذا مرجِّحاً لستره على غيره؛ لأن التضرر بانكشافه أبلغ.
وقال بعض العلماء:
إنه يستر القبُل ويترك الدبر؛ لأنه إذا وقف كان الانكشاف للقبل أبلغ من انكشاف الدبر.والحقيقة أن القول بستر الدبر أبلغ وأقوم،
وذلك من وجوه:
منها ما ذكروه، ولأن الإنسان يستر في صلاته قبله، ويضعف انكشاف القبل في حال القيام بضم الفخذين إليه، وبالركوع يكون أخف، وكذلك في حال السجود، فأصبح حال الفرجين مختلفاً من جهة الانكشاف، فرُجِّح تقديم الدبر على القبل للوجوه التي ذكرناها.
[إعارة العادم السترة وحكم أخذه لها]
قال رحمه الله تعالى:
[وإن أُعِير سُترةً لزمه قبولها] بعد أن بين رحمه الله أنه لا تصح الصلاة إلا بالسترة، وأن هناك أحكاماً تتعلق بالمضطر -وهو الشخص الذي لا يجد السترة- شَرَع بعد ذلك في حكم هذا الشخص الذي لا يجد سترة،
فلو أن إنساناً قال له:
خذ هذا الثوب عاريةً مني، أو هديةً، أو عطيةً، فإنه يجب عليه قبول هذا الساتر لستر العورة، وذلك لمكان الفرض الواجب عليه بالستر، وهذه من الصور التي يجب فيها قبول العارية والهبة، لا لذات العارية والهبة، ولكن لأنه مطالبٌ بستر عورته، فتوقَّف هذا الواجب -وهو ستر العورة- على قبول العارية والهدية، والقاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب،
فلذلك قالوا:
يلزمه القبول، ولا يجوز له أن يمتنع.
كيفية صلاة العاري منفرداً
قال المصنف رحمه الله:
[ويصلي العاري قاعداً بالإيماء استحباباً فيهما].بعد أن بين الحالة الأولى، وهي التي تتعلق بالإنسان الذي لا يجد السترة من طَوْلِه ومن ماله ووجدها من الغير بين الحالة الثانية، وهي ألا يجد أحداً يتبرع له بالسترة، ولا يمكنه أيضاً ستر أحد الفرجين،
فقال رحمه الله:
(ويصلي العاري قاعداً)، فلو أن هذا الشخص الذي لا يجد السترة لم يجد من يعطيه سترة أو يعيره السترة،
وليس عنده ما يستر به أحد الفرجين فللعلماء في الإنسان العاري إذا أراد أن يصلي وجهان:
فمنهم من قال: يصلي قائماً،
ومنهم من قال:
يصلي قاعداً.
وصورة المسألة: لو أن إنساناً غرق، أو جماعةً انكسرت بهم السفينة، فخرجوا وأصبحوا عراةً، أو نزلوا في موضعٍ احترقت عليهم ثيابهم، ولم يجدوا ما يستروا به عوراتهم،
فأهل القول الأول قالوا:
إذا اجتمعوا أو انفردوا فإنه يصلي الإنسان في هذه الحالة قاعداً،
ووجه هذا القول أنهم قالوا:
إنه إذا صلى قاعداً فات حق الله عز وجل في القيام، وإذا صلى قائماً فات حق العبد بانكشاف عورته وتضرر فتعارض الحقان، والقاعدة أن حقوق الله أوسع من حقوق العباد، فإذا تعارض الحقان قدم حق العبد على حق الله لا من جهة التفضيل، ولكن من جهة الرحمة واللطف، ولذلك من اضطر في سفر إلى مخمصة وأصابته المجاعة فإن حق الله ألا يأكل الميتة، وحق نفسه أن ينقذها، فقُدِّم حق النفس على حق الله من جهة الرحمة والتوسعة من الله على عباده.
فيقولون: إن العاري لو قلنا له: صلِّ قائماً تضرر بحق نفسه بانكشاف عورته وبدو سوءته،
وقد سمَّى الله العورة سوءة قال تعالى:
{فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه:121].فأخبر سبحانه وتعالى أن العورة سوءة،
قالوا:
سميت سوءةً؛ لأنها تسيء إلى صاحبها عند انكشافها.
والقول الثاني: يصلي قائماً ولا يصلي قاعداً؛ لأن الله تعالى قال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]،
وقال عليه الصلاة والسلام:
(إذا قمت إلى الصلاة فكبر)،
وقال لـ عمران:
(صل قائماً).فالأدلة ملزمةٌ بالقيام،
قالوا:
فإذا قلنا له: اجلس لمكان انكشاف العورة فإننا نقدم الشرط على الركن، والقاعدة أنه إذا ازدحم الشرط والركن قُدِّم الركن على الشرط، فإن القيام ركن، والجلوس من أجل ستر العورة تحصيل للشرط، والذي تطمئن إليه النفس أن الإنسان إذا لم يجد ما يستر به عورته يصلي قائماً،
لأمور:
أولاً: للأدلة التي دلت على لزوم القيام.
ثانياً: أن قولهم بأنه يجلس ولا يقوم إنما هو تقديمٌ للشرط على الركن، والقاعدة أن الأركان مقدمةٌ على الشروط، وهذا بدليل الشرع، فإن الأركان أَلْزَم؛ لأنها تعود إلى حقيقة الصلاة وماهيتها.
ثالثاً: أن فقه المسألة أن الإنسان إذا صلى قائماً فإنه ليس بمخلٍ من نفسه؛ لأن الله كلَّفه أن يستر عورته عند القدرة، ولا قدرة له على الستر.فبقي نظر الغير إليه يتعلق إثمه بالناظر، فالله لم يكلفني نظر الغير؛ لأنني إذا لم أجد الطّول فغيري هو الآثم بالنظر، وأصبح التكليف بغض النظر متعلقاً بالغير لا بالمكلف، ولذلك يقوى القول بأنه يُصَلِّي قائماً، ولا يصح منه أن يصلي جالساً لما ذكرناه.
وقوله: (استحباباً) أي: لا نوجب عليه ذلك، ومعناه أنه لو صلى قائماً صحت صلاته،
وخلاصة القول:
يصلي قائماً حتى نخرج من الخلاف؛
لأن من قال:
(يصلي قاعداً) لا يُوجِب القعود،
وإنما قال:
(استحباباً) أي: لا حتماً ولا إيجاباً.
[كيفية صلاة العراة جماعة]
قال المصنف رحمه الله:
[ويكون إمامهم وسطهم].هذه مسألة من مسائل الإمامة،
قالوا:
الأصل في الإمام أن يتقدم؛ لأن الإمام مأخوذٌ من الأمام، كما قال ابن منظور في اللسان، والأمام هو الخط الذي يُخط في أول الدار.
قالوا: فوصفه في الشرع بالإمامة يدل على تقديمه، فلو تأخر لم يكن إماماً شرعياً من هذا الوصف؛ لأنه يُؤتم به.
وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إنما جعل الإمام ليؤتم به) أي: من أجل أن يؤتم به، فلما أخبر أن الإمام مؤتمٌ به، فهذا مطلق يشمل الائتمام به في حال تقدمه والائتمام به في حال أدائه للصلاة، ولذلك ينبغي على الإمام أن يتقدم، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يصلي بأصحابه متقدماً لا متأخراً، ولا مساوياً للصفوف إلا في حال الاضطرار، فهذا يستثنى لمكان الضرورة والحاجة.
لكن لو أن عراةً اجتمعوا وأرادوا أن يصلوا قال: [ويكون إمامهم وسطهم]، وذلك مما يُغتفر فيه تقدم الإمام على المأمومين، لكن يُنبه على أن الإمام ينبغي عليه أن يتقدم على من بجواره قليلاً؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إنما جُعِل الإمام ليؤتم به)، فهذا يدل على تقدم الإمام ولو قليلاً، كما نبه العلماء رحمهم الله على ذلك، كما في حديث أنس، وهو أحد الوجهين عندهم كما نبه عليه فقهاء الشافعية وغيرهم.فيصلِّي وسطهم، لكنه يتقدم قليلاً، والسبب في هذا أنه إذا تقدم انكشفت عورته، وانكشاف العورة مخلٌ بالصلاة،
قالوا:
فيتأخر؛ لأن تقدم الإمام هنا أخف من المسألة التي معنا في القيام والقعود، فإن التقدم في الإمامة يغتفر لمكان دلالة النص على الستر، فإن دلالة النص على الستر في النصوص الواردة بالأمر بالستر وستر العورة أقوى من الأمر بتقدم الإمام،
فلما أصبحت نصوص ستر العورة أقوى من نصوص تقدم الإمام قالوا:
إن الإمام يصلي وسطهم، بمعنى أن يكون داخل الصف.فلو فرضنا أنهم ثلاثة عراة، فإنه يصلي وسطهم، ويكون أحدهم عن يمينه والثاني عن يساره.
قالوا: وهذا يغتفر فيه مقامه عن اليسار، وهي من الصور التي يستثنى فيها وقوف المأموم عن يسار الإمام.لكن لو أنه أخره قليلاً فإنه أولى وأحرى، ولا شك أنه لو تأخر قليلاً لا يكون ثَمّ انكشاف كما لو تقدم تقدماً حقيقياً كما يفعله الأئمة.
قال رحمه الله تعالى: [ويصلي كل نوعٍ وحده] أي: تصلي النساء على حدة، إذا كن عراةً، والرجال على حدة، تحقيقاً لمقصود الشرع من ستر العورة وعدم تعاطي أسباب انكشافها، فيصلي الرجال مع الرجال والنساء مع النساء؛ لأن اجتماع النساء مع الرجال في هذه الصور فيه الفتنة،
وقال بعض العلماء:
لا حرج أن يصلي النساء مع الرجال حتى في حال العري؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا إذا سجدوا انكشفت عوراتهم؛ لأنهم لم يكن لهم ما يسترون به العورة من ضيق اللباس في زمانهم رضي الله عنهم وأرضاهم،
قالوا:
ففي هذه الحالة كون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر النساء بالتأخر في رفع رؤوسهن، وإقراره لصلاتهن مع الرجال على هذه الحالة يدل على التخفيف.لكن هذا محل نظر،
وذلك من وجوه:
أقواها وأولاها أن حال الصحابة رضوان الله عليهم يقع في صورةٍ يمكن تلافيها، وإمامة العراة صورة لا يمكن تلافيها؛ لأن انكشاف العورة من الرجال في عهد الصحابة كان في حال السجود فقط، وبناءً على ذلك يمكن تلافيه، فإن النساء إذا أخرن رفع رؤوسهن وبادرن بالسجود، فإنه يمكن تلافي الفتنة بالنظر، لكن كونهن يصلين والرجال أمامهن منكشفين فإن النساء يحتجن إلى رؤية الإمام ورؤية من يقتدي بالإمام قطعاً حتى يعلمن بالانتقال، خاصة عند كثرة العدد، وبناءً على ذلك فالفتنة غالبة،
ولذلك يقوى قول من قال: إنه يصلي الرجال على حدة والنساء على حدة؛ لأن الجماعة متحققة بالنساء على انفرادهن، وبالرجال على انفرادهم.
قال المصنف رحمه الله: [فإن شق صلى الرجال واستدبرهم النساء، ثم عكسوا] قوله: [فإن شق] أي: إن شق أن يصلي هؤلاء على حدة، وأن يصلي هؤلاء على حدة، كما لو كانوا في سفينة، وليس معهم ثياب تستر بها العورات، فحينئذٍ يصلي الرجال أولاً والنساء مستدبرات للرجال، ثم تصلي النساء والرجال مستدبرون للنساء؛ لأن القاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فغض البصر عن النظر إلى العورة واجب، وتوقف في هذه الحالة على حالة الإستدبار، فأصبح الإستدبار لازماً على الرجال ولازماً على النساء.
حكم من صلى عارياً ووجد ساتراً أثناء صلاته
قال المصنف رحمه الله: [فإن وجد سترةً قريبةً في أثناء الصلاة ستر وبنى وإلا ابتدأ] هذه القسمة العقلية،
فالإنسان عقلاً لديه ثلاث حالات: إما أن يجد السترة، وإما ألا يجد السترة، وإما أن يجد بعض السترة.فإن وجد السترة لزمه قولاً واحداً أن يستتر، وهذا الأصل.وإن فقد السترة صلى عارياً، وقد بين المصنف حكمه جماعةً وفرادى.وإن وجد بعض السترة فهل يستر القُبُل أو الدبُر،
وجهان:
أصحهما أن يستر الدبر.ثم بعد هذا شرَع رحمه الله في الحالة الأخيرة، وهي أن من فقد السترة إما أن يفقدها حتى يصلي وينتهي من صلاته، وحينئذٍ الحكم ما تقدم، وإما أن يفقدها وتطرأ أثناء الصلاة،
فقال رحمه الله:
(فإن وجد سترةً قريبةً في أثناء الصلاة)،
كأنه يقول:
بيَّنت لك حكم من لم يجد السترة وصلى، هل يصلي قائماً أو قاعداً، وبقي أنها لو طرأت أثناء الصلاة، فحينئذٍ إذا طرأت أثناء الصلاة لَزِمه أخذها، والحركة لأخذ السترة جائزة ومغتفرة؛ لأنها تحصيل لواجب، والحركة لواجب مشروعة، وقد تحرك النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة الصلاة، ألا تُراه عليه الصلاة والسلام رقى منبره، ونزل من المنبر، وتحرك في الصلاة لمصالحها، وحرك أصحابه لمصالح الصلاة، فدفع جابراً وجباراً وراء ظهره، وأخذ بـ ابن عباس من ورائه فأداره عن يمينه، كل هذا يدل على جواز الحركة لمصلحة الصلاة.فلو فرض أنه وجدها أثناء الصلاة، فإنه إن كان العمل قليلاً فحينئذٍ لا إشكال، كما لو جاءه رجل بسترة وناوله وهو في الصلاة، فإن مناولة السترة ووضعها على العاتق قد تكون خفيفة يسيرة، والعمل لذلك يسير، لكن الإشكال لو احتيج إلى أن يتكلف في لبسها لطبيعتها إلى عملٍ كثير، ويمكنه أن يستر بعض الجسد بالعمل اليسير، فهل يقدم الستر للكل بالعمل الكثير أو يُقدم الستر للعورة بالعمل اليسير؟ صورة ذلك لو أعطاك ثوباً، فإن لُبسَ الثوب يقتضي حركةً أكثر مما لو احتزمت بالثوب، وفي حال إذا كان الثوب يحتاج إلى عمل كثير من إدخال اليدين فيه، وتعاطي أسباب اللبس، فحينئذٍ يكون هذا التحرك مدفوعاً بما هو أقل منه محصلاً لواجب الشرع، فإنك إذا ائتَزَرْت به، ووضعت أحد طرفيه على عاتقك حققت مقصود الشرع، وذلك بعملٍ يسير، فيلزمك فعل اليسير وترك الكثير؛ لأن ما جاز للحاجة يقدر بقدرها، فهو محتاجٌ لستر عورته، فالكمال أن يلبس الثوب بكامله، والإجزاءُ أن يلبسه على موضع عورته وقدر ما يجب عليه ستره، فيفعل الواجب عليه ستره.لكن هنا مسألة أشكل من هذه المسألة وأعظم، فلو أن إنساناً كان يصلي وهو قائم، وألزمنا القيام وهو عاري البدن، ثم سقط الثوب بجواره، فحينئذٍ لا يستطيع أن يأخذ الثوب في الغالب إلا بالانحناء، وإذا انحنى انتقل من ركنٍ إلى ركن، فإنه ينتقل من ركن القيام إلى ركن الركوع أو ركن الجلوس، وحينئذٍ هذا الركن زائد في الصلاة، ولذلك أجمع العلماء على أنَّ تَعمُّدَ زيادة الركن في الصلاة يوجب بطلانها، ففي هذه الحالة ينبه بعض مشايخنا رحمة الله عليهم فقالو إنه يرفعه بقدمه ويتناوله ويلبسه ولا ينحني، فيحافظ على هيئات الصلاة ويلبس ثوبه، ويقتصر على أقل ما يتحقق به الواجب.
وقوله: [قريبة] أي أن تكون هذه السترة قريبة، وفي هذه الحالة إذا كانت بعيدةً، أو لزمه عملٌ كثير لتعاطيها ولبسها، قالوا لا يجب عليه أن يشتغل بها، بل يتم صلاته.
وقوله: [ستر وبنى وإلا ابتدأ].هذا بالنسبة لحال الإتمام،
لكن لو صاح عليه صائح وقال:
لك ثياب عند محمد أو زيد فيلزمه قطع الصلاة، ثم يذهب ويلبس ويصلي مستتر العورة.فلو طرأ أثناء الصلاة وجود سترة تحتاج إلى عملٍ كثير، أو ذهاب إلى موضع، ويمكنه ذلك قبل خروج الوقت يقطع ويذهب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإنما جاز له أن يصلي في حال الفقد، أما في حال الوَجْد فلا يصح منه أن يصلي في حال قدرته على ستر العورة على هذا الوجه.
الأسئلة
[حكم كشف الفخذ في غير الصلاة]
q إن الأحاديث التي وردت بحد العورة مطلقة ضعفها أهل العلم، وحسنُوا المقيد بالصلاة، فهل يُفهم من ذلك أن الفخذ خارج الصلاة ليس بعورة؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد:
فنحن ذكرنا أن الأحاديث المطلقة مضعَّفة، والأحاديث المقيدة بالصلاة محسَّنة وثابتة ويعمل بها، ولكن ليس معنى هذا أنه يجوز للإنسان أن يخرج وعورته مكشوفة.
ولذلك قالوا: إن كشف بعض أعضاء البدن إذا جرى العرف بسترها مخلٌ بالمروءة.
ويقولون:
إن من خوارم المروءة أن يفعل الإنسان ما أبيح له سراً أمام الناس جهراً، ككشف بعض أعضاء الجسم إذا جرى العُرف بتغطيته كالرأس، قالوا إنه يعتبر مسقطاً للمروءة،
كما قال القائل: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فقالوا: إنه قد يكون الشيء في أصله جائزاً، لكنه من باب المروءة وتعاطي الكمال يجب ستره، وهذا فيما زاد عن حد العورة، كأعالي البدن، فلو أن إنساناً خرج في السوق كاشفاً عن صدره، أو لبس ما يُسمى (بالفنايل)، وجاء أمام الناس لابساً سرواله وفنيلته، فهذا خلاف العُرف، لكن لو كان صانعاً، أو صاحب صنعةٍ أو مهنة، ولبس هذا اللباس أثناء عمله ومهنته فلا حرج ولا عتب عليه، لكن إذا جاء إلى مجامع الناس بهذا اللبس فإنه تسقط مروءته وترد شهادته،
قالوا: لأن هذا نقصٌ في العقل، وناقص العقل لا تقبل شهادته،
ومن أهل العلم من استدل له بما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام:
(إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
قال الشاعر: يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء فالإنسان إذا استحيا كملت مروءته،
بل قالوا:
إنه لا يستحيي إلا من كان كامل العقل، أعني الحياء المحمود الذي يحمل على مكارم الأخلاق.ومن مكارم الأخلاق ما ذكرناه من عدم تعاطي الألبسة، أو كشف الأمور التي لم يجر العرف بكشفها، ويستحب للإنسان أن يراعي هذا خاصةً في الأعراف، فيساير العرف الذي هو فيه إذا كان العرف على الكمال، أما لو كان العرف على النقص فلا يسايره، فلو كان العرف درج على لبسٍ يخل بالمروءة، أو على لبس متهتك يخالف شرع الله، فإنه لا يعتبر عرفاً.
قال الناظم: وليس بالمفيد جري العيدِ بخلف أمر المبدئ المعيدِ والعرف إن خالف أمر الباري وجب أن ينبذ في البراري فلا قيمة للعرف ما دام أنه يعارض الشرع،
ومثل العلماء لذلك فقالوا:
لو جرى العرف بحلق اللحية لم يكن عرفاً معتبراً؛ لأنه يُصادم الشرع.فالمراد بالأعراف المعتبرة الأعراف التي توافق الشرع، وتوافق مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وجميل الطباع، فهذا هو العرف المعوَّل عليه، والله تعالى أعلم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.93 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.30 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.50%)]