الحلقة (609)
تفسير السعدى
(سورة نوح)
من (1)الى (28)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة نوح
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } 1 { قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } 2 { أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } 3 { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } 4 { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } 5 { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } 6 { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } 7 { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } 8 { ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } 9 { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } 10 { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } 11 { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } 12 { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } 13 { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } 14 { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } 15 { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } 16 { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } 17 { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } 18 { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً } 19 { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } 20 { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } 21 { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } 22 { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } 23 { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً } 24 { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً } 25 { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } 26 { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } 27 { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً }28
{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ } إلى آخر السورة لم يذكر الله في هذه السورة سوى قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه، وتكرار دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك، فأخبر تعالى أنه أرسله إلى قومه، رحمةً بهم وإنذاراً لهم من عذاب الله الأليم، خوفاً من استمرارهم على كفرهم، فيهلكهم الله هلاكاً أبدياً، ويعذبهم عذاباً سرمدياً، فامتثل نوح عليه السلام لذلك، وابتدر لأمر الله، فقال: { يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي: واضح النذارة بيّنها، وذلك لتوضيحه ما أنذر به وما أنذر عنه، وبأي: شيء تحصل النجاة، بيّن جميع ذلك بياناً شافياً، فأخبرهم وأمرهم بزبدة ما يأمرهم به، فقال: { أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ } وذلك بإفراده تعالى بالتوحيد والعبادة، والبعد عن الشرك وطرقه ووسائله، فإنهم إذا اتقوا الله غفر ذنوبهم، وإذا غفر ذنوبهم، حصل لهم النجاة من العذاب، والفوز بالثواب، { وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي: يمتعكم في هذه الدار، ويدفع عنكم الهلاك إلى أجل مسمى أي: مقدرٍ [البقاء في الدنيا] بقضاء الله وقدره [إلى وقت محدود]، وليس المتاع أبداً، فإن الموت لا بدّ منه، ولهذا قال: { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } لما كفرتم بالله، وعاندتم الحق، فلم يجيبوا لدعوته، ولا انقادوا لأمره، فقال شاكياً لربه: { رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } أي: نفوراً عن الحق وإعراضاً، فلم يبق لذلك فائدة، لأن فائدة الدعوة أن يحصل جميع المقصود أو بعضه، { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ } أي: لأجل أن يستجيبوا، فإذا استجابوا، غفرت لهم، فكان هذا محض مصلحتهم، ولكنهم أبوا إلا تمادياً على باطلهم، ونفوراً عن الحق، { جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ } حذر سماع ما يقول لهم نبيهم نوح عليه السلام، { وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } أي: تغطوا بها غطاء يغشاهم، بعداً عن الحق وبغضاً له، { وَأَصَرُّواْ } على كفرهم وشرهم، { وَٱسْتَكْبَرُواْ } على الحق { ٱسْتِكْبَاراً } فشرُّهم ازداد، وخيرهم بَعُدَ. { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } أي: بمسمع منهم كلهم { ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } كل هذا حرص ونصح، وإتيانهم بكل باب يظن أن يحصل منه المقصود، { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } أي: اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب، واستغفروا الله منها. { إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } كثير المغفرة لمن تاب واستغفر، فرغبهم بمغفرة الذنوب، وما يترتب عليها من حصول الثواب، واندفاع العقاب. ورغَّبهم أيضاً بخير الدنيا العاجل، فقال: { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } أي: مطراً متتابعاً، يروي الشعاب والوهاد، ويحيي البلاد والعباد. { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } أي: يكثر أموالكم التي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا وأولادكم، { وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } وهذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها.
{ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } أي: لا تخافون لله عظمة، وليس لله عندكم قدر. { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } أي: خلقاً [من] بعد خلق، في بطن الأم، ثم في الرضاع، ثم في سن الطفولية، ثم التمييز، ثم الشباب، إلى آخر ما وصل إليه الخلق، فالذي انفرد بالخلق والتدبير البديع، متعين أن يفرد بالعبادة والتوحيد، وفي ذكر ابتداء خلقهم تنبيه لهم على الإقرار بالمعاد، وأن الذي أنشأهم من العدم قادر على أن يعيدهم بعد موتهم. واستدل أيضاً عليهم بخلق السماوات التي هي أكبر من خلق الناس، فقال: { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } أي: كل سماء فوق الأخرى، { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } لأهل الأرض { وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً }. ففيه تنبيه على عظم خلق هذه الأشياء، وكثرة المنافع في الشمس والقمر الدالة على رحمته وسعة إحسانه، فالعظيم الرحيم، يستحق أن يعظم ويحب ويعبد ويخاف ويرجى، { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } حين خلق أباكم آدم وأنتم في صلبه. { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا } عند الموت { وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } للبعث والنشور، فهو الذي يملك الحياة والموت والنشور، { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً } أي: مبسوطة مهيأة للانتفاع بها، { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } فلولا أنه بسطها، لما أمكن ذلك، بل ولا أمكنهم حرثها وغرسها وزرعها، والبناء، والسكون على ظهرها. { قَالَ نُوحٌ } شاكياً لربه: إن هذا الكلام والوعظ والتذكير ما نجع فيهم ولا أفاد. { إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } فيما أمرتهم به { وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } أي: عصوا الرسول الناصح الدال على الخير، واتبعوا الملأ والأشراف الذين لم تزدهم أموالهم ولا أولادهم إلا خساراً أي: هلاكاً وتفويتاً للأرباح، فكيف بمن انقاد لهم وأطاعهم؟! { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } أي: مكراً كبيراً بليغاً في معاندة الحق. { وَقَالُواْ } لهم داعين إلى الشرك مزينين له: { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } فدعوهم إلى التعصب على ما هم عليه من الشرك، وأن لا يدعوا ما عليه آباؤهم الأقدمون، ثم عينوا آلهتهم فقالوا: { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } وهذه أسماء رجال صالحين، لما ماتوا، زين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم، لينشطوا - بزعمهم - على الطاعة إذا رأوها، ثم طال الأمد، وجاء غير أولئك فقال لهم الشيطان: إن أسلافكم يعبدونهم، ويتوسلون بهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم، ولهذا أوصى رؤساؤهم للتابعين لهم، أن لا يدعوا عبادة هذه الآلهة. { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } أي: وقد أضل الكبار والرؤساء بدعوتهم كثيراً من الخلق، { وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً } أي: لو كان ضلالهم عند دعوتي إياهم بحق، لكان مصلحة، ولكن لا يزيدون بدعوة الرؤساء إلا ضلالاً أي: فلم يبق محل لنجاحهم ولا لصلاحهم، ولهذا ذكر الله عذابهم وعقوبتهم الدنيوية والأخروية، فقال: { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ } في اليم الذي أحاط بهم { فَأُدْخِلُواْ نَاراً } فذهبت أجسادهم في الغرق، وأرواحهم للنار والحرق، وهذا كله بسبب خطيئاتهم، التي أتاهم نبيهم نوح ينذرهم عنها، ويخبرهم بشؤمها ومغبتها، فرفضوا ما قال، حتى حل بهم النكال، { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً } ينصرونهم حين نزل بهم الأمْرُ الأمَرُّ، ولا أحد يقدر يعارض القضاء والقدر.
{ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } يدور على وجه الأرض، وذكر السبب في ذلك، فقال: { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } أي: بقاؤهم مفسدة محضة، لهم ولغيرهم، وإنما قال نوح - عليه السلام - ذلك، لأنه مع كثرة مخالطته إياهم، ومزاولته لأخلاقهم، علم بذلك نتيجة أعمالهم، لا جرم أن الله استجاب دعوته، فأغرقهم أجمعين، ونجى نوحاً ومن معه من المؤمنين. { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً } خص المذكورين لتأكد حقهم وتقديم برهم، ثم عمم الدعاء، فقال: { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً } أي: خساراً ودماراً وهلاكاً.