عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 05-09-2020, 03:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: منهج الأنبياء والرسل في الإصلاح في ضوء القرآن الكريم


وأما قوم لوط فقد ارتكبوا جريمة لم يسبقهم بها أحد من العالمين، فلما جاءهم لوط عليه الصلاة والسلام دعاهم إلى التوحيد، ثم أنكر عليهم فعلهم الشنيع ﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ [النمل: 55]. والإصلاح في المجتمعات لا يعنى تغيير الجبال والبيوت والأشجار إلى لون غير الأول، ولا تغيير الأوجه والمناظر ولا نقل الأودية، وهكذا لا يعني التغيير في أعضاء الإنسان بالزيادة فيها أوالنقصان، لكن يعنى تغيير الشعور الداخلي في نفس الإنسان وتزويده بالمكارم والفضائل ليصبح عنصراً ولبنة ذي دور في المجتمع.



والإصلاح الاجتماعي مرهون بإدراك كل فرد حقوقه وواجباته، فالمجتمع كله مسئول عنه، فإذا أدّى إلى خصومة أو نزاع بين أفراد المجتمع فلابد أن يتدخل كل بقدر طاقته، نستطيع أن نشبّه الأمراض الاجتماعية بالحريق، لكن حريق لا يدمر البنيان والحجارة ولا يهدم الجبال الرواسي، ولا يقطع منابع الماء ولكن يأكل القلوب والضمائر ويهدم كل معاني الألفة والمحبة والخير في الصدور، فعلى المجتمع أن يقوم لإخماد أي نزاع ولو كان ذلك بين زوج وزوجته، قال تعالى ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾ [النساء: 35].



إذا كان المجتمع يطالب بالإصلاح في نزاع وقع في أسرة فكيف بنزاع أكبر فيه هدم الأسر قال تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ [الحجرات: 9]


المرحلة الثانية: الإصلاح بعد التمكين:


في هذه المرحلة يغلب العدل مع الناس في تحقيق مصالحهم ولا يتحقق إلا بنصر الله تعالى في الأرض كي ينال المصلحون موعود الله بالاستمرار في النصر كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 40، 41].



في هاتين الآيتين أقسم الله سبحانه وتعالى أنه سينصر، من نصره ثم أكد النصر بقوله ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]، ويتحقق التمكين والاستمرار في النصر بالشروط الأربعة:

1 - إقامة الصلاة أي: إقامة شروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها والحرص على سننها والمحافظة على الجمعة والجماعات وعدم التساهل في ذلك. واستتابة تارك الصلاة حتى يلتزم بأدائها فإن التزم بذلك وإلا قتل.



2 - إيتاء الزكاة أي: دفع الزكاة لمستحقيها بطيب نفس حتى لو تطلب الأمر أخذها بالقوة من الأغنياء، وردها إلى الفقراء، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه.


3 - الأمر بالمعروف أي: تطبيق الشريعة الإسلامية في جميع شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.



4 - النهي عن المنكر أي: كل ما نهى الله عنه من المنكرات في العقيدة والشريعة والأخلاق.




العنصر الثالث: صفات المصلحين في القرآن:ــ

إن القرآن الكريم ملئ بالنماذج الحيّة التي تمثل أنموذج الشخصية الإصلاحية من الأنبياء والمصلحين الذين جعلهم القران بمثابة مؤسسة علمية كبيرة تعطي الضوء على كل ما يحتاجه المصلح في ميدان إصلاحه، كل في ميدانه، ومن خلال السماع إلى قصص المصلحين في القرآن الكريم ندرك أهمية هذه الصفات ونتطلع على جملة صفات، وهذه الصفات شروط في تحقيق الإصلاح العام، لمن أراده، ومن أهم هذه الصفات: -

1 - وضوح النيّة والوجهة: -

لقد أخبر الله تعالى عن حال الأنبياء والرسل في كتابه الكريم مع أقوامهم كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 109].



وقال تعالى: ﴿ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأعراف: 59].



فكانت نياتهم في تغيير الواقع لله تعالى فقط، وكل يعقب على نيته بلسانه الخاص، كما قال تعالى ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].



لذا وقع أجرهم على الله قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [الأعراف: 170].


2 - التوكل والثقة والصبر واليقين، والقدوة: -


فهذه مقومات لبناء النفس والأمم، ولم يأت نبي ولا مصلح إلاّ زود بهذه المقومات لأداء رسالته الإصلاحية، فإذا لم يتحلى المصلح بهذه العناصر فليس بإمكانه أن يجتاز أي مرحلة من مراحل الإصلاح، فلسان كل مصلح في القرآن ( وما توفيقي إلا بالله فهو القادر على إنجاح مسعاي). قال تعالى: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88].



ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه: (لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً).



وجاء في وصف المصلحين أنهم غرباء يستغرب الناس فهمهم للإسلام، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {"إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا، فطوبى للغرباء، قال: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس"} رواه الطبراني في مجمعه الأوسط.



3 - علو الهمة مع اللطف والألفة: -

من أبرز خصائص الشخص المؤثر الجذاب، علو الهمة مع اللطف والخلق الرفيع، ولاشك أن الشخص السيئ الخلق فرد منفرد إلى أبعد الحدود، وليس من سمات الصالحين فضلاً عن أن يكونوا مصلحين، ومن هنا فقد أكدت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أهمية الالتزام بالسلوك الجذاب المؤلِف، وعلى تجنب السلوك والتصرف المنفِّر، فجاء هذا التحذير الواضح قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]



وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].



العنصر الرابع: الإصلاح مهمة كل مسلم: -

إن مهمة الإصلاح ليست مهمة الأنبياء والرسل والدعاة فقط بل مهمة كل مسلم غيور على دينه ووطنه، فأهل الفساد يبذلون ليل نهار من مال ووقت وجهد للنيل من الإسلام والمسلمين، فحري بأهل الصلاح أن يبذلوا ما في وسعهم من طاقة، لإصلاح ما أفسده الآخرون والأمر لا يحتاج شهادات ولا بلاغة في القول ولا فصاحة في اللسان، وإنما يحتاج إلي غيره وإيمان، وعزيمة صادقة، وإرادة قوية، فهذا رجل كان يعمل نجار ولكنه استشعر المسئولية أمام الله تعالى وهو حبيب النجار في قرية إنطاكية حينما أرسل الله تعالى لها رسولين فكذبوهما فعززنا بثالث وكذبت القرية الرسل الثلاثة ولكنه لم يقف ويقول ماذا أفعل بعد الرسل ليس من شأني، لا يقل هذا الكلام ولكنه جاء من أقصي المدينة يقوم بإصلاح قريته كما قال تعالى في سورة يس: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴾ [يس: 20 - 27].



العنصر الخامس: آثار الصلاح والإصلاح على الفرد والمجتمع الصلاح والإصلاح:

هما الحصن الحصين لبقاء المجتمع وتقدمه ويعتبران الحياة التي جاهد المصلحون من أجلهما. للصلاح والإصلاح في القرآن الكريم آثار كثيرة نذكر بعضاً منها: -

1 - جلب ولاية الله:

ومن آثار الصلاح أيضاً انه يجلب ولاية الله ورعايته لعبده الذي أخذ بين جنبيه نفساً صالحاً قام بتهذيبها، وقامت بدورها التي من أجلها خلقت وحينئذ يجلب الولاية، قال تعالى: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [الأعراف: 196]، وأنها أي المنكرات انتهاك حرمات الله، والله تعالى يغار على حرماته أن يعتدي عليها، ومن شأن المؤمن الصالح أن يكون ولياً لله، يحب ما يحب الله ويبغض ما يبغض الله، ومعنى هذا أن من رأى حرمات الله تنتهك ولم يكن له غيرة تنزع به إلى الحفاظ عليها، وحمايتها من عدوان المعتدين واقتراف المقترفين، لم يكن ولياً لله ولا واقعاً موقع رضاه.



2 - صمام أمان للبشرية في الدنيا والآخرة: -

الإصلاح صمام أمان للبشرية في الدنيا والآخرة، قال تعالى في تأمين المصلحين من الفزع يوم القيامة ﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأنعام: 48].



وقال تعالى في تأمين المصلحين من الهلاك في الدنيا ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117] وعن النعمان بن بشيررضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا (رواه البخاري.



3 - جلب المغفرة والرحمة:

قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 129].



العنصر السادس: عاقبة ترك الإصلاح: -

1 - تعميم العذاب في الدنيا: -

إذا تركت الأمة طريق الإصلاح واتصفت بالسلبية واللامبالاة عمها الله بالعذاب والعقاب: - قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25]، أي اتقوا فتنة تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح، الطالح لفساده وظلمه والصالح لسكوته عن المنكرات، لأن السكوت عن الفساد يؤدي إلي عموم المفسدة وكثرة الخبث فيكون الهلاك للجميع، فروى البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم استيقظَ يومًا من نومه فزِعًا وهو يقول: "لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب، فُتحَ اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا (وحلَّق بين أصبعيه السبابة والإبهام)". فقالت له زينب رضي الله عنها: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم؛ إذا كَثُرَ الخَبَث"




(فساد في كل مجالات الحياة... الديني، الاجتماعي، الأخلاقي، السياسي، الاقتصادي، الصحي، الإعلامي).



فكيف يكثُرُ الخَبَث؟!

إنَّ المنكَر إذا أُعلن في مجتمع، ولم يجد مَن يقف في وجهه؛ فإن سوقـه تقوم، وعوده يشتد، وسلطته تَظْهَر، ورواقَه يمتد، ويصبح دليلاً على تمكُّن أهل الفساد وقوَّتـهم، وذريعةً لاقتداء الناس بهم، وتقليدهم إيَّاهم، وما أحرصَ أهلَ الفساد على ذلك!


وقد قصَّ الله عزَّ وجلَّ علينا خبر بني إسرائيل حين نهاهم أن يَعْدوا في السَّبت، ولنا في تلك القصة عبرة، قال تعالى ﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [الأعراف: 163 - 166].




إذن؛ فقد أنجى الله تعالى الذين ينهَوْن عن السوء فقط، وأما البقيَّة؛ فقد عذَّبهم كلَّهم.



هذه سنَّتُه سبحانه في كل أمَّة يحقُّ عليها العذاب.




فإن لم يكن في الأمة من ينهى عن السوء والفساد؛ فلا نجاة لأحد منها، قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ ﴾ [هود: 116].




وفي حديث جرير: "ما من رجل يكون في قوم، يعملُ فيهم بالمعاصي، يقدِرون على أن يغيِّروا عليه، فلا يغيِّروا؛ إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا".


إنَّ وجود المصلحين في أمَّة هو صمام الأمان لها، وسبب نجاتها من الإهلاك العام، فإن فُقِد هذا الصنف من الناس؛ فإنَّ الأمة - وإن كان فيها صالحون - يحلُّ عليها عذاب الله كلِّها؛ صالحها وفاسدها؛ لأنَّ الفئة الصالحة سكتت عن إنكار الخَبَث، وعطَّلت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاستحقَّت أن تشملها العقوبة.





وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: أنَّه قال: أيها الناس إنَّكم تقرؤون هذه الآية: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه؛ أوشك أن يعمَّهُم الله بعقاب منه".رواه أبو داود، والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة.




2 - الذلة والهوان والفقر:

إن الإصلاح أمر من الله، فضياع أمره يجلب الانتقام الإلهي، ولا بارك لأمة أن ينتقم الله منهم، قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا صفوان بن عمرو حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه ( لما فتحت قبرص فرّق بين أهلها فبكي بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدر داء جالساً وحده يبكي: فقلت يا أبا الدر داء ما يبكيك في يوم أعزّ الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال ويحك يا جبير: ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى ).



3 - عدم استجابة الدعاء:

إن ترك الإصلاح يؤدي إلى تعميم العذاب في الدنيا، والهلاك المعنوي، كالفقر والذلة والهوان، التي تعتبر من موجبات عدم استجابة الدعاء، فعن حذيفة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً ثم تدعونه فلا يستجيب لكم ). رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ.




4 - ضرب القلوب بعضها ببعض:

قال النبي صلى الله عليه وسلّم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه عن الحق أطراً أو ليضربن الله في قلوب بعضكم ببعض ثم تدعونه فلا يستجاب لكم). "وضرب القلوب على القلوب المشار إليه في الحديث الشريف إشارة إلى مزجها وخلطها ببعض، بمعنى أن تمتزج القلوب الفاسدة مع القلوب السليمة وهذا من شأنه أن ينقل الفساد والاعتلال إلى القلوب السليمة الصحيحة لا العكس، فإن مخالطة الصحيح للمريض لا يمكن أن تنقل الصحة إلى المريض بل أن المريض هو الذي ينقل المرض إلى الصحيح بالعدوى، يقول الشاعر:

ولا تجلس إلى أهل الدنايا فان خلائق السفهاء تعدى ومن هنا كان واجباً على المجتمع المؤمن لكي يحتفظ بوجوده سليماً معافى من آفات العلل النفسية والأسقام الخلقية التي من شأنها لو تمكنت منه أن تدمره، وتأتي عليه كما يأتي الوباء على من ينزل به، نقول إن الواجب على المجتمع المسلم أن يتفقد مواطن المنكر التي وصله من بعض أفراده فيعمل على إجلائها من مواطنه بكل وسيلة ممكنة له، ومن ذلك إشاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من شأنه أن يحقق وقاية وعلاجاً معاً ".



5 - اللعن والطرد من رحمة الله تعالى: -

اللعن هو الطرد من رحمة الله وتحت كنفه، كما أن رحمة الله تعم ميادين الحياة فإذا رفعها الله فسيحقق آثارها في كل الميادين، أي يأخذ اللعن كل نواحي المجتمع، بدءًا من صلاحية الأفراد وتنتهي بانهيار الحضارات، فلا تبقى لوجودها مقومات، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل انه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق ودع ما تصنع به فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه في الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما علموا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض )).



وقال تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79].



ثُمَّ قَالَ: « كَلاَّ، وَاللَّه لَتَأْمُرُنَّ بالْمعْرُوفِ، وَلَتَنْهوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، ولَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، ولَتَأْطِرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْراً، ولَتقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْراً، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّه بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ » رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن.




أما الحضارة وانهيارها وإصابتها بالطرد من كنف الله، كم امتدت جذورها فانّ من قبلنا عبرة ﴿ وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 89]



قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 74]



إنهم كانوا في الحجر وهي بين الشام والحجاز، ونلمح من تذكير صالح لهم أثر النعمة والتمكين في الأرض لثمود، كما نلمح طبيعة المكان الذي كانوا يعيشون فيه، فهو سهل وجبل وقد كانوا يتخذون من السهل القصور وينحتون في الجبال البيوت، فهي حضارة عمرانية واضحة المعالم في هذا النص القصير.



وصالح يذكّرهم باستخلاف الله لهم من بعد عاد، وإن لم يكونوا في أرضهم ذاتها ولكن يبدو أنهم كانوا أصحاب الحضارة العمرانية التالية في التاريخ لحضارة عاد، وإن سلطانهم امتد خارج الحجر أيضاً، وبذلك صاروا خلفاء ممكنين في الأرض محكمين فيها وهو ينهاهم عن الانطلاق في الأرض بالفساد، واغتراراً بالقوة والتمكين، وأمامهم العبرة ماثلة في عادٍ الغابرين.


ونتيجة اللعن ورفع الرحمة عن الأمة تأتي تقطيع الأمة إلى أمم شتى، كل واحدة على حدتها وهي المأزق الكبرى التي وقعت الأمة الإسلامية اليوم فيها، كان غضب الله على بني إسرائيل من هذا النوع، قال تعالى: ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: 168]





وإن ما وقع ببني إسرائيل تحت غضب الله ولعنته حتى رماهم بالتشريد ومزقهم في الأرض، وحصل ذلك لهم لأنّهم لم ينكروا المنكرات الشائعة فيهم، بل تركوها تتوالد وتتكاثر الجراثيم حتى اغتالت كل صالحة فيهم".



وفي الختام.. إن قضية الإصلاح قضية مصيرية، يترتب عليها احتفاظ الأمة بمسارها الإسلامي ولن ينصلح حال الأمة إلا إذا قام كل فرد بدوره من إصلاح نفسه ومجتمعه، والاعتصام بحبل الله تعالى والبعد عن مواطن الخلاف والزلل. نسأل الله عز وجل أن يعصمنا من الفتن والزلل، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يسخرنا لنصرة دينه وعون عباده، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، ولهدي نبيه صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين. اللهم آمين.



تمت بحمد الله وتوفيقه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.04 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.41 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.39%)]