
08-09-2020, 04:24 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,340
الدولة :
|
|
رد: هل قدرنا الله حق قدره؟
وتفسير هذا الحديث ذكره ابن عبد البر في التمهيد قال: وذكر أسد بن موسى بسنده عن عروة بن الزبير قال: حملة العرش أحدهم على صورة إنسان والثاني على صورة ثور والثالث على صورة نسر والرابع على صورة أسد)[22] والله أعلم.
وهؤلاء الملائكة حملة العرش -أيها الإخوة- عظام الخليقة جدًا بحيث لا يتصور تصور كم يبلغ ذلك حتى ورد عند أبى داود بسند صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسرة سبعمائة عام [23].
ومن الأحاديث التي تبين عظمة وجلال الله تعالى فى قلوب ونفوس الملائكة: وعن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السموات منه رجفة - أو قال رعدة - شديدة خوفاً من الله -عز وجل-، فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا، وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيكلمه الله تعالى من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق، وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثلما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله -عز وجل-[24].
سبحانك سبحانك، ما قدرناك حق قدرك وما عظمناك حق تعظيمك، ولا يكيف العقل صفاتك، لأنه لا يعلم كيف أنت إلا انت.
وهكذا -أيها الإخوة- إذا تأملنا خلق الله في السموات والأرض لرسخت في قلوبنا عظمته وإجلاله -سبحانه وتعالى- فقدرناه حق قدره.
وصدق ربي إذ يقول: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمْ مَنْ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ﴾ [النمل: 59 - 67].
يا ربّ حمداً ليس غيرُك يُحمدُ ♦♦♦ يا منْ لهُ كُلُّ الخلائِقِ تصْمدُ
يقول القرني في رائعته التي اسمها لا تحزن، ومعناها: ابتسم واسعد: "عندنا، العامَّةُ وَقْتَ الحرْثِ يرمون الحبَّ بأيديهمْ في شقوقِ الأرضِ، ويهتفون: حبٌّ يابسٌ، في بلدٍ يابسٍ، بين يديك يا فاطر السموات والأرض ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴾ ". إنَّها نزعةُ توحيدِ الباري، وتوجُّهُ إليهِ، -سبحانه وتعالى-.
قام الخطيبُ المِصْقعُ عبدُ الحميدِ كشكُ - وهو أعمى - فلمَّا علا - رحمه الله - المِنْبرَ، أخرج منْ جيبهِ سعفة نخلٍ، مكتوبٌ عليها بنفسِها: اللهُ، بالخطِّ الكوفيِّ الجميلِ، ثم هَتَفَ في الجموعِ:
انظُرْ لتلك الشَّجرهْ
ذاتِ الغُصُونِ النَّضِرهْ 
منِ الذي أنبتها
وزانها بالخضِرهْ 
ذاك هو اللهُ الذي
قُدرتُه مُقْتدِرهْ 
فأجْهش الناسُ بالبكاءِ.
إنهُ فاطرُ السموات والأرضِ مرسومةٌ آياتُه في الكائناتِ، تنطقُ بالوحدانيَّةِ والصَّمديةِ والربوبيَّةِ والألوهيَّةِ ؟ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ؟" [25].
والسؤال الذي أطرحه بعد هذه التطوافة حول بعض مخلوقات الله -تبارك وتعالى- في الكون وأجب عنه أنت بصدق أيها المسلم:
هل وفينا ذلك الإله العظيم حقه وقدرناه حق قدره كاملاً غير منقوص؟ فليجب كل مسلم ولتجب كل مسلمة عن هذا السؤال هل وفينا الله حقه وهل قدرنا حق قدره؟ والجواب الذى توافقونى عليه جميعًا ما وفى الله حقه وما قدره حق قدره من يعصيه في الليل والنهار.
وما وفى الله حقه وما قدره حق قدره من عرف أنه يراقبه فجعله أهون الناظرين إليه وما وفى الله حقه وما قدره حق قدره من استحيا من نظر الناس ولم يستح من نظر الله.
وما وفى الله حقه وما قدره حق قدره من خشي الناس ولم يخش الله.
وما وفى الله حقه وما قدره حق قدره من استطاع أن يدل خلقه عليه لكنه جلس يرتب أحواله الخاصة مشغولًا بها لا يكاد يرعى حقوق الله عليه في دعوة الناس.
هؤلاء وغيرهم ممن على شاكلتهم -أيها الإخوة- ما عرفوا الله تعالى وما عرفوا حقه، وما قدروه حق قدره، سبحانه -جل وعلا- من إله قوي قادر جبار قاهر عزيز حَليم عليم خبير.
ما عرف الله حق معرفته من أعطى عهد الله وذمة الله وميثاق الله ثم نقضه وكأن لم يكن شيء، ومن ذهب يتسمى بأسماء يضاهي بها ربه وينازعه في أسمائه، ومن ذهب يأتي ما نهى عنه في حين لا يفعل ما أمر به.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله جل ذكره أذن لي أن أحدث عن ديك قد فرقت رجلاه الأرض وعنقه مثني تحت العرش وهو يقول سبحانك ما أعظمك ربنا فيرد عليه ما علم ذلك من حلف بي كاذبا[26].
لقد "تعرَّف سبحانه إلى عباده بصفاته، وعجائب مخلوقاته، وجعلها تدل على كماله، وأنه المعبود وحده، لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، وهذا هو ما عليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان. فمن عرف آثار توحيد الربوبية وتفطَّن لآثار توحيد الألوهية في القلب والنفس ذلَّ وخضع خضوعًا إختياريًّا، وتقرَّبَ إلى الله بما يُحبّ، ورسخ الإيمان في قلبه، وعظَّم الرب سبحانه لأنه حقيق بأن يُطاع، وهو حقيق بأن يُجَلَّ ويُسأل وحده، وأن يبذل العبد كل ما يملكه في سبيل مرضاته.
.
ومن تأمل آثار توحيد الربوبية أورثه رسوخًا للإيمان في قلبه، وتعظيمًا للرب عزوجل؛ وتأهلًا للتفكر في ملكوت السموات والأرض يقول الحسن: "عاملنا القلوب بالتفكُّر فأورثها التذكّر، فرجعنا بالتذكر على التفكر، وحرَّكنا القلوب بهما فإذا القلوب لها أسماع وأبصار!!“.
ومن عرف آثار توحيد الألوهية في القلب وفي النفس ذل وخضع،"وقام قلبه بين يدي الرحمن مُطْرِقًا لهَيْبتِه خاشعا لعظمته، عانٍ لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدةً لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد..“"[27].
فآه لأناس جهلوه فعصوه وآه ثم آه ثم آه لأناس عرفوه ثم عصوه، اللهم ألق في قلوبنا معرفتك، ثم ألهم قلوبنا وجوارحنا تعظيمك، وأكرمنا بطاعتك وتوحيدك ولا تذلنا بمعصيتك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
♦♦♦♦♦♦♦♦♦
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.
أما بعد، فيا أيها الإخوة!
لما سأل الصديق الأكبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" [28].
فهذا الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وهو هو أبو بكر فماذا كان يا ترى يختار لنا إن سألناه؟
وهذا يدلنا -أيها الإخوة- على أن الانسان لايستطيع ان يوفى الله حقه ولو عمل ما عمل فضلًا عن أن يمن على الله بعبادته ويدل بطاعته روى وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ: (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدِي خَلِيلِي جِبْرِيلُ آنِفًا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ عَبَدَ اللَّهَ -عز وجل- خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فِي الْبَحْرِ عَرْضُهُ وَطُولُهُ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَالْبَحْرُ مُحِيطٌ بِهِ أَرْبَعَةُ آلَافِ فَرْسَخٍ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ عَيْنًا عَذْبَةً بِعَرْضِ الْأُصْبُعِ تَبِضُّ بِمَاءٍ عَذْبٍ فَيَسْتَنْقِعُ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ وَشَجَرَةَ رُمَّانٍ تُخْرِجُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً يَتَعَبَّدُ يَوْمَهُ فَإِذَا أَمْسَى نَزَلَ فَأَصَابَ الْوُضُوءَ وَأَخَذَ تِلْكَ الرُّمَّانَةَ فَأَكَلَهَا ثُمَّ قَامَ لِصَلَاتِهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ عَنْ وَقْتِ الْأَجْلِ أَنْ يَقْبِضَهُ سَاجِدًا وَأَنْ لَا يَجْعَلَ لِلْأَرْضِ وَلَا لِشَيْءٍ يُفْسِدُهُ عَلَيْهِ سَبِيلًا حَتَّى يَبْعَثَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، قَالَ: فَفَعَلَ فَنَحْنُ نَمُرُّ عَلَيْهِ إذَا هَبَطْنَا وَإِذَا عَرَجْنَا فَنَجِدُ لَهُ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَبِعَمَلِهِ فَتُوجَدُ نِعْمَةُ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَبَقِيَتْ نِعْمَةُ الْجَسَدِ فَضْلًا عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي النَّارَ فَيُجَرُّ إلَى النَّارِ فَيُنَادِي: رَبِّ بِرَحْمَتِك أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رُدُّوهُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدِي مَنْ خَلَقَك وَلَمْ تَكُ شَيْئًا؟ فَيَقُولُ أَنْتَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ مَنْ قَوَّاك لِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ؟ فَيَقُولُ أَنْتَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ مَنْ أَنْزَلَك فِي جَبَلٍ وَسَطِ اللُّجَّةِ وَأَخْرَجَ لَك الْمَاءَ الْعَذْبَ مِنْ الْمَاءِ الْمِلْحِ وَأَخْرَجَ لَك كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً وَإِنَّمَا تَخْرُجُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ وَسَأَلْته أَنْ يَقْبِضَك سَاجِدًا فَفَعَلَ؟ فَيَقُولُ أَنْتَ يَا رَبِّ، قَالَ فَذَلِكَ بِرَحْمَتِي وَبِرَحْمَتِي أُدْخِلُك الْجَنَّةَ أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ، فَنِعْمَ الْعَبْدُ كُنْت يَا عَبْدِي فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، قَالَ جِبْرِيلُ إنَّمَا الْأَشْيَاءُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ ) [29].
ومن الآثار التي تشير إلى هذا المعنى أيضًا ما روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي موسى الأشعري صاحب الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه عنه ابنه أبو بردة قال: لما حضر أبا موسى الوفاة قال: يا بني اذكروا صاحب الرغيف، قال: كان رجل يتعبد في صومعة أراه قال: سبعين سنة، لا ينزل إلا في يوم أحد، قال: فنزل في يوم أحد، قال: فشبه أو شب الشيطان في عينه امرأة، فكان معها سبعة أيام أو سبع ليال، قال: ثم كشف عن الرجل غطاؤه فخرج تائبا، فكان كلما خطا خطوة صلى وسجد، قال: فآواه الليل إلى مكان عليه اثنا عشر مسكينا، فأدركه الاعياء فرمى بنفسه بين رجلين منهم، وكان ثم راهب يبعث إليهم كل ليلة بأرغفة، فيعطى كل إنسان رغيفا، فجاء صاحب الرغيف فأعطى كل إنسان رغيفا، ومر على ذلك الذي خرج تائبا، فظن أنه مسكين فأعطاه رغيفا، فقال المتروك لصاحب الرغيف: مالك، لم تعطني رغيفي، ما كان لك عنه غنى، قال: تراني أمسكه عنك، سل هل اعطيت أحدا منكم رغيفين، قالوا: لا، قال: إني أمسك عنك والله لا أعطيك شيئا الليلة، قال: فعمد التائب إلى الرغيف الذي دفعه إليه، فدفعه إلى الرجل الذي ترك فأصبح التائب ميتا، قال: فوزنت السبعون سنة بالسبع الليالي فلم تزل، قال: فوزن الرغيف بالسبع الليالي، قال: فرجح الرغيف، فقال أبو موسى: يا بني اذكروا صاحب الرغيف[30].
أيها الإخوة! إنما ينجو من ينجو يوم القيامة برحمة الله، وهل خرجت الأعمال من الأركان إلا بتوفيقه؟ وهل وفق من وفق إلا برحمته؟
قال الغزالي: اجتمع ابن واسع وابن دينار فقال ابن دينار: إما طاعة الله أو النار فقال ابن واسع: إما رحمة الله أو النار فقال ابن دينار: ما أحوجني إلى معلم مثلك.
أيها الإخوة.. إنه ما من عبادة من العبادات التي شرعها الله -تبارك وتعالى- إلا وتختم بالاستغفار.. ختمت الصلاة بالاستغفار روى مسلم من حديث ثوبان قال قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًا وَقَالَ «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ». قَالَ الْوَلِيدُ فَقُلْتُ لِلأَوْزَاعِىِّ كَيْفَ الاِسْتِغْفَارُ قَالَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ [31].
وختم قيام الليل وهو أفضل الصلاة بعد الفريضة بالاستغفار قال تعالى عن عباده الصالحين: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 15 - 18].
وقال تعالى: ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17].
وختم الحج الذي يرجع فيه الرجل من ذنوبه كيوم ولدته أمه بموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم يختم بالاستغفار كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199] بل أمر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يختم حياته المباركة الكريمة بالاستغفار قال تعالى:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾.
فما السر في ذلك أيها الإخوة؟ إن الاستغفار طلب المغفرة وهو يرتبط غالباً بمن عصى الله فيثوب إليه ويتوب إليه -عز وجل- يستغفر الله من ذنبه وقد حافظ النبي صلى الله عليه وسلم على الاستغفار طيلة حياته المباركة كان صلى الله عليه وسلم في اليوم الواحد يستغفر الله أكثر من سبعين أو مائة مرة ثم يأمره الله أن يختم هذه الحياة النقية بالاستغفار، ما هو السر في ذلك والسر والله أعلم أن استغفار المصطفى صلى الله عليه وسلم كان لأنه رأى عمله بالنسبة لقدر الله ومقامه أقل مما ينبغي وإن كان هو اجتهد في تحسينه وتجويده قدر ما وسعه وأمكنه.
قال العلامة الألوسي في تفسير سورة النصر: "واستغفاره صلى الله عليه وسلم لأنه كان دائماً في الترقي فإذا ترقى إلى مرتبة استغفر لما قبلها وقيل مما هو في نظره الشريف خلاف الأولى بمنصبه المنيف وأنت تعلم أن كل أحد مقصر عن القيام بحقوق الله تعالى كما ينبغى وادائها على الوجه اللائق بجلاله جل جلاله وعظمته سبحانه وإنما يؤديها على قدر ما يعرف والعارف يعرف أن قدر الله -عز وجل- أعلى وأجل من ذلك فهو يستحى من عمله ويرى أنه مقصر وكلما كان الشخص بالله تعالى أعرف كان له سبحانه أخوف وبرؤية تقصيره أبصر، وقد كان كهمس يصلي كل يوم ألف ركعة فإذا صلى أخذ بلحيته ثم يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء فوالله ما رضيتك لله -عز وجل- طرفة عين، وعن مالك بن دينار: لقد هممت أن أوصي إذا مت أن ينطلق بي كما ينطلق بالعبد الآبق إلى سيده، فإذا سألني قلت: يا رب إني لم أرض لك نفسي طرفة عين، فيمكن أن يكون استغفاره عليه الصلاة والسلام لما يعرف من عظيم جلال الله تعالى وعظمته سبحانه فيرى أن عبادته وإن كانت أجل من عبادة جميع العابدين هى دون ما يليق بذلك الجلال وتلك العظمة التي هي وراء ما يخطر بالبال فيستحي ويهرع إلى الاستغفار، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام كان يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة، وللإشارة إلى قصور العابد عن الإتيان بما يليق بجلال المعبود وإن بذل المجهود شرع الاستغفار بعد كثير من الطاعات فذكروا إنه يشرع لمصلي المكتوبة أن يستغفر عقبها ثلاثاً وللمتهجد في الأسحار أن يستغفر ما شاء الله تعالى، وللحاج أن يستغفر بعد الحج فقد قال تعالى ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199] وروي أنه يشرع لختم الوضوء، وقالوا يشرع لختم كل مجلس وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: إذا قام من المجلس"سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك"[32] ففي الأمر بالاستغفار رمز من هذا الوجه على ما قيل إلى ما فهم من النعي"[33].
أيها الإخوة! إن من قدر الله حق قدره عبده وبذل مجهوده في عبادته ثم رأى أنه ما صنع شيئاً، ومن قدر الله حق قدره جعل ظنه في الله أحسن الظنون فعرف أن الله ناصر دينه وسنة رسوله وسنة الداعين إلى شرعه والقائمين بأمره، ومن قدر الله حق قدره عرف أن تقديره له أحسن التقدير وأوفقه وأتمه ولم يسخط على ما قدر له بل يصبر ويرضى ويسم ويعلم أنه لو وكل إلى نفسه لكان اختياره ما ظنه الحسن بالنسبة إلى ما اختار له ربه أسوء اختيار.
ومن قدر الله حق قدره وعرف أسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده عرف أنه بكل جميل كفيل ومن أساء بربه الظنون بعد هذا الذى قدمنا كان فيه من الجاهلية وصفاتها ومشابهة أهلها على قدره ظنونه تلك، كما قال تعالى عنهم وعمن شابههم: ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران:154].
قال ابن القيم -رحمه الله-: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله وأن يظهره الله على الدين كله. وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح. وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.
فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار. وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده، فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا وليتب إلى الله وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء. ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا. فمستقل ومستكثر وفتش نفسك، هل أنت سالم؟
"فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً"[34]
فالموحد الذي امتلأ قلبه بحقائق أسماء الله وصفاته يشرق في سويداء قلبه حسن ظن خاص بالله وتزهر عبوديته لربه بما يناسب كل اسم وصفة عبودية خاصة [35].
والمؤمنون أولى الناس بحسن الظن بالله فإنه لا يتم توحيدهم وإيمانهم إلا بهذا الاطمئنان به فالدين دين الله صالح لكل زمان ومكان لا كما يظن العلمانيون أن الدين لا يصلح لهذا العصر والإسلام وأهله إلى العلا بمشيئة الله تعالى، وسيظهره الله على كل دين ودولة، لا كما يظن الانهزاميون المتخلفون أنها إلى الاندثار، والله تعالى يبتلي عباده ليختبرهم ويعدهم لما يحب ويرضى ويقدر ولا يسلم أولياءه لأعدائه ويجعل كلمته هي العليا لا كما يظن أصحاب الظن السيء في ربهم أنه تخلى عنهم وتركهم.
فعلى كل مسلم -أيها الإخوة- أن يخلص قلبه من كل ظن سوء بالله فيحسد فلانًا أو فلانًا فكل ذلك سوء ظن بالله تعالى. ولهذا قال العلماء في سبب ذم الحسد قالوا وسبب ذلك: أن الحاسد ظن أن هذا الذي أعطاه الله ما أعطاه لا يستحق هذه النعمة فحسده وتمنى زوالها، لذا أكل سوء ظنه هذه الحسنات كما يأكل النار الحطب.
نسأل الله أن يعافينا من كل ظن فيه بغير الحق، ونسأله أن يجعلنا معظمين له، ولحكمته ومن المجلين لأمره ونهيه"[36].
اللهم إنا نسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.... الدعاء.
[1] القول السديد (ص 152)، بتصرف.
[2] في ظلال القرآن (5/ 3060)، أيسر التفاسر للجزائري ص 1164.
[3] أخرجه البخاري 7451، ومسلم 7223.
[4] أخرجه مسلم (2788).
[5] شرح كتاب التوحيد: ص 289 – 290.
[6] أخرجه مسلم (179).
[7] أخرجه مسلم 111.
[8] انظر: مدارج السالكين (3/ 450).
[9] مقدمة كتاب العرش وما روى فيه، لابن أبي شيبة.
[10] الإبانة عن أصول الديانة (108).
[11] تفسير الطبري - (5 / 399).
[12] أخرجه مسلم (2713).
[13] أخرجه البخاري 7426.
[14] أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله. وأخرجه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله. قال الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- قال: وله طرق.
[15] تفسير الطبري - (21 / 324).
[16] قال العلامة أحمد شاكر في تخريج الطبري: خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 328، ونسبه لأبي الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، انظر: تفسير الطبري - (5 / 399)، وأخرجه ابن أبي شيبة في صفة العرش (58) انظر: تفسير ابن كثير - (1 / 680).
[17] أخرجه أحمد (3862)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
[18] تفسير ابن كثير - (6 / 532).
[19] معارج القبول - (1 / 303).
[20] معارج القبول - (1 / 332).
[21] أخرجه أحمد (2314) وقال الهيثمي في المجمع (8/ 127): "رجاله ثقات إلا أن ابن إسحاق مدلس".
[22] التمهيد - (4 / 9).
[23] أخرجه أبو داود (4727)، والطبراني في"الأوسط" كما في "المنتقى منه"، للذهبي (6 / 2)، وهو في "السلسلة الصحيحة" (1 / 232).
[24] أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد"(206)، والآجري في "الشريعة"(ص 294) وابن أبي عاصم في (السنة) (515)، والبيهقي في الأسماء والصفات ص264، وغيرهم، ويشهد لمعناه أحاديث، قال العلامة المعلمي في: "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"- (2 / 231): المتن غير منكر، وله شواهد- وساق بعضها ثم قال:- فالنكارة في السند فقط، والله أعلم.
[25] لا تحزن.
[26]رواه الطبراني 915 بإسناد صحيح والحاكم 7922، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب - (2 / 175).
[27] مفتاح دار السعاد: (1/ 199) وانظر عون الغلى الحميد (2/ 475).
[28] أخرجه البخاري (7378)، ومسلم (2705).
[29] أخرجه الخرائطي في" فضيلة الشكر" (133 - 134) والعقيلي في" الضعفاء" (165)، وتمام في "الفوائد" (265/ 2 - 266/ 1) وابن قدامة في "الفوائد" (2/ 6/ 1 - 2) والحاكم 7745 ، قال ابن القيم شفاء العليل - (1 / 114): والإسناد صحيح ومعناه صحيح لا ريب فيه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، فإن سليمان بن هرم العابد من زهاد أهل الشام، والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين» وتعقبه الذهبي فقال: "لم يصح هذا، والله تعالى يقول: (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون)، ولكن لا ينجي أحدا عمله من عذاب الله كما صح، بل أعمالنا الصالحة هي من فضل الله علينا ومن نعمه لا بحول منا ولا بقوة، فله الحمد على الحمد له "، وضعفه الألباني في الضعيفة 1183.
[30] مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 107).
[31] أخرجه مسلم 1362.
[32] أخرجه أحمد 19825، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 173 وانظر صحيح الترغيب والترهيب 1519.
[33] تفسير الألوسي - (23 / 167).
[34] زاد المعاد - (3 / 196).
[35] عون العلي الحميد - (2 / 389).
[36] التمهيد (2 / 273) بتصرف شديد، للشيخ صالح آل الشيخ.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|