شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (67)
صـــــ(11) إلى صــ(15)
الأسئلة
حكم صلاة الفريضة داخل الحِجْر
q هل تصح صلاة الفريضة داخل الحِجْر؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة تقدّم الكلام عليها، والحِجْر آخذ حكم داخل البيت؛ لأن الحجر تُرِك منه ستة أذرع، واختُلِف فيما هو زائد على ستة أذرع، كما ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من البيت قدر ستة أذرع وشيء، واختُلِف في هذا الشيء، وتكلَّم عليه المؤرخون الذين تكلموا على تاريخ مكة والكعبة، فقال بعضهم: إنه يصل إلى النصف، وقال بعضهم: إنه دون النصف بقليل.فهذا القدر يُعتبر من البيت، فإن صلى في هذا الحد وقع الخلاف الذي ذكرناه، أما لو أنه صلى فيما هو خارجٌ عنه، -أي: وراء الستة الأذرع والنصف- فإن صلاته صحيحة ومعتبرة، والله تعالى أعلم.
[حكم النظر إلى الكعبة أثناء الصلاة في الحرم]
q إذا كان الإنسان داخل الحرم فهل يلزمه أن ينظر إلى عين الكعبة أم ينظر إلى موضع سجوده؟
a هذه المسألة فيها خلافٌ بين العلماء رحمة الله عليهم، قال بعض أهل العلم: من صلَّى فإنه يضع وجهه قِبَلَه ولا يضعه جهة السجود، وذلك لأن الله عز وجل يقول: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، وأما ورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرمي ببصره إلى موضع سجوده، فقالوا: لا مانع أن يكون الأصل أنه كان يرمي ببصره إلى حيث أُمِر، ثم إنه يرمي إلى موضع سجوده في بعض الأحيان، كما يقع من الإنسان الخاشع، فهذا وجه من يقول: إنه يستقبل جهة القبلة ويجعل بصره أمامه.وأكدوا هذا أيضاً فقالوا: لأنه يحقق مقصود الشرع، فإنه لو مر أحدٌ بين يديه ينتبه له، ولكن إذا كان رامياً إلى موضع سجوده فقد يكون أقل انتباهاًَ لمن يمر، ولذلك قالوا: إن الأفضل والأولى أن يجعل وجهه قِبَل القبلة، بمعنى أنه يرفعه.وقال بعض العلماء: السنة أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، وذلك لثبوت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا صلى رآه الصحابة رامياً ببصره إلى موضع سجوده) صلوات الله وسلامه عليه.قالوا: وهو أيضاً يحقق مقصود الشرع؛ لأنه أقرب إلى الخشوع.وجاء حديث أم سلمة يؤكد هذا، وهو: (أن الناس كانوا إذا صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت أبصارهم لا تفارق موضع سجودهم، ثم لما قُتِل عمر رضي الله عنه نظروا أمامهم، فلما قتل عثمان أخذوا يميناً وشمالاً)، أي: على حسب الفتن، نسأل الله السلامة والعافية.فكان الخشوع موجوداً فيهم، ثم لما حصلت الفتن أصبح الناس يسلبون الخشوع شيئاً فشيئاً، كما جاء في حديث الدارمي: (إن أول ما يرفع من العلم الخشوع).فالمقصود أنهم قالوا: إن أم سلمة أثبتت هذا، فدل على أن مقصود الشرع أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، وهذا القول في الحقيقة أقوى، وبناءً على ذلك إذا كان في مكة أو داخل البيت فإنه يأخذ بالسنة من الرمي إلى موضع السجود، وإن رفَع بصره إلى جهة الكعبة فلا حرج، لكن الذي تطمئن إليه النفس ما ذكرناه لورود الخبر مع تحقيق مقصود الشرع من الخشوع.وما ذكروه من دفع المصلي فإننا نقول: إذا تعارضت فضيلتان: الانتباه لدفع المصلي وخشوع المصلي، فإن خشوع المصلي متصلٌ بالصلاة، وفضيلته متصلة من هذا الوجه، ودفع المصلي منفصلٌ عن الصلاة ففضيلته منفصلة من هذا الوجه، فتُقدَّم الفضيلة المتصلة على الفضيلة المنفصلة من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.
[استقبال القبلة لصلاة الفريضة في الطائرة]
q في بعض الأسفار تطير الطائرة لمدة ثلاث عشرة ساعة أو أكثر، ويتعذر استقبال الكعبة، فكيف تصلى الفريضة؟
a بالنسبة للأسفار الطويلة في الطائرة فإنه يلزمه أن يستقبل جهة الكعبة، فيقوم ويأتي في هذا الممر؛ لأنه لا بد من وجود أوقات يمكن أن يستقبل فيها القبلة حتى ولو يؤخر إلى آخر الوقت، وإذا كان الناس يمرون أخر إلى آخر الوقت، وهذا مما يُستثنى من النهي عن الصلاة في قارعة الطريق، فإن النهي عن الصلاة في قارعة الطريق أضعف من أن يمنع المكلف من ركن الصلاة الذي هو القيام والركوع والسجود.ولذلك الأقوى -كما اختاره بعض مشايخنا رحمة الله عليهم والنفس تميل إليه- أنه إذا جاء وقت الصلاة يقوم فيستقبل جهة مكة أو جهة الكعبة، وخاصة في بعض الرحلات حيث يتيسر فيها وجود البوصلة التي تدل على الجهة، فحينئذٍ يستقبل الجهة، ثم يصلِّي ولو في الممر، كأن يأتي في آخر الممر ويبسط سجادة ثم يصلي، فيأتي بالقيام والركوع والسجود والجلوس، لكنه لو جلس على كرسيه فلا يستطيع القيام ولا الركوع ولا السجود، فيُذهِب ما لا يقل عن ثلاثة أركان من أركان الصلاة، ولذلك لا يُخفَّف؛ لأنه بإمكانه أن يُحقِّق هذه الأركان بهذا الموضع، ولذلك تُغتفر صلاته في الطريق؛ لأن حديثها ضعيف، وتبقى الأركان المأمور بها على الأصل، ولأن قارعة الطريق إنما نُهِي عنها لوجود الضرر، وخاصة في الطائرات التي تكون ممراتها متعددة، فالضرر غير موجود؛ لأنه إذا صُلِّي في هذه الطريق فيمكن أن يلتمس المارُّ طريقاً آخر، فالذي يظهر أنه يمكن من الصلاة على الصفة التي ذكرناها في كل وقتٍ بحسبه، والله تعالى أعلم.
[حكم السترة في الحرم]
q ما الحكم في سُترة المصلي داخل الحرم؟ وهل يعذر في قطع الصلاة بسبب الزحام ونحوه؟
a النصوص في السترة عامةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين قبلته أحد فليفعل)، وسئل عليه الصلاة والسلام عن سترة المصلي فقال: (مثل مؤخرة الرحل)، فلا يضره من مر وراء ذلك، وقال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً) فهذه كلها تدل دلالةً واضحةً على اللزوم.وبناءً على ذلك نظرنا في هذا النص فوجدناه عاماً لم يفرق بين كون الإنسان داخل المسجد أو خارجه.وقال بعض العلماء باستثناء مكة وداخل المسجد، والحديث في ذلك ضعيف، فلم يصح حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم باستثناء داخل الكعبة، وإنما استثناه العلماء بهذا الحديث الضعيف وبالنظر -أي: الاجتهاد- فقالوا: إنه داخل المسجد يرى الكعبة، فلا حرج أن يمر أحدٌ بين يديه ولا يقطع صلاته وهذا اجتهاد في مقابل عموم النص فيُقدَّم عموم النص عليه، والصحيح أنه لا بد من السترة، بل ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته إلى السترة في داخل مكة.ففي الصحيحين من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبةٍ له حمراء من أدم -وهذا بعد أن فرغ من المناسك ونزل عليه الصلاة والسلام- قال: فأتاه بلال بوضوءٍ.إلى أن قال: ثم رُكزت له العَنَزَة).وهذا يدل على أن داخل مكة كخارجها سواءً بسواء، والحديث ضعيف فيُبقى على عموم النص، ويستوي من كان بالداخل والخارج.لكن لو أن إنساناً غُلِب بمرور الناس فليتنح إلى ناحية ليس فيها أُناس، خاصة إذا كان يريد أن يصلي صلاةً واجبةً عليه، كأن يقضي ظُهراً أو عصراً، أما أن يأتي في المطاف مثلاً، أو بجوار المطاف أو المقام، ويريد أن الناس لا تمر بين يديه فإنه يعتبر كالمتسبب لنفسه في مرور الناس، فلو ظن أنه لا يمر بين يديه أحد وغلبه الناس فلا حرج، فلو قام يصلي سنة الظهر، أو ليصلي صلاة رغيبة الفجر فجاء الناس ومروا بين يديه وغلب عليهم فلا حرج؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وهذا ليس بإمكانه أن يدفع إذا حصل الضرر عليه بغلبة الناس له، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.