عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 29-09-2020, 01:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,295
الدولة : Egypt
افتراضي رد: منهج القرآن في ترشيد العقول وإعلاء الهمم وترقية المواقف

موقف رافضٌ لشرك الأبِ والقوم جميعًا، وحُكمٌ صارم على عبادة غير الله بالضلال البين الذي لا شبهة فيه، وتعالٍ عن العلاقات العائلية والقومية إن تعارضت مع العقيدة، هو خلاصة ما وصل إليه الإيمان لدى إبراهيم عليه السلام، قدَّمه لنا الوحي الكريم ثمرةً ونتيجة لطريقته في البحث عن الحق، فكيف سار في طريق الرُّشد هذا ووصل إلى هذه النتيجة؟ وما هي معالم هذا الطريق الذي سار فيه فعرَف ربه ونهض يدعو إلى توحيده وعبادته؟







لقد نشأ إبراهيمُ في قوم يعبدون النجوم والأوثان، ويحكُمُهم ملك يدَّعي الألوهية ويقول لهم: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، وشاء الله أن يكلِّفَه أبوه ببيع التماثيل المعبودة في الأسواق، فيسعى بها ويتأملها، ويتساءل عن جدواها وعن عقول مَن ينحتها ويبتاعها ويقدسها ويعبدها ويتوجه إليها بالدعاء، فلا يجد في نفسه إلا الازدراءَ للعَبَدة والمعبودات، ثم يتأمل ما يبدو لناظريه من ملكوت السماء والأرض وما يراه في نفسه وبدنه والناس حوله، فيعجَب لبديع صُنع ذلك ويتساءل عمن أتقنه ونشَره!







هذه المشاعر المتأججة المشتاقة إلى المعرفة إن صادفت نفسًا فتيًّة طموحة وقلبًا حيًّا خصيب التربة وعقلًا نيِّرًا يانع الذكاء - لا بد أن تقحم صاحبها في الحيرة الإيجابية الفعالة، حيرة الأرض المعطاء العطشى إلى الوابل الصيب الطيب، حينئذ تُشرق في القلب أنوار الهداية، وتقف الرُّوح بأبواب اليقين تطرقها وتلتمس نصيبها من رحمة ربها وقد خلقها مشرئبَّة إلى الحق باحثة عنه، نادمة على ما أضاعت من حق نفسها وما بدَّدت من سالف أيامها في غفلةٍ عن حقيقة الوجود، وسهوٍ عن المبتدأ والمنتهى وعاقبة الورود.







حينئذ تُورِق الرُّوح بأزهار الحق، فتتحرر من عِقال الانتماء للوالد والأهل والعشيرة والقوم، ونير الانتماء إليهم رَعاعًا ومتألِّهين، وتنطلق إلى فساحة المحبة، محبة أهل الحق للحق، تبحث عن أرواح تعرِفُها وتأتلف معها، وأهلٍ كرامٍ تأنَس بهم، ورفقة طريق منعمة تسعد بها، وسفينة هنيئة تشقُّ فيها وبها عُبَابَ المحيط ولُجَجه.







إن الفتى إبراهيمَ قد رأى الضلال في قومه فأنكره، وأقبل يطرُقُ ليلًا ونهارًا أبواب الحق طرقًا، ويسعى بعقله وبصيرته بحثًا عن ربه سعيًا، رأى قومه يعبدون النجوم والكواكب، فهل يسائلها عن الحق وطريقه؟ وهل تستطيع النجوم أن تلبي نداء الفطرة في قلبه وهو يرفض ما عليه قومه؟ وهل تفصح أو تبين إن كانت حقًّا تستحق العبادة أو بيدها مقاليدُ الكائنات؟







بدأ مسيرته لتلبية نداء الفطرة المتعاظم في عقله وقلبه باستعراض الكواكب الساطعة ليلًا، وكان لكلِّ طائفة مِن قومه كوكبٌ خاص بها تجسِّده في وثن حجري أو خشبي تعبُدُه، وتطلَّع إلى السماء بعينِ البصيرة النافذة والعقل النيِّر والتوجه الصادق والتفكير الحر فإذا بها على غير ما يألفها أو ألِفها الناس، لقد انتبه إلى فساحة ملكوت الله العظيم في السماء والأرض، وقارَنه بعجز المتألهين من البشر وضعفهم ودعاواهم الزائفة العريضة، وانطماس أعينهم عن رؤية الحق؛ فانقدحت في قلبه شرارةُ المعرفة، يهديه الله بها إليه: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [الأنعام: 75]؛ أي: وكما أراه الله تعالى ضلال قومه فأنكره، أخذ بيده إلى طريق الحق ليريَه بحاسة البصر وعين البصيرة ملكوته في السموات والأرض، فيكون ذلك دليلَه ومرشده، ويتدرج به من المحسوس إلى المعقول، ومن الشك إلى اليقين، ومن رؤية المخلوق إلى معرفة الخالق والإيمان به، لقد صدَق إبراهيمُ اللهَ السعيَ إلى الحق؛ فتقبَّل الله سعيه، وسدَّد خطاه إليه:



﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا ﴾ [الأنعام: 76]، فلما أطبَق الليل وأظلم الكون إلا مِن نجوم تلمع، وكواكب تسطع - حدَّد أكبرها وأشدها نورًا، وتساءل عن مزاعم قومه واحتمال كونه ربًّا خالقًا له مواصفات الألوهية والربوبية، ثم ﴿ قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾ [الأنعام: 76]، هل هذا ربي كما يزعم قومي؟ لكن الجواب جاءه عقِب أفول هذا الكوكب، وافتقاده صفةَ البقاء التي هي من صفات الربوبية: ﴿ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴾ [الأنعام: 76]؛ أي: فلما غاب الكوكب لم يعُدْ أهلا للربوبية ولا للمحبة الحقَّة؛ لأن المحبة الاعتقادية لا تُبذَل فيما رسخ بفطرة إبراهيم إلا لمن يستحقها، وهو الخالق عزَّ وجل.







وإذ لم تثبُتْ للكوكب صفة من صفات الربوبية حضورًا دائمًا ورعاية مستمرة للكون، أعرض إبراهيم عنه، والتفت إلى أكبرِ ما يرى في السماء ليلًا، إلى القمر؛ علَّه يتوفر على صفات الرب المخزَّنة في فطرته واضحة بينة، ﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾ [الأنعام: 77]، رآه مكتملًا منيرًا، فتساءل أيضًا عن مزاعم قومه في عبادتهم له، وقال: هل هذا ربي كما يزعم قومي؟ ﴿ فَلَمَّا أَفَلَ ﴾ [الأنعام: 77]، فلما غاب افتقَد كذلك صفةً من صفات الربوبية، وما ينبغي أن تكون عليه علاقة الرب بالمربوب والخالق بالمخلوق.







وإذ صدَق ربَّه البحثَ عن الحق والسعي إليه، واستشعر العجز عن اقتحام الغيب، فوَّض أمره إلى الخالق الحقِّ الذي يبحث عنه ويجد صدًى لوجوده وصفاته في فطرته، ﴿ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴾ [الأنعام: 77]، وذلك منه عينُ الإيمان؛ إذ خرَج عن حوله وقوته، وأخذ يتجه نحو الجادة ويقترب منها، بعد أن بذل جهدَه، وآمَن بأن الحق لا يَهدي إليه إلا الحقُّ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، وقال - فيما رواه عنه الرسولُ صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تقرَّب إليَّ العبد شبرًا تقربتُ إليه ذراعًا، وإذا تقرب إليَّ ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيتُه هرولة)).







استعرَض إبراهيم في ليله ما يرى مِن ملكوت السماء فلم يجد فيه إلا المخلوقات؛ قمرًا وكواكبَ ونجومًا، ثم بزغت الشمس صباحًا، فرآها وقد غيبت ما رآه بالليل، ﴿ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ﴾ [الأنعام: 78]، قال: هذا الكوكب أكبرُ ما رأيت في السماء ليلًا ونهارًا، فهل هذا ربي كما يزعم قومي؟ إلا أن هذه الشمس على كِبَرِها وشدة سطوعها وحرارتها تسير في السماء من شروقها صباحًا إلى أفولها في المساء، فمَن يُسيِّرها منذ رأتها الأرض والسماء وأهل الأرض والسماء؟! لا بد أن يكون الذي يُسيِّرها هو خالقها وخالق هذا الملكوت؛ أرضًا وسماءً، و نجومًا وكواكبَ، وقمرًا وشمسًا، وغيرها من الكائنات، هنالك انقدح في قلبه قبسٌ من الهداية، ومِشعل من النبوة، ومشكاة تُنير طريقه إلى ربه، مشكاة لا يملِكها إلا خالق الملكوت في الأرض والسماء، والليل والنهار، هنالك عرَف إبراهيم ربَّه الذي يجد لصفاته نورًا في قلبه، وصدًى في عقله؛ فبادر بالبراءة من الشرك ومفاصلة أهله: ﴿ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 78]، تبرأ من الشرك وقومه المشركين؛ كي يُخلِص إلى توحيد ربِّه الحق؛ محبةً وولاءً؛ لأن القلبَ الفطري السليم في مجال العقيدة لا يتسعُ للتعدد، ولا بد أن يخلى أولًا من الشكوك والأوهام، والهواجس والظنون؛ كي يستقرَّ فيه الإيمان، ويملأَه طمأنينةً وصدقَ توجُّه إلى الله عز وجل، كما فعل إبراهيم عليه السلام إذ تأمل في الملكوت ليلًا ونهارًا، وقطع الشك باليقين في أمرِ معرفة الخالق الذي خلَق ويخلُق، والحكيم الذي سيَّر ويسيِّر، وحفِظ ويحفَظ، ودبَّر ويدبِّر.







لقد استعرَض إبراهيمُ حركة بزوغ الكواكب؛ كبيرِها وصغيرها، خافتِها وساطعها، وحركة أفولها واختفائها، وتبيَّن أنها مفتقِدة لصفات الربوبية، فكيف بالأصنام التي اتخذها قومُه رمزًا لها وهي مجرد حجارة وأخشاب؟! فثار في قومه مبكتًا لهم وعاتبًا عليهم غباءَهم وما ألغَوا من عقولهم، ونادى فيهم:



﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79]، إني آمنتُ بالله الذي خلق السموات والأرض، وتوجهت إليه مخلصًا بالمحبة والعبادة والدعاء والتوكل والرجاء، متحنفًا مائلًا ومعرضًا عن كل أديانكم الوثنية، ولستُ من المشركين بالله غيرَه، وعبَّر عن ذلك كله بتوجيه وَجْهِه إلى الله تعالى؛ لأن الوجهَ مظهر الخشوع والطاعة والامتثال البدني والرُّوحي والعقلي، وبه يكون السجودُ.







إنه الفرَح بالحق وقد أشرق في عقله وقلبه، وتطابق ما اهتدى إليه مع ما رسَخ في فطرته، فلم يُطِقْ كتمانَ ما آتاه ربُّه من العلم، وواجه قومه في تحدٍّ واضح صارم بحقيقة إيمانه وتوجهه لربه، وحقيقة حُكمه على الشرك، وعزمه على مفاصلة المشركين.







وإنه الموقف الرباني لكل عبدٍ أوابٍ إذ يكتشف الحق فينحازُ له ويحرص على نشره وإشاعته وعدم الاستئثار به، غيرَ مبالٍ بجحافل الباطل ومكارهِ المُبطِلين.







لقد حرَّر إبراهيم - بتوفيق من الله - فطرتَه وعقله من أوهام قومه وخيالاتهم المريضة، فهل يقبَل قومه أن يتحرروا منها؟ وإذ أخذ يحاول أن يأخذ بأيديهم إلى الحق الذي اهتدى إليه، تحشَّدوا للدفاع عن شِركهم الذي لديهم، ودَحْض ما أتاهم به من الحق وإبطاله، وكما تبدأ عادة حروب أهل الباطل على أهل الحق، يحاولون أولًا تشكيكهم فيما جاؤوا به، واستدراجهم إلى النكوص عن دعوتهم والتخلي عن عقيدتهم، فإن فشِلوا في ذلك لجؤوا إلى التخويفِ والتهديد والوعيد، ثم محاولة القتل أو التهجير والتشريد، أسلوب واحد واجه به أهلُ الباطل دعاةَ الحق؛ أنبياءَ ومرسَلين ومصلِحين عبر التاريخ في كل عصر وفي كل أمة، ولن يَشِذَّ عن ذلك أبو الأنبياء إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام، فما أن واجههم بإعلان التوحيد والبراءة من الشرك، حتى هرولوا إليه يحاجُّونه في الله مشكِّكين ومثبِّطين ومهدِّدين؛ كما قال تعالى:



﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ﴾ [الأنعام: 80]، ولفظ: "حَاجَّه" من المحاجة، وهي: المجادلة والمناظرة والمغالبة في إقامة الحجة، وتطلق الحجة على كل ما يُدْلي به الخَصم ضد خَصمه من أدلة أو قرائن، والمعنى أن قومَ إبراهيم عليه السلام جادلوه وخاصموه في أمر التوحيد، وجاؤوا بحُجَج واهية على صواب معتقداتهم الشِّركية، مشكِّكين في وجود الله، وتفرُّده بالخَلْق والأمر والتسيير والتدبير، ومهدِّدين بانتقام أصنامهم منه، فأجابهم: ﴿ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ﴾ [الأنعام: 80]، أتغالبونني بحُجَجكم الواهية في أمرٍ خطير، هو إيماني بالله تعالى وقد هداني إلى صراطِه المستقيم؟ استفهام إنكاري، وتوبيخٌ لإنكارهم الحقَّ البيِّن الذي لا يقبَل جدالًا ولا مِراءً ولا محاججة، وتَيْئِيس لهم من احتمال عودتِه عن الإيمان، أو خوفِه مِن أذى الأوثان.







لقد كان المشركون من قبلُ لا يحفِلون بما يذكر إبراهيمُ به آلهتم، ولا بسخريَّتِه منها وبمن يشتريها ويعبدها، ولا يتصورون أن يتطورَ أمره إلى إعلان براءته منها وممن يتوجه إليها بالعبادة، أو أن يأتيهم بدِين جديد يتوجه بهم إلى إلهٍ متفرِّد بالخَلْق والأمر، لكنه كان قد تجاوز درجة الإيمان العقلي واسترجاع الفطرة، إلى مرحلة متقدمة جدًّا في علاقته بربه، مرحلة النبوة وتحمُّل الرسالة، مرحلة أراه الله تعالى فيها ملكوت السموات والأرض؛ ليكونَ من الموقنين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [الأنعام: 75]، وأخرى كلَّمه ربُّه فيها ودعاه إلى الإسلام فسارع بالامتثال والطاعة: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 131]، ومرحلة خاطب فيها ربَّه طلبًا لطمأنينة القلب، فاستجاب له: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260].







لقد قطَع إبراهيم عليه السلام أشواطًا بعيدة في الطريق إلى ربه، فأنَّى للمشركين أن يردُّوه عن الإيمان، أو يثبِّطوا عزيمته عن الدعوة إلى التوحيد، أو يكفُّوه عن التنديد بالشرك؟ وإذ فشِلت مساعيهم اللينةُ، وشرعوا في تخويفه بما زينَتْه لهم أوهامُهم وخرافاتهم من احتمال غضب الأصنام وانتقامها منه - ردَّ عليهم بقوله:



﴿ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ ﴾ [الأنعام: 80]، لا أخاف أصنامَكم ولا ما تتوهَّمونه فيها مِن قدرة على النفع والضُّر، وهي مجردُ حجارة منحوتة وأخشاب مخروطة، ﴿ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ﴾ [الأنعام: 80]، إلا أن يصيبَني شيء من المكروه؛ مرضًا أو بلاءً أو موتًا، فذلك بإرادةِ الله عز وجل وعِلمه وحكمته وحده، يُصيب به من يشاء من عباده، وليس مِن فعل أوثانكم، ﴿ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الأنعام: 80]، وسع علمُ ربي ما في السموات والأرض؛ غيبَهما وشهودهما، ﴿ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 80]: أفلا تتذكرون فطرتكم التي فُطرتم عليها وما بيَّنَتْه لكم من دلائل الحق والتوحيد فتؤمنوا وترجعوا إلى صراط مستقيم، ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ ﴾ [الأنعام: 81]، استفهام إنكاري آخر مِن إبراهيم لقومه، يوبِّخهم به إذ ظنوا احتمال خوفه مما لا يُخيف، كيف أخاف مخلوقاتٍ عاجزة يُفعَل بها ولا تفعل؟! ﴿ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ﴾ [الأنعام: 81]، ولا تخافون مِن عاقبة ما ترتكبونه في حق الله القوي القاهر، وقد جعلتم له في ملكوته أندادًا وشركاءَ، وليس لكم فيما انتحلتموه حجةٌ منه تعالى أو تفويض، ﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 81] فمَن مِن الفريقين أولى بأن يُخافَ إن كان لكم علم راسخ بالصواب والخطأ وبعاقبة الإيمان وعواقب الكفر؛ مَن يؤمن بالله تعالى وقد وحَّده وعبده، أم مَن عاداه وأشرك به وتولى أحجارًا جامدة وكواكبَ عاجزة؟!







إنه التهديد نفسُه الذي يوجهه دائمًا عبيدُ طواغيت الأرض؛ بشرًا وحجَرًا وشجرًا وطواطمَ وأوهامًا، لدعاة الحق؛ أنبياءَ ورسلًا ومصلِحين، فلا يلقَون منهم إلا الثباتَ ورباطة الجأش، واستعلاء الإيمان، والإعراض عن الجاهلين، لقد كان إبراهيمُ عليه السلام في موقفه هذا شبيهًا بموقف نوحٍ مِن قومه إذ قال لهم: ﴿ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]، كما كان قدوةً لمن أتى بعده مِن الأنبياء والرسل والصالحين، مثل هود عليه السلام الذي تحدى قومه بإيمانه: ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 53 - 56]، ومثل محمَّد صلى الله عليه وسلم إذ غضبت منه قريشٌ، وعادَوْه وحقدوا عليه، ثم ذهبوا إلى عمه فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك مِن ابن أخيك فلم تنهَه عنا، وأقسموا بأنهم لن يصبروا على أفعاله حتى يكفَّه عنهم أو ينازلوه وإياه في ذلك حتى يهلِكَ أحد الفريقين، ولما بلَّغه عمُّه تهديد المشركين رد قائلًا: ((والله لو وضَعوا الشمس في يميني، والقمر في شِمالي، على أن أترك هذا الدِّينَ ما تركتُه حتى يقضي اللهُ أمره)).







وإنه الموقفُ نفسه الذي سار عليه علماءُ الأمة الأبرار، وهم كثير، مِن أمثال سلطان العلماء العز بن عبدالسلام، إذ جاءه أحدُ سلاطين المماليك غاضبًا يهُمُّ بقتلِه، فقال له ولده: إنه السلطانُ، وإني أخاف يا أبي أن يقتلَك، فأجابه العز المقدسي: أبوك يا ولدي أقلُّ مِن أن يقتل في سبيل الله، وعندما سأله بعد انصراف السلطان: أما خِفتَه؟ أجاب: يا بني، لقد استحضرتُ هيبة الله تعالى؛ فصار السلطان قدامي كالقطِّ.







وإذ أفحم إبراهيمُ عليه السلام خصومه المشركين وسألهم عن الفريق الأَوْلى بالأمن، فريق المؤمنين أم فريق المشركين، مَن يخافون الله تعالى أم من يخافون النجوم والأوثان؟! عقَّب الحق تعالى على ذلك - تأييدًا لحجته، وتزكيةً لموقفه، وحكمًا قاطعًا بين الفريقين - بقوله:



﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، إن الأَوْلى بالأمنِ هم الذين آمنوا بالله ولم يخلِطوا إيمانهم بأي صِنف من أصناف الظلم، هؤلاء هم الآمنون من العذاب، المهتدون إلى الحق في الدنيا وإلى الجنة في الآخرة، وقد فسَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الظلمَ في هذه الآية الكريمة بالشِّرك، فيما رواه البخاريُّ ومسلم عن ابن مسعود قال: لما نزلت: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [الأنعام: 82]، شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله، أيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس ذاك، إنما هو الشرك؛ ألم تسمعوا قولَ لقمان لابنه: ﴿ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]))، وفي رواية: ((ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمانُ لابنه)).







لقد كانت هذه الآيةُ الكريمة مع ما سبقها من الدلائل التي ساقها إبراهيم لقومه إلهامًا من الله تعالى، وحجَّة قاطعة في إثبات وحدانية الله وتفرُّده بالخَلْق والأمر واستحقاق العبادة؛ ولذلك عقَّب عز وجل بقوله:



﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾ [الأنعام: 83]؛ أي: وتلك الدلائل والحُجَج المفحِمة التي واجه بها إبراهيم قومه، كانت بإلهام مِن الله عز وجل ووحيِه وفضله؛ ﴿ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 70]؛ لذلك عقَّب سبحانه مبينًا فضله على جميع رُسله وأنبيائه والصالحين مِن عباده بقوله: ﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ﴾ [الأنعام: 83]، يرفَع الله تعالى بفضلِه وإحسانه وعدله واصطفائه درجةَ مَن يشاء مِن عباده في الدنيا والآخرة؛ كما قال في الآية الحادية عشرة من سورة المجادلة: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11]، ولقد رفَع عز وجل إبراهيم عليه السلام درجاتٍ عُلْيا، فكلَّمه واتخذه خليلًا، وجعل في ذريته النبوةَ والكتاب ﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 27].







لذلك عقَّب الحق عز وجل موضحًا جميلَ صُنعه واصطفائه وتقديره وتدبيره بقوله عز وجل: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 83]، حكيمٌ في جميع ما يفعَل؛ خَلْقًا وتقديرًا وتعليمًا، وهدايةً واصطفاءً، ورفعًا وخَفْضًا، عليمٌ بجميع عباده؛ حالِهم ومآلهم، ظاهرهم وباطنهم، ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.







لقد كان إبراهيمُ عليه السلام في جميع أحواله عقلًا نيِّرًا، وإسلامًا قيِّمًا يسير على الأرض، وكتابًا مِن الله حيًّا يُنِير الطريق، وقدوة حسنة وأسوة طيبة للأنبياء والرسل مِن بعده، وكان محمدٌ صلى الله عليه وسلم وارثَ ملةِ إبراهيم عليه السلام، يَسير في قومه قرآنًا غضًّا واعيًا، يُحْيي النفوس بالإيمان، ويُطهِّرها بالخَلْق الكريم، ويرقِّيها بالفكر الثاقب، وقد رُوي عنه أنه قال حثًّا على التعقُّل والتدبُّر ونبذِ التقليد: ((لا تكونوا إمعةً، تقولون: إن أحسن الناس أحسَنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا ألا تظلِموا)، وهو بذلك خيرُ وارث لملة إبراهيم عليه السلام، وخير قدوة للناس فيها إلى يوم القيامة، فهل يقتدي الشباب المسلم المعاصر بإبراهيم عليه السلام وقد حرَّر عقله، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وقد قاوم الكفر والشرك وغباء العقول وحطم الأوثان، فيحرِّروا أنفسَهم من الخوف وعقولهم من خرافات العَلْمانيين والمراكسة وتجار السياسة وتحكُّم ظلمة العصر وأوثانه وفتَّانيه؟!







إن القدراتِ العقلية عاملٌ أساسي في بناء شخصية المرء من حيث أداؤُه المعرفي؛ فهمًا وملاحظة ومقارنة واستنباطًا واستقراءً وسرعةَ بديهةٍ وقدرةً على التمييز والاختيار والإبداع والأداء، وفهمًا لمآلات الأقوال والأعمال والأحوال، وحرصًا على الفهم الدقيق الصائب قبل الإقدام على أي عمل أو تنفيذه، وشجاعةً على اتخاذ المبادرات المبتكرة والقرارات الصائبة، وعلى تحمُّل المسؤولية والتعامل الإيجابي الواعي المتفهم لتغيُّر الظروف والأحوال.







وإن تجميدَ هذه القدرات وتعطيلها، والانضباعَ لما يُملَى علينا؛ عجزًا عن التفكير أو ثقة في الغير، والانصياع لبادي الرأي؛ استسهالًا للأمور أو كسلًا أو ثقة في الآخرين مهما بلغت درجتُهم العلمية أو الفقهية - ليس من الدِّين في شيء، ولكنه جحود لنعمة أنعمها الله علينا، هي نعمة العقل، وكفرانٌ لنعمة أخرى آثرنا الله تعالى بها، هي نعمة الإيمان.








وإن ترقيةَ كل هذه القدرات العقلية وشحذَها وتطويرها والاستفادة منها كانت مما ميز الشخصية الإبراهيمة، وبوَّأها الصدارة بين الأنبياء والرسل عليهم السلام، واصطفاها لدِينه، وجعل مِلَّتها النموذج الإسلامي الفَذَّ، فقال عز وجل: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [البقرة: 130]، وقال: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 95]، وقال: ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الحج: 78].






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.29 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.46%)]