ثم زاد الوحي بعدهما نبيين آخرين بقوله تعالى:
﴿ وَمُوسَى وَهَارُونَ ﴾ [الأنعام: 84]، وقد تميزا بمواجهة أشد الأنظمة الطاغوتية بطشًا واستكبارًا، فرعون وهامان وجنودهما، وبالصبر والمصابرة على معالجة أمر بني إسرائيل، وهم أشد الشعوب عنادًا ومِراءً واستعصاءً، فجزاهما الله ومَن ذُكِر معهم من الأنبياء خير الجزاء، بما أحسنوا الطاعة وصبروا على ما نالهم من المِحَن، وأخلصوا رعاية أقوامهم، وقال تعالى فيهم جميعًا: ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأنعام: 84]، وإن كان وصفُهم بالإحسان صفةً مستحَقَّةً لجميع الأنبياء والمرسَلين على تفاوت في الدرجات؛ لقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ [البقرة: 253].
ثم واصَل الوحي الكريم عرضَ فئة ثانية من ذرية إبراهيم فقال تعالى:
﴿ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ ﴾ [الأنعام: 85]، وقد قتَل اليهودُ الأولَ والثاني زكرياء ويحيى عليهما السلام عدوانًا وظلمًا، وحاولوا قتل الثالث عيسى عليه السلام [3]، فحفظه الله ونجاه منهم ورفعه إليه، وأُرسِل الرابع إلياس عليه السلام إلى قومه من اليهود وقد عبدوا صنمًا يدعونه بعلًا، فطاردوه وكادوا يقتلونه، وفيه نزل قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الصافات: 123 - 126]، كما تميَّز أربعتُهم بشدة الزهد، والإعراض عن الدنيا وزينتها وسلطانها، وبما نالهم من مِحَن في مقارعة الباطل والمبطِلين، فكان وصفهم بالصالحين بقوله تعالى عقب ذكرهم: ﴿ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنعام: 85] أنسبَ لمسيرتهم.
ثم أضاف الوحيُ الكريم كوكبة ثالثة من الأنبياء في ذرية إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى:
﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ﴾ [الأنعام: 86][4]، وتميزوا كلهم بما ابتُلوا به من المحن والفتن، وبما صبروا في الله وصابروا، مما ذكره القرآن الكريم في سياقات كثيرة من سوره، فأكرم الله مسيرتهم ورضي أعمالهم وبيَّن فضلهم ودرجتهم عنده فقال: ﴿ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 86]؛ أي: وكلَّ واحدٍ منهم فضلناه على عالَمي عصره في الدين والتقوى والعمل الصالح، وقد أُخذ مِن هذه الآية الكريمة فقهًا أن لوطًا من ذرية إبراهيم مع أنه ابن أخيه؛ تغليبًا لاعتبار ابن الأخ ابنًا من الذرية كما هي عادة العرب، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: ((يا عمرُ، أمَا شعرتَ أنَّ عمَّ الرجلِ صنوُ أبيه)).
ثم توسَّع الوحي الكريم بذكر الصالحين المنتسبين بالأبوة أو البنوة أو الأخوة لهذه الكوكبة من الأنبياء عليهم السلام فقال تعالى: ﴿ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ﴾ [الأنعام: 87].
وحرفُ "مِنْ" في هذه الآية للتبعيض؛ أي: إن هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذا السياق ليسوا وحدهم مَن شمِلهم فضلُ الله تعالى ورحمته، بل شمل أيضًا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، ممن أشار إليهم الوحي بقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾ [غافر: 78]، واختار منهم الحقُّ تعالى أنبياءَ وعبادًا صالحين؛ كإدريس وهود وصالح عليهم السلام، لتبليغ رسالة الإسلام، ولذلك عقب بقوله عز وجل:
﴿ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ ﴾ [الأنعام: 87]؛ أي: وقد اصطفيناهم واخترناهم للنبوة، ﴿ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 87]، وسدَّدْناهم وأرشدناهم إلى طريق مستقيم، هو دِين الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى لأنبيائه، وأمَر به عباده، وورَّثه لذرية الصالحين فيهم بقوله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الطور: 21]، ويكفي هذه الكوكبةَ مِن الصالحين شرفًا وفضلًا وذِكرًا طيبًا أن يكون منهم خاتمُ النبيين، وسيد ولد آدم عليه السلام، محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو من ذرية إسماعيل، وحفدةِ إبراهيم، عليهم جميعًا أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
ثم عقَّب الوحي الكريم مبينًا أن ما تفضل الله به على إبراهيم وذريته، آباءً وذرية وإخوانًا، من النبوة والرسالة وخيرية العالَمين والهداية إلى الصراط المستقيم، هو فضلٌ مِن الله وحده، يختص به من يشاء من عباده، ولا اعتراض لمخلوق عليه، فقال عز وجل:
﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [الأنعام: 88]، ولفظ: ﴿ ذَلِكَ ﴾ إشارة إلى الدِّين الذي بعث به الأنبياء والرسل عليهم السلام، ﴿ هُدَى اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 88] هو هداية النبوة التي آثرهم الله بها، وكلَّفهم برسالتها؛ توحيدًا خالصًا، وتصورًا إيمانيًّا واضحًا، وأنزل عليهم كتبها؛ صحفًا لإبراهيم، وزَبورًا لداود، وتوراةً لموسى، وإنجيلًا لعيسى، وقرآنًا لمحمد، عليهم الصلاة والسلام، ﴿ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [الأنعام: 88] مَن أراد الله به خيرًا هداه بهُدَى النبوة فأسلم وجهه لله عز وجل، وواصل سعيه رشدًا ومجاهدة؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، مشيئة الله تعالى هي ضابط الاختيار والاصطفاء والاجتباء والتثبيت في الأمر كله.
إلا أن هذا الفضلَ العظيم الذي حبا الله الأنبياء به، إذ آثرهم برفيع الدرجات حكمةً وكتابًا ونبوة، لا يُعْفيهم من المساءلة الدقيقة والمحاسبة العادلة يوم القيامة، ولو فرض أن أحدهم أو كلهم وقعوا في الشرك ظاهرًا أو خفيًّا، لبطَل أجرُ أعمالهم في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى عقب ذلك:
﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 88]، وحبوطُ العمل في هذه الآية الكريم يعني بطلانَه وذهابَ خيره ونفعه وأجره، مع المحاسبة على الشرك المرتكَب فيه؛ كما قال تعالى:﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ * وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾ [الأعراف: 6 - 8].
و"لو" في هذا السياق حرف امتناع لامتناع؛ أي: لو أشرك الأنبياء، وشركُهم ممتنعٌ، لحبِطَتْ أعمالهم، وحبوطها ممتنع أيضًا؛ لامتناع الشرط الذي هو الشرك، أما التحذير منه، وإن كان موجهًا لفظًا إلى الأنبياء والرسل ولا يحصل منهم، فإنما هو لغيرهم تشديدُ تحذيرٍ من الوقوع في صريحه؛ اعتقادًا أو عملًا، ومِن ارتكابِ خفيِّه؛ جهلًا أو تلبيسًا، أو غفلة أو استدراجًا، أو غرورَ عبادةٍ، واغترار اعتقادٍ، كما هو حال بعض الجهلة والمتصوِّفة والباطنية وغلاة الطوائف؛ لأن الشرك ظلم عظيم، ووقاحة وعدوان لا يُقبَل معه عمل، ومآل المتلبِّس به النار، ولأنه تعالى غنيٌّ عن العالمين جنًّا وإنسًا وملائكة وأنبياءَ ورسلًا، وعن جميع ما نعلم وما لا نعلم وما لا يحيط بعلمه إلا هو سبحانه، قال عز وجل: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ [الزمر: 7].
ثم عاد الوحي الكريم لذكر ما ميَّز به الحق سبحانه أنبياءه عليهم السلام، فقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ﴾ [الأنعام: 89]، ولفظ: ﴿ أُولَئِكَ ﴾ إشارة إلى الأنبياء الثمانية عشر المذكورين، وغيرهم من الأنبياء في آبائهم وإخوانهم وذرياتهم، وقد آتى الله بعضَهم الوحي مكتوبًا، كما في صحف إبراهيم، وزَبُور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وقرآن محمد عليهم أَوْفَى الصلاة وأزكى السلام، وأرسل بعضهم مبشِّرين بكتب نزلت على غيرهم، مثل سليمان وأيوب ويوسف عليهم السلام.
كما آتاهم جميعًا الحُكم بمعناه الواسع، الذي هو الحكمة والفهم والحدس والمعرفة بمآلات الأقوال والأعمال، وإصابة النظر وصائب الرأي، والفصل في المشتبهات والمختلفات والمتضادات، وحسن الرعاية لِما يعترضهم من قضايا أنفسهم وغيرهم، ولما يُكلَّفون به من تبليغ رسالة ربهم عقيدة وشريعة، كما جمع لبعضهم ذلك مع الحكم بمعنى السلطة والقضاء، مثل: داود وسليمان في الأرض المقدسة، ويوسف في مصر، وموسى بعد خروج بني إسرائيل إلى سيناء، واصطفاهم قبل ذلك للنبوة؛ تبليغًا للدِّين، وعملًا به، وقدوة فيه.
وعقَّب الوحي الكريم مبينًا أنه تعالى غنيٌّ عنهم جميعًا، لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم، فقال عز وجل: ﴿ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ [الأنعام: 89]، ولفظ: ﴿ هَؤُلَاءِ ﴾ في الآية الكريمة إشارة إلى كل مَن بلغته دعوة الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وسائر العهود بعده، مسلمًا كان أو كافرًا، إن يكفروا يُقيِّضِ الله لدينه خيرًا منهم؛ إيمانًا وولاءً ونصرة، كما في قوله عز وجل: ﴿ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38]، وقوله تعالى: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ [الزمر: 7].
ويمضي السياقُ القرآني بالتفات كريم خطابًا للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين إلى يوم الدين بقوله تعالى:
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾ [الأنعام: 90]، أولئك الأنبياء والرسل عليهم السلام هم الذين هداهم الله إلى التوحيد الخالص والتصور الإيماني السليم والصراط المستقيم والأخلاق الرفيعة والسلوك الرَّضيِّ، ﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]، والهُدَى في هذه الآية الكريمة ما كان عليه الأنبياءُ عليهم السلام مِن الدِّين والسجايا الطيبة والنُّبل والفضيلة، أما قوله عقب ذلك: ﴿ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90] فهو أمرٌ منه عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بمن سبقه من الأنبياء والرسل عليهم السلام؛ أي: فكن يا محمدُ مثلهم، واتَّصِفْ بصفاتهم، مِن فعل "اقتدى" إذا فعل المرء مثل فعل غيره تأسيًا، يقال: فلان قدوةٌ في العمل أو الرأي أو السَّمت؛ أي: يُقتدَى به في ذلك، والهاء من ﴿ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90] حرفُ سَكْتٍ، اتفق القراء على إثباتها سَاكِنةً في الوقف، واختلفت قراءتُهم لها في غير الوقف.
أما اقتداء الرسول صلى الله عليه وسلم بالأنبياء قَبلَه فلا يكون في الشريعة؛ لأن أمرها محسومٌ بالقرآن الكريم المهيمِن على ما سبقه من الكتب والشرائع؛ إذ قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]، وليس للمسلمين في ذلك إلا شريعةُ الإسلام التي بلَّغها نبيُّهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأناط بهم العمل بها، وحمايتها من التحريف بالابتداع أو الكتمان، أو الزيادة والنقصان، ولهم بها سعادة الدنيا؛ توفيقًا وسَدادًا في النفس والأهل والولد، وسعادة الآخرة جنة ورضوانًا: ﴿ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 15].
كما لا يُقتدَى بهم في العقيدة؛ لأن العقيدةَ إيمان يبثُّه تعالى في قلب مَن يشاء مِن عباده، ولا تستقيم بمجرد التقليد، والأنبياء جميعًا يتلقَّوْنها وحيًا من الله تعالى، فلم يَبْقَ إلا أن يكون الاقتداء خاصًّا بأن يستجمع الرسولُ صلى الله عليه وسلم أحسنَ الصفات والسجايا والخصال الحميدة، التي تحلَّى بها كل نبي منهم، مع ما كانوا عليه من إخلاص التوحيد والصدق والأمانة والتبليغ والفطانة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحرص على بقاء العقيدة صافيةً ناصعة لا لَبْسَ فيها ولا خلط ولا غموض، لا سيما وهو صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ومبعوثٌ إلى العالَمين، والأمة الإسلامية خاتمة الأمم المسلمة على الأرض، وغيره من الأنبياء مبعوثون إلى أقوامهم يعالج كل منهم أدواء قومه بما يناسبهم، وصفاتُه وسيرته العطرة صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسيرة الصحيحة تشهد بأنه جمع حقًّا ما تحلى به الأنبياء قبله من الفضل؛ فقد تميز بصفات إبراهيم عليه السلام في الأناة والحِلم والعقل الثاقب وقوة الحجة والإصرار على إبطال الباطل، وصفات داود وسليمان في القوة والعدل والشكر، وصفات أيوب ويوسف من الصبر والاحتساب، وصفات موسى وهارون في الثبات على الحق ومقارعة الطواغيت، وصفات إسماعيل في الصدق والإنابة والبر والطاعة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102]، وصفات زكرياء ويحيى وعيسى وإلياس في الحِلم والزهد والصبر، وصفات يونس إذ التقمه الحوت فكان من المسبِّحين المتضرعين، وقال عنه عز وجل: ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الصافات: 143، 144].
إن كلَّ هذا الفضل والمنزلة والسعادة التي ساقها الله تعالى للمسلمين بواسطة الرسولِ الكريم سيد ولد آدم عليه السلام[[5]]، وقد جمع أحسن خصال الأنبياء قبله، مع ما لاقاه من المِحَن والشدائد في تبليغهم الإسلام وتحريضهم على التمسك به وتربيتهم عليه - لم يكُنْ منه صلى الله عليه وسلم إلا طاعةً لله تعالى وإخلاصًا، لا يريد به شكرًا من قومه، أو عزًّا فيهم، أو ذِكرًا بينهم ومكانة؛ لذلك أمره الحق سبحانه بأن يبيِّنَ لهم زهده فيهم وفيما عندهم بقوله عز وجل:
﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [الأنعام: 90]؛ أي: قل لهم يا محمد: إني لا أنتظر منكم مقابلًا ماديًّا أو معنويًّا على تبليغي إياكم القرآنَ الكريم، وما فيه من أحكام العقيدة والشريعة والبِشارة والنِّذارة والهداية إلى طريق الجنة؛ لأني قمت بذلك طاعةً لله تعالى وحده، لا أريد منكم جزاءً ولا شكورًا، ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 90]، إن ما أبلَغْتُه إليكم ليس تجارةً مما تعهدون، أو مقايضة مما أَلِفْتم، ولكنه رسالة الله تعالى إلى العالَمين؛ إنسًا وجِنًّا، جيلًا بعد جيل إلى قيام الساعة، به يتذكَّر الغافلون، ويهتدي الضالون، ويرقَى مراقيَ الإحسان المؤمنون، وتقام به الحجة على الناس يوم الدِّين.
إن إيرادَ تجارِبِ ثمانية عشر من الأنبياء والمرسلين في نقطة الارتكاز والثقل من وسط هذه السورة الكريمة، وعرضَ سِيَرِهم فيها موجزةً تلافيًا للتطويل والاستطراد، ومفصلةً متفرقة في سياقات سور أخرى - لم يكن للتسلية والتسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كما ذهب إليه بعض المفسرين، ولكنه كان جزءًا من منهجٍ رباني للتأسيس والتشييد والترشيد في أمة رائدة، ولتنشئة بُنَاتِهَا من الجيل القرآني الأول، الذي أظهر الله به الدِّين بقيادة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، واستمر زخم اندفاعه قرونًا اكتسح فيها مشارق الأرض ومغاربها، منهجٍ تتكامل به التربية، وترشُدُ به العقول، وتعلو به الهمم، وتتعمق به العبرة والعِظة والخبرة، كما بيَّن ذلك العليمُ الحكيم بقوله في الفترة المكية نفسها:
♦ ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].
♦ وقوله تعالى: ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176].
♦ وقوله عز وجل: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾ [النازعات: 17 - 26].
هذا هو المنهجُ الرباني الذي ضمَّ تجرِبة جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام، في دعوتهم للإسلام والإعداد لها وترشيد رجالها، وصبرهم على أعبائها وبلائها ومشاقِّها، ومواجهتهم لأصناف كيد الكائدين ومكر الماكرين وعدوان المعتدين والمتربِّصين، وهو ما تُبْنى به كذلك الأجيال الناهضة في كل عصر لإقامة أمر الإسلام، مهما تباعد الزمان، واختلفت الشعوب والأوطان، وتباينت الأعراق والألسن والألوان، وتضاربت النوايا والأهداف والمصالح والأوضاع.
[1] لم يرِدِ اسم له في القرآن الكريم، أما في التراث الديني وعند بعض المؤرخين المسلمين ومفسري القرآن الكريم فيطلقون عليه اسم "النمرود"، وكان من ملوك الكلدانيين في العراق، ذكر القرآن الكريم أنه كان ظالمًا كافرًا ادعى الربوبية، فحاجَّه إبراهيم عليه السلام في الله وأفحمه؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].
[2] ذكر ابن عباس في تفسيره أن مِن أصوله كذلك: شيثًا وإدريس ونوحًا وهودًا وصالحًا.
[3] يؤخذ فقهًا من نسبة الوحي عيسى ابن مريم - وليس له أب - إلى إبراهيم عليه السلام، أن ولَدَ بنتِ الرَّجلِ يُعَدُّ من ذريته؛ لأن مريم عليها السلام من نسل إبراهيم، كما أن الحسن والحسين رضي الله عنهما من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهما من بنته فاطمة وزوجها الإمام علي رضي الله عنهم جميعًا، قال صلى الله عليه وسلم: ((ابناي هذان: الحسن والحسين، سيدَا شباب أهل الجنة، وأبوهما خيرٌ منهما)).
[4] أُخِذ من هذه الآية الكريمة فقهًا: أن لوطًا من ذرية إبراهيم مع أنه ابن أخيه؛ تغليبًا لاعتبار ابن الأخ ابنًا ومن الذرية، كما هي عادة العرب، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: ((يا عمرُ، أما شعرتَ أنَّ عمَّ الرجلِ صِنوُ أبيه)).
[5] قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشقُّ عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفَّع))، وقال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما مِن نبي يومئذ - آدم فمن سواه - إلا تحت لوائي، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر)).