علي الطنطاوي.. أثره في إرساء قواعد "الوسطية الأدبية"
عبدالعظيم بدران
(3)
الطنطاوي وأدب الحداثة:
إذا كانت الحداثة للتجديد والإحياء فهذا ما يرحب به "علي"، أما إذا اتُّخذت سبيلا لما يسمى حرية وهو في حقيقته فوضى فهذا ما لا يقبله. يقول في "دروس الأدب في بغداد" لدى حديثه عن زيارته لوالد الشاعرة "نازك الملائكة": "وقد نشرت أول العهد بها في الرسالة شعرًا نفيسًا أثار إعجابَنا وتقديرنا، لا هذا الشعر الذي سموه حرًا أو شعر الحداثة، فهل يبقى الحدث حدثا أم يشب ويعقل؟! وسموه حرًا، ومن الحرية ما هو فوضى"!.
وعلى عادته في إجلاء صورته بمهارة التمثيل الأدبي يقول: "فإن رأيت الجند يمشون صفًا واحدًا مرتبًا منظومًا نظم اللآلئ في العقد، فخرج واحدٌ منهم على الصف وعلى نظامه، فمشى على غير مشيتهم، وبسرعة غير سرعتهم.. أليس هو ما يسمونه بشعر التفعيلة، شعرٌ تفعيلاته صحيحة الوزن ولكن لا ارتباط بين أبياته ولا تناسق بينها".
ثم يقرر الحقيقة التي يراها مخالفةً للواقع الذي يتحدث بصدده، فيقول: "وإن الشعر الحق هو الذي يثير الشجون، ويحرك العواطف مع اتساقه في الآذان ومحافظته على الإيقاع".
ثم يجمل ما يريد قوله:
"إن علينا أن نقول الحق ولو على أنفسنا، والحق أن معاني الشعر الغربي –الفرنسي والإنجليزي– أوسع مدى وأكثر عمقًا، وأن ميزة شعرنا في النظم، في الموسيقى الشعرية، تلك الميزة التي يحاول هؤلاء أن يحرمونا منها"[12].
والحق أنه لا يمكننا التسليم بصحة رأي الطنطاوي هذا؛ مع أننا نقر بأن من الشعر الغربي ما هو أوسع مدى وأكثر عمقًا، ولكن لا يمكن إطلاقُ هذه العبارة وتعميمها، والاكتفاء بالنظم والموسيقى الشعرية على أنها ميزات الشعر العربي. فإن من الشعر العربي المنظوم، ذي الموسيقى الشعرية الأصيلة والممتعة في جَرْسها والرائقة في إيقاعها ما هو جيد المعنى، عميق الفكرة، جزل الأسلوب، متين البناء، عالي الجودة.. ومنه ما هو دون ذلك. كما أن الشعر الغربي مبني أيضًا على الموسيقى والإيقاع، وشأنه شأن سائر العلوم الإنسانية يعلو أحيانا ويهبط أخرى.
ولو كان الشعر العربي لا يميزه إلا النظم والموسيقى لما تبوأ امرؤ القيس، وزهير، وحسان، وكعب، والمتنبي، وأبو تمام، والبحتري، وبشار، والبارودي، وشوقي، وغيرهم من حكماء الشعراء وعظمائهم، مكانةً سامقة على مر العصور.
• • • •
وفي حديثه عن أدب الحداثة يكتب الطنطاوي بعنوان: "عندكم نابغون فتشوا عنهم بين الطلاب"، فيقول: "جنِّبوا كتبَ المطالعة هذا الأدبَ الذي تسمونه يومًا بأدب الحداثة، ويومًا بالشعر المنثور، ويومًا بالنثر المشعور، كما قال المازني -رحمه الله- مازحًا ساخرًا لما سألوه عنه، ويومًا بقصيدة النثر، وكل ذلك من مظاهر العجز عن نظم الشعر البليغ".
ثم يمثل حال هؤلاء فيقول: "كالثعلب لما لم يصل إلى عنقود العنب، قال: إنه حامض"!.
ثم يقترح الحل الأمثل فيما يرى، فيقول: "واختاروا لهم مما يقوي ملكتهم العربية؛ لأن العربية والإسلام لا يكادان يفترقان".
ويذكر "علي" أنه حاقت بالعربية نَكَباتٌ، واعترضت طريقَها عقباتٌ ونزلت عليها من نوازل الدهر المعضلات، ولكن ما مر بها يوم هو أشد عليها وأنكى أثرًا فيها من هذا "الأدب المزور" الذي أطلق عليه أدب الحداثة. ويسوق أسباب رفضه لهذا اللون من الكتابة فيقول: "إنه ليس انتقالا من مذهب في الشعر إلى مذهب، ولا من أسلوب إلى أسلوب، ولكنه لون من ألوان الكيد للإسلام، بدأ به أعداؤه لما عجزوا عن مس القرآن؛ لأن الله الذي أنزله هو الذي تعهد بحفظه، فداروا علينا دورة وجاءونا من ورائنا".
ويمثل الطنطاوي فعل هؤلاء بفعل الشيطان؛ يأتي الناس من بين أيديهم وعن أيمانهم ومن وراء ظهورهم. ثم يُجمل غرضهم من ذلك فيقول بأنهم عمَدوا إلى إضعاف الإسلام بإضعاف العربية[13].
(4)
الطنطاوي والأدب الرمزي:
هاجم الطنطاوي الرمزيين بعنف، وعدهم ممن لا يمتلك أدوات البيان والفصاحة، ويريدون في الوقت نفسه أن يحشروا أنفسهم في طائفة الأدباء، فراحوا يتحايلون على ذلك ويقولون ما يشاءون مما لا يسيغه عقلٌ ولا تقره قوانينُ اللغة والبيان. من ذلك ما كتبه بعنوان "أنا والإذاعة"، يقول مُجْملاً: "ومَن عجز عن أن يفكر كما يفكر أبناءُ آدم -عليه السلام- ويتكلم كما يتكلمون، ففكر تفكيرًا غير آدمي وتكلم كلامًا ليس بإنساني فهو شاعر رمزي، وإنَّ في الرمزية متسعًا لجميع الأغبياء والأدعياء إذا شكا القراءُ أنهم لا يفهمون هذا الأدب الرمزي فالقراءُ جاهلون رجعيون جامدون"![14].
ويرحب الطنطاوي بالتجديد مع المحافظة على الثوابت:
فمع أنه هاجم العبث في اللغة، وأعلن تمسكه بجيد التراث؛ فقد رحب مع ذلك بتطور الأساليب والتجديد فيها لكن مع الالتزام بقواعد العربية. فهو يظهر إعجابه بـ(ميخائيل نعيمة) وأسلوبه الجديد، ولكنه لا يرتضي تجاوزاته لقواعد اللغة، يقول الطنطاوي: "وتمنيت لو أن مثله يجيء صحيحا بنفَس عربي فيكون نادرة الأساليب ومفخرة الأدب"[15].
ومع ذلك لم ينحَزْ "علي" لكل ما جاء بالتراث لمجرد أنه قديم، ولكنه -مثلا- مع إعجابه بقصيدة أبي فراس الحمداني[16] "أراك عصيَّ الدمع" يرفض قوله: "إذا مت ظمآناً فلا نزل القطرُ"، يقول الطنطاوي: انظروا كم بين قوله هذا وبين قول المعري[17]:
فلا نزلت عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا
أبو فراس ينحط إلى أدنى دركات الأثرة والأنانية، لا يرتفع درجة فيهتم بأهل ولا ولد، ولا يرتفع درجة أخرى فيهتم ببلد أو وطن، إنه لا يبالي إلا بنفسه، فإذا مات عطشاناً فلينقطع المطر ويحترق الزرع ولتقفر الأرض وليعم القحط وليهلك القريب والبعيد والصديق والعدو، ولا يبقى أحد!.
والمعري يرتفع إلى أعلى درجات الإيثار فلا يرضى أن ينزل المطر عليه ولا على أرضه، لا يرتضي إلا غيثا عامًا يشمل خيره البلاد والعباد"[18].
لكن حكم "الطنطاوي" هنا قد جاء قاسيا على "أبي فراس" حين انتزع شطر بيته هذا من بقية القصيدة التي نظمها، والظروف التي كان يعيشها حينئذ، فقد كان أبو فراس أسيرًا في سجن القسطنطينية، وطال به الأسرُ في قبضة أعدائه، وهو ينتظر افتداء ابن عمه -سيف الدولة أمير حلب حينئذ- له، والأخير ينساه وينشغل عنه، فانطلقت هذه الكلمات آهاتٍ حادة تستصرخ وتنادي بافتدائه.
وإذا أخذنا بالاعتبار أن التعابير الشعرية قد يُقبل فيها من المبالغة ما لا يُقبل في غيرها؛ فإنه يبدو لنا عذر أبي فراس فيما يقول. كما أن الناقد لا يستطيع أن يحكم على سيرة شاعر من شطر بيت قاله، دون النظر إلى عموم أشعاره ومبادئه التي تبناها في مسيرة حياته.
(5)
بعض سخريات الطنطاوي الهادفة:
للطنطاوي كتاب طريف وثري بعنوان "صور وخواطر" ضمنه -في جزء منه- مقالاتٍ نقديةً بأسلوب مبتكر وساخر ومشوق في الوقت نفسه، استطاع من خلاله أن يوصل إلى قارئه ما يريد مع إشاعة روح الفكاهة والمرح في هذا الجو النقدي الأدبي الفريد.
من ذلك مقالته الطريفة "ديوان الأصمعي" التي خلط فيها القدامى بالمعاصرين، وألغى الزمان والمكان، وجاء في مقالته هذه بإشاراتٍ سريعة ولماحة لا يفهمُها إلا من كان ذا خبرة واطلاع على العلوم والآداب، ويعرف الأدباء والعلماء في مختلف العصور[19]، فقد تحدث عن أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والمازني وغيرهم، ومما قاله فيها: "قال الأصمعي[20]: سألت أبا عمرو بن العلاء لم سمي أحمد بالشوقي؟ قال: لقد سألت عن هذا جدي أبا العلاء (يعني المعري) قلت: وهو غير أبي علي المصري. فقال: سمي بذلك لأنه أكثر في شعره من ذكر الشوق. قلت: فلم لقب إبراهيم بالحافظ؟ قال: لكثرة حفظه الحديث!.
قال: وحدثني إبراهيم المازني عن جده أبي عثمان المازني، أنه قال: لقد لقيت من الحفاظ من لا أحصي، فما وجدت مثل الحافظ إبراهيم. قلت: فما بلغ من حفظه؟ قال: إنه كان يحفظ أيام الأسبوع، وشهور السنة، ويعد الخلفاء الراشدين لا يغيب عن ذهنه أحدٌ منهم!.
قال إبراهيم بن عبد القادر المازني: فعجبت من ذلك ورويته في كتابي (قبض الريح في أخبار رواة الصحيح). قال: والمازني لم يكن من بني مازن، ولكنهم ادعوه، وسبب ذلك أنهم سمعوا قصيدته المشهورة:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا[21]
فأعجبهم، فردوا عليه إبله، وأكرهوا بني اللقيطة على تقبيل يده، وسؤاله الدعاء. قلت: وزعم أبو عبيدة أن اللقيطة أمهم. والصحيح أن (اللقيطة) قصة مطبوعة في مصر"[22].
مع توفيق الحكيم:
تعرَّض الطنطاوي بالنقد والتعليق لأعمال الأديب المصري الشهير "توفيق الحكيم"، وقد اختلفت نقداته وتعليقاته حسب المادة الأدبية موضع التعليق.
فعند تعرضه للقصة الشهيرة "عصفور من الشرق" يقول "علي": "الأستاذ توفيق الحكيم من أكبر أدبائنا القصصيين، لا يكاد ينازع في ذلك أحد، ومن أكثر الأدباء إنتاجًا وأخصبهم قريحة، عالج أنواعًا من القصة فوفق فيها، وأتى بالمعجب المطرب، ومن ذلك قصته... عصفور من الشرق... أحسست كأني كنت في جنة سحرية، ثم هبطت إلى الأرض، وتمنيت لو طال نفس الأستاذ فيها حتى ما تنتهي".
ويمدح الطنطاوي منهج القصة ومضمونها، فيقول: "... وهذه ميزة كبيرة للقصة ترتفع فيها إلى صف القصص العالمية، التي لم تنشأ لمجرد اللهو، ولإمتاع القارئ بالجمال الفني، وإنما جمعت إلى الجمال الفني نظرة تحليلية إصلاحية عميقة".
ولكنَّ عليا يسجل بعض مآخذه عليها فيقول: "غير أني أخذت على القصة أشياء: منها ما يتصل بالفن، ومنها ما يمس الدين، ومنها ما يعود إلى اللغة، أسأل عنها الأستاذ الحكيم ليوضح منها ما خفي ويفتح ما استغلق". ويسرد الطنطاوي مآخذه على القصة، ثم يثني على كاتبها فيقول: "هذا وإني أهتبل هذه الفرصة لأرفع إلى الأستاذ الحكيم تحياتي وإكباري"[23].
ويبدو أن الطنطاوي لم ترُقْه بعضُ أعمال "الحكيم"، فوجه إليه نقدًا لاذعًا، ولكن بطريقة ساخرة وفكهة، يقول في كلمة له سماها "ديوان الأصمعي": "قال الأصمعي: وكان حمار هذا من كبار الحكماء، ولكن أهل مصر اطرحوه انتصارًا منهم للقفطي، فلم يذكره إلا رجل من أبناء عمومته يقال له توفيق الحكيم.
قال النووي: وتوفيق الحكيم وضَّاع لا يقبل له حديث، ذهب إلى قرى مصر نائبًا في الأرياف فأهمل عملَه وخان أمانته، وصار يفكر في الرقص والغناء، وهو على كرسي النيابة في المحكمة، والقاضي ينتظر مطالعته، والظنين يرقب ما تنفرج عنه شفتاه، فلما أفاق زعم أن نومه معجزة، وأنه كان مع أهل الكهف.
قلت: وكان يكتب في القهوات وعلى أرصفة الشوارع ويزعم في (الرسالة) أنه يكتب من البرج العاجي"[24]. وتنتقد كلمة الطنطاوي هذه كتابي: "حماري قال لي"، و"يوميات نائب في الأرياف"، كما تعيب على الحكيم بعض سلوكياته، وأسلوبه في الكتابة.
وللموضوع تتمة