
06-10-2020, 05:30 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,065
الدولة :
|
|
رد: تيار الصنعة الشعرية بين الجاهلية والإسلام
وكذلك نجد سويد بن كراع لا يخجل من تثقيف قصائده وتهذيبها مرددًا فيها نظره الحول الكامل، كأنما يصيد سربًا من الوحش[29]:
أَبِيتُ بِأبْوَابِ الْقَوَافِي كَأَنَّمَا
أُكَالِئُهَا حَتَّى أُعَرِّسَ بَعْدَمَا
إِذَا خِفْتُ أَنْ تُرْوَى عَلَيَّ رَدَدْتُهَا
وَجَشَّمَنِي خَوْفُ ابْنِ عَفَّانَ رَدَّهَا
وَقَدْ كَانَ فِي نَفْسِي عَلَيْهَا زِيَادَةً
أُصَادِي بِهَا سِرْبًا مِنَ الْوَحْشِ نُزَّعَا
يَكُونُ سُحَيْرًا أَوْ بُعَيْدَُ فَأَهْجَعَا
وَرَاءَ التَّرَاقِي خَشْيَةَ أَنْ تَطَلَّعَا
فَثَقَّفْتُهَا حَوْلاً جَرِيدًا وَمَرْبَعَا
فَلَمْ أَرَ إِلاَّ أَنْ أُطِيعَ وَأَسْمَعَا
استحسان التنقيح والتهذيب والمراجعة نجده كذلك عند غير واحد من النقاد العرب، فابن طباطبا يقول عن صناعة الشعر: " فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا، وأعدّ له ما يُلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه والوزن الذي يسلس له القول عليه[30] ولا يقنع ابن طباطبا بهذا الإعداد الذي يشمل الشكل والمضمون معًا و إنما ينصح الشاعر بإثبات كل بيت يأتيه دون تنسيق أو ترتيب، حتى يتوقف ما يأتيه من الأبيات، وعندها " يتأمل ما قد أداه إليه طبعه، ونتجته فكرته فيستقصي انتقاده، ويرمُّ ما وهى منه، ويبدل بكل لفظة مستكرهة لفظة سهلة نقية، وإن اتفقت له قافية قد شغلها في معنًى من المعاني، واتفق له معنًى آخر مضاد للمعنى الأول، وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في المعنى الأول نقلها إلى المعنى المختار الذي هو أحسن، وأبطل ذلك البيت، أو نقض بعضه، وطلب لمعناه قافية تشاكله "[31].
ونجد العسكري بعد أن ينصح باستحضار المعاني في الفكر وإخطارها في القلب وتخيُّر الوزن والقافية واللفظ الملائم للمعنى يقول: " فإذا عملت القصيدة، فهذبها ونقحها بإلقاء ما غثَّ من أبياتها ورثَّ ورذل، والاقتصار على ما حسن وفخم، بإبدال حرفٍ منها بآخر أجود منه حتى تستوي أجزاؤها، وتتضارع هواديها وأعجازها "[32].
وإلى مثل ذلك ذهب ابن خلدون بعد حديثه عن كيفية عمل الشعر وإحكام صنعته وشروط ذلك، ومنها حفظ الكثير من أشعار المجودين من الشعراء المتقدمين والرواية عنهم، ثم نسيان ذلك المحفوظ بالجملة، ومحاولة النظم بعد تمام النسيان، مع تحديد قافية شعره، مع تخيُّر الأوقات الملائمة للنظم؛ لأن للشعر أوقات يجيء فيها، ثم " إذا سمح الخاطر بالبيت ولم يناسب الذي عنده، فليتركه إلى موضعه الأليق به فإن كل بيت مستقل بنفسه، ولم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها كما يشاء، وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح والنقد ولا يضنُّ به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة، فإن الإنسان مفتون بشعره؛ إذ هو نبات فكره واختراع قريحته "[33].
وقد ذهب حازم القرطاجني إلى أن الشاعر يحتاج إلى وجود ثلاث قوًى في نفسه ليتمكن من قول الشعر، يقول: " و لا يكمل لشاعر قول على الوجه المختار إلا بأن تكون له قوة حافظة وقوة مائزة وقوة صانعة "[34] وإذا كانت القوة الحافظة مختصة بخيالات الفكر وهي ما يمكن تسميته بالذاكرة الواعية التي تختزن الصور والمعاني حتى يتم استدعاؤها عند قول الشعر في أي غرض، وإذا كانت القوة المائزة مختصة بالتمييز بين ما يلائم النظم وما لا يلائمه وبين ما يصحّ وما لا يصحّ منه، فإن " القوة الصانعة هي التي تتولى العمل في ضمّ بعض أجزاء الألفاظ والمعاني والتركيبات النظمية والمذاهب الأسلوبية إلى بعض، والتدرج من بعضها إلى بعض، وبالجملة التي تتولى جميع ما تلتئم به كليات هذه الصناعة "[35].
ووصف هذه القوة بالصانعة، والشعر بالصناعة دال على أنها تصنع الشعر، وهي تقوم بهذه الصناعة بعد أن يمر الشعر بمرحلتين: الأولى مرحلة الحفظ والاستظهار لما في الذاكرة الواعية من مخزون فكري وخيالي، والثانية: مرحلة التأليف بين أجزاء هذا المخزون، وهو تأليف مصحوب بعملية التمييز التي تقوم بها القوة المائزة، ثم مرحلة التصنيع التي تقوم بها القوة الصانعة.
ويخلص البحث مما سبق إلى أن الصنعة قد كانت تيارًا شعريا أو اتجاهًا فنيا في نظم الشعر لم ينكره من ذمه واستهجنه، وأكده من استحسنه من النقاد، ويبدو أنه قد كان حقيقة واقعة أمام الطرفين كليهما؛ ولذلك راح كل منهم يضع أمام الشعراء بعضًا من الصفات التي ينبغي وجودها في النص؛ بغية الوصول به إلى الجودة التي يصبو إليها الشاعر، وينتظرها منه الناقد والقارئ على حد سواء ومن ثمة قال قدامة: " ولما كانت للشعر صناعة، وكان الغرض في كل صناعة إجراء ما يُصنع ويُعمل بها على غاية التجويد والكمال.. كان الشعر أيضًا إذ كان جاريًا على سبيل سائر الصناعات مقصودًا فيه وفي ما يُحاك ويؤلف منه إلى غاية التجويد، فكان العاجز عن هذه الغاية من الشعراء إنما هو من ضعفت صناعته " [36]؛ ولذلك فقد راح قدامة يضع أمام الشاعر أهم النعوت التي يجب توافرها صنعته؛ حتى يصل إلى مرحلة الجودة التي يأملها، ولهذه الجودة عنده أربعة محاور هي: ائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف اللفظ مع الوزن، وائتلاف المعنى مع الوزن، ثم ائتلاف الوزن مع القافية[37].
وشرع قدامة في وضع النعوت التي يقوم بها كل محور من هذه المحاور، وأولها نعوت اللفظ وهي: " أن يكون سمحًا سهل مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة مع الخلوِّ من البشاعة "[38] ويدل قوله: سهل مخارج الحروف من مواضعها على عنايته بالأصوات التي تتألف منها الكلمة، وحتى تكون الكلمة فصيحة لابد " أن يكون تأليف تلك اللفظة من حروفٍ متباعدة المخارج...وعلة هذا واضحة، وهي أن الحروف التي هي أصوات تجري من السمع مجرى الألوان من البصر، ولا شك أن الألوان المتباينة إذا جُمعت، كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة؛ ولهذا كان البياض مع السواد أحسن منه مع الصفرة؛ لقرب ما بينه وبين الأصفر، وبُعدِ ما بينه وبين الأسود "[39] ولم يقصر ابن سنان الخفاجي حسن اللفظة وفصاحتها على تباعد مخارج حروفها وحده، وإنما يضيف إليه ما " يقع في التأليف ويعرض في المزاج كما يتفق في بعض النقوش "[40].
وأمر العناية بالأصوات وحسن تأليفها، ودور ذلك في فصاحة الكلمة نجده عند الفخر الرازي الذي يربط بين فصاحة الكلمة ومخارج الحروف، وهو ينقل كلام الرماني عن مخارج الحروف، وما يحسُن اجتماعه منها، وما يقبح تجاوره بسبب موضعية المخارج وطبيعة الأصوات، ثم يعلق الفخر الرازي على ذلك بقوله: " وهذه الاعتبارات لابد من مراعاتها ليكون الكلام سلسًا علّ الأسلات عذبًا على العذبات وهي كالشرط للفصاحة والبلاغة "[41].
ويربط الجاحظ بين اللفظة والمعنى الذي تؤديه، بحيث تكون بينهما آصرة قوية؛ إذ لابد للفظ من مشاكلة المعنى والإعراب عن الفحوى، والبعد عن سماجة الاستكراه، وفساد التكلف بقوله: "ومتى كان اللفظ أيضًا كريمًا في نفسه متخيرًا من جنسه وكان سليمًا من الفضول بريئًا من التعقيد حُبِّبَ إلى النفوس واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول "[42]، ولعل سلامة اللفظ من الفضول قد كان دافعًا حدا بابن قتيبة أن يعيب بيت الأعشى الذي يقول فيه:
وَقَدْ غَدَوْتُ إِلَى الْحَانُوتِ يَتْبَعُنِي
شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشَلٌ شَوِلُ
يقول ابن قتيبة:" وهذه الألفاظ الأربعة في معنًى واحد، وكان قد يستغني بأحدها عن جميعها "[43] وإن كان النقد الحديث لا يرى في البيت عيبًا إذ نظر إلى القيمة الإيحائية للأصوات، فالأعشى " قد نجح بأصوات الشين الستة - صوت التفشي - أن يحكي مشية تابعه المنطلقة المتراقصة، وكأنه يصطنع السُّكْر ويتكلف النشوة قبل وقوعها " [44]، ونظر البعض إلى مراد الشاعر، وأن البيت " ليس فيه إسفاف، وأيُّ إسفاف في أن يتفكه الشاعر، ويكون في شعره مداعبًا فالأعشى لم يقصد بهذا البيت إلا مجرد التفكُّه والدعابة "[45].
وذمّ يحيى بن حمزة العلوي في كتاب الطراز تكرار الحروف وتقارب مخارجها لما له من ثقل على النفس، ونزول عن الفصاحة، وعيب في البلاغة، وهو يعلق على هذا البيت:
وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَان قَفْرٍ
وَلَيْسَ قُرْبُ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ
بقوله: " فهذه القافات والراءات من الأحرف قد تكررت، وتقاربت، فأكسبت الكلام ثقلاً وركة تبعد به عن الفصاحة، وتنأى لأجله عن البلاغة "[46] وربما كانت القافات والراءات المتكررة في البيت ذات دلالة على الحالة النفسية والسياقية التي يحكيها البيت الدال على موقف ندبة وبكاء يستدعي تكرار الكلمات والأصوات.
وفي التراث النقدي العربي يجد الباحث عدد من النعوت الخاصة بفصاحة اللفظة يضعها النقاد بين يديْ مَن يريد حسن النظم وفصاحة الكلم، وهذه النعوت هي: العذوبة والجزالة والسهولة والرصانة مع السلاسة والنصاعة والرونق والطلاوة[47] واجتماع هذه النعوت في اللفظة يدل على جودة اللفظة وعربيتها، وفصاحتها، وإلى ما لها من أثر في المتلقي مهما كان المعنى الذي تؤديه دونها في الجودة؛ لأن " المعاني موجودة في طباع الناس، يستوي الجاهل فيها والحاذق، ولكن العمل على جودة الألفاظ، وحُسن السبك، وصحة التأليف "[48] الذي ينقضه ما يوجد في الكلام من الوحشي الغريب - كما ذهب ابن سنان -؛ ولذلك قال الجاحظ: " وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميًّا وساقطًا سوقيًّا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبًا وحشيًّا، إلا أن يكون المتكلم بدويًّا أعرابيًّا "[49] وما وصف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لزهير بأنه " لا يُعاظل بين الكلام، ولا يتتبع وحشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه "[50] سوى صورة من صور الإقبال على اللفظ القريب، والنفور من اللفظ الغريب البعيد، فالمعاظلة بين الكلام تشير إلى ما فيه من تعقيد وموالاة بعضه فوق بعض حتى يتعقد ويغمض والوحشيّ أو الحوشيّ من الكلام هو الغريب.
وأما الوزن، وهو العنصر الثاني الذي تقوم عليه صناعة الشعر فقد وجدنا قدامة يلفت الشعراء إلى الصورة المقبولة التي تكون عليها أوزانهم، وهي أن تكون سهلة العروض مشتملة على الترصيع وهو " أن يتوخى فيه تصيير مقاطع الأجزاء في البيت على سجعٍ، أو شبيه به أو من جنسٍ واحد في التصريف "[51] وقد سبق قول ابن طباطبا العلوي لمن رام صناعة الشعر، وهمَّ بعمل قصيدة أن عليه أولاً إحضار المعنى في الفكر، ثم نثره بتخير الألفاظ التي تطابقه والقوافي التي توافقه، ثم عليه أن يتخير "الوزن الذي يسلس له القول عليه"[52].
وتخير الوزن يقتضي المعرفة التامة به وباستخداماته وبكل الأحوال التي يكون عليها من الزحافات والعلل، ومعرفة القوافي وأحوالها، وكل ذلك يعني أن التعرف على الأوزان إنما هو صورة من صور الصنعة الشعرية التي قد يكون صاحبها متكلفًا أو غير متكلف، ولقد ذكر ابن رشيق القيرواني الوزن وأهميته ومكانته في صنعة الشعر، والزحافات والعلل، وكل ما يتعلق به، ثم ختم كلامه هذا بقوله: " وقد ذكرت ما يليق ذكره بهذا الموضع؛ ليعرفه المتكلم إن شاء غير متكلفٍ به شعرًا، إلا ما ساعده عليه الطبع، وصحّ له فيه الذوق "[53].
وتسلمنا إشارة قدامة إلى أهمية اشتمال الوزن على الترصيع، إلى دور البديع باعتباره بابًا من أبواب البلاغة في صناعة الشعر، وقد ارتبط البديع بقضية الطبع والتكلف ارتباطًا شديدًا، خاصة في حالة الإكثار منه ومن محسناته بحيث عُدّ الإكثار منه دليلاً على التكلف والتعمل، وخاصة في عصور الضعف الأدبي، حيث صار البديع غاية يلهث وراءها ضعاف القريحة من الشعراء، برغم أنه وسيلة من وسائل تحسين الصياغة الشعرية؛ ولأنه وسيلة للتجويد والتحسين، " فإنها تظل مقبولة ما دامت لم تتحول إلى غاية، فإذا تحولت، فإن التصنع والتكلف حينئذ هو الذي يملي لا الطبع، ومن ثم يفتقد الجمال الطبيعي ليحل الجمال المصنوع، مما لا يدني النفوس نحوه، ولا القلوب إليه "[54].
كما ارتبط درس البديع ومحسناته وأنواعها بالبحث في مسائل الإعجاز القرآني، وخاصة السجع الذي انقسم العلماء والمتكلمون حوله ما بين مؤيد لاشتمال القرآن الكريم عليه، وبين معارض ينفي وجوده في القرآن؛ رغبة في تنزيه آياته الكريمة من أن تشابه كلام البشر [55]، وفريق ثالث توسط بين هؤلاء وأولئك، وذهب إلى التفرقة بين المتكلف وغير المتكلف من السجع الذي يكون مذمومًا متكلفًا إذا تبع المعنى فيه اللفظ، أما أن يتبع اللفظ فيه المعنى، أو أن يكون المعنى هو الذي يستدعيه، فذلك غير المتكلف، وهو ما وجد في القرآن الكريم، ولقد قال الإمام عبد القاهر الجرجاني عن البديع عامة والسجع والتجنيس بصفة خاصة: " وعلى الجملة فإنك لا تجد تجنيسًا مقبولاً و لا سجعًا حسنًا حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساقه نحوه "[56] وغير المقبول أو المستحسن من السجع أو التجنيس ما كان غير ذلك.
أما من حيث الخيال الشعري والتصوير الفني والمجاز، فقد وجدنا النقاد القدامى يلتفتون إلى أهميتها من النص الشعري ومكانتها التي بدت مع قولة الجاحظ وهو يفرق بين اللفظ والمعنى: " إنما الشعر صناعة وضرب من الصبغ وجنس من التصوير "[57] وهي مكانة تدل على أهمية التصوير في نقل المعنى والعاطفة إلى المتلقي، وقد عرف النقاد العرب الخيال، ودرسوه " في أبواب المجاز المرسل والتشبيه والاستعارة المبنية عليه، والكناية، وجميعها مبنية على تداعي المعاني "[58] ورأوا أن الكلام المتكئ على الخيال ذو روعة وتأثير في النفوس من نظيره المتكئ على الحقيقة، وقد قال ابن رشيق القيرواني عن المجاز: " والمجاز في كثير من الكلام أبلغ من الحقيقة وأحسن موقعًا في القلوب والأسماع " [59]، وانحصرت دراستهم للمجاز والخيال " في أبواب الاستعارة والتشبيه والكناية والمجاز المرسل "[60].
وللموضوع تتمة
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|