بهذا وصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عبدالله بن عبده نعمان العواضي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾[آل عمران:102]،﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾[النساء:1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾[الأحزاب:71-72].
أما بعد: فإن أصدق القول كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى قد أنعم على آخر أمة أخرجت للناس بإرساله لها خيرَ أنبيائه، وسيد رسله وأصفيائه، محمدِ بن عبد الله الصادق الأمين. الذي جاءها على فترة من الرسل، وانقطاع من السبل، فهدى من الضلالة، وعلَّم من الجهالة، وبصّر من العمى، ودعا إلى الحق المبين.
قال تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾[آل عمران:164].
فجاء نبينا محمد صلى الله عليه وآله سلم من عند الله تعالى بالقرآن العظيم نوراً يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم.
ولما كان نبينا - عليه الصلاة والسلام - هو المبلغَ عن الله تعالى رسالته فقد عصمه الله تعالى من ضلال القول والعمل؛ فكان أسوة لأمته في أقواله، وأعماله، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾[الأحزاب:21].
عباد الله، لقد هيأ الله تعالى لسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، رجالاً صادقين، وصلحاء موثوقين، وحفاظًا مأمونين، نقلوا إليها أقوال نبيه صلى الله عليه وسلم، وأفعاله غضة طرية، مصونةً عن الزيادة والنقصان، والاختلاق والبهتان؛ لتكون تشريعًا مع القرآن الكريم لمن جاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة؛ ليقول المسلم المتأخر كما قال رسول الله، ويفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان الأمر كذلك أمر اللهُ تعالى باتباع رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، وطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، والانكفاف عما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع.
وفي كتاب الله تعالى آيات كثيرة تأمر بهذا، فمنها قوله تعالى: ﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر:7]. وقال: (﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[آل عمران:31]. وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾[النساء:59].
أيها المسلمون، إن الله تعالى قد جعل سنة رسوله عليه الصلاة والسلام مع القرآن الكريم مصدراً للتشريع، فهي شارحة للقرآن، ومفصلة لمجمله، ومبينة لمبهمه، ودالة على مقاصده، وآتية بأحكام أخرى لم تكن فيه نصًا؛ لأنها وحي من عند الله تعالى كذلك، قال عز وجل: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم:3-4].
وعن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)[2].
عباد الله، المطَّلِع على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد فيها إرشاداً متنوعًا للأمة إلى طريق الهدى بما فيها من الأوامر والنواهي التي هي الدين الذي كُلِّف به الجن والإنس.
فمن ذلك الإرشاد النبوي الوضّاء: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوصايا التي وصّى بها ابتداء، أو استُوصِي بها فنطق بها جوابًا.
والوصية بالخير وجه من وجوه الإرشاد الذي جاء في القرآن الكريم في آيات عديدة، قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾[العنكبوت:8]، وقال: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ﴾[النساء:11]، وقال: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾[الأنعام:151].
وقد حكى القرآن الكريم عن خليل الله إبراهيم، وحفيد إبراهيم: يعقوب عليهما السلام أنهما سلكا طريق الوصية في إرشاد أولادهم، فقال تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة:132].
أيها الأحبة الكرام، لقد زخرت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصايا نبوية كثيرة في جوانب متعددة من الدين، وسنشنِّف آذاننا-بعون الله تعالى في هذه اللحظات-، ونداوي قلوبنا بشيء من تلك الوصايا الواعظات، حاثين أنفسنا على العمل بتلك الوصايا المضيئة، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
فما أجملَ أن نسمع هذه الوصايا بآذان مصغية، وتصل منا إلى قلوب واعية، فهي ذكرى لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
فمن تلك الوصايا الثمينة: ما جاء عن سفير الهداية إلى اليمن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه أراد سفراً فقال: (يا نبي الله، أوصني، قال: اعبد الله لا تشرك به شيئًا، قال: يا نبي الله، زدني، قال: إذا أسأت فأحسن، قال: يا نبي الله، زدني، قال: استقم، وليحسن خلقك)[3].
فقد تضمنت هذه الوصية النبوية الجامعة: الأمر بعبادة الله تعالى وحده، وعدم الإشراك به، والوصية بهذا هو ما بعث الله تعالى به رسله عليهم السلام؛ لأن ذلك هو حبل النجاة من الشقاء في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾[النحل:36]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة)[4].
والوصية الثانية في الحديث: الأمر بالتوبة عقب عمل المعصية حيث قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أسأت فأحسن)؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات، ولأن المسارعة إلى التوبة عند حصول الذنب تدل على الندم، وبقاء الخير في قلب صاحبه، ولأن أجل الإنسان بيد الله تعالى لا يعلم به صاحبه، فربما وافاه قبل أن يتوب من خطيئته؛ فلذلك أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرعة المبادرة إلى التوبة؛ لأن التسويف، وطول الأمل ينسي الآخرة.
قال علي رضي الله عنه: " إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الأمل فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة.
والوصية الثالثة في الحديث: فهي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة، وهي كقول الله تعالى: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾[هود:112].
وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل: آمنت بالله فاستقم)[5].
والاستقامة معناها: لزوم طريق الحق، وترك الانحراف عنه إلى غيره، وهي طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾[الأنعام:153].
والوصية الرابعة في الحديث: أمره صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق، الذي يراد به: بذل المعروف من قول أو فعل أو حال، وأداء الحق لذي الحق، وكف الأذى عن الورى.
وما أحوجَ الإنسان -خصوصًا المسافر- إلى التمسك بحسن الخلق في سفره ليدفع عنه المكروهات، ويحصد منه كثرة الحسنات؛ طاعةً لله تعالى، ويكون ذلك من أسباب دخول الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله، وحسن الخلق)[6].
إن هذه الوصية التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيبه معاذاً رضي الله عنه عند سفره هي كوصيته لأبي ذر رضي الله عنه حيث جاء عنه رضي الله عنه أنه قال: قلت: -يا رسول الله- أوصني، قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحها، وخالقِ الناس بخلق حسن)[7].
أيها الإخوة الأفاضل، ومن وصايا رسولنا صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه أيضًا: أن معاذاً رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أوصني، قال: ( اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، وإن شئت أنبأتك بما هو أملك بك من هذا كله قال: هذا) وأشار بيده إلى لسانه.[8].
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه بمراقبة الله عز وجل؛ لأن مراقبة الله تعالى في السر والعلن تحرس صاحبها من ركوب المعصية، أو التقصير في الطاعة، ومن كان مراقبًا لله جل وعلا في خلوته وجلوته صلح له شأنه في دنياه وآخرته.
كما أوصاه-عليه الصلاة والسلام- بالاستعداد للموت؛ لأن من كان مستعداً للموت في كل وقت ذهبت عنه سِنَة الغفلة، وأخذ لما بعد الموت الأُهبة، فجهّز زاد النجاة، وملأ حقائب سفره بما ينفعه عند لقاء ربه، وتخلّص من مظالم الخلق وحقوقهم، وظل مشغولَ البال بالرحيل، فإذا ناداه منادي الرحيل أجابه فرحًا مشتاقًا، غيرَ فزِعٍ ولا مشعوف، ولا آبق ولا حزين، وقال: مرحبًا بحبيب جاء على موعد.
وكذلك وصَّاه –عليه الصلاة والسلام- بحفظ اللسان عما لا يجوز التفوه به؛ لأن اللسان إذا لم يستقم صار بوابة إلى النار؛ فكم من الذنوب اللسانية التي أوردت صاحبها موارد الهلكة، أما إذا استقام اللسان فإنه يكون بوابة إلى الجنة؛ فكم من الأعمال الصالحة اللسانية التي صيّرت أهلها في الدرجات العلى، بعد أن نالوا رضوان الله تعالى في الدنيا.
يتبع