
12-10-2020, 06:10 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,490
الدولة :
|
|
اللغة عند الإمام الشافعي ممثلة للغة الأصوليين
اللغة عند الإمام الشافعي ممثلة للغة الأصوليين (1/ 2)
د. حسنة عبدالحكيم عبدالله الزهار

لان الشافعي هو واضعُ أصول الفقه - فلسفة الفكر الإسلامي وعموده الفقري - فإن الشافعي يُعد رائدًا في مجاله، ومؤسِّسًا لخطواته ومنهجه، ومؤصِّلاً لأسُسه وفروعه.
وتعد كتبُه أوَّل المؤلفات في هذا العلم، بل هي أوَّل المؤلفات المُنَظَّمة منهجيًّا، وكان الناس قبله يَجتهدون ويستنبطون، ولم يكن لهم قانونٌ كُلِّيٌّ، ولا نظام ثابت يعتمدون عليه ويحتكمون إليه، حتى جاء الشافعي فوضع "الرسالة" وأصَّل فيها الأصول وقعَّد القواعد، فاجتمع الناس عليها[1].
والبحث الذي بين أيدينا سوف نتناول فيه ملامحَ من فكر الإمام الشافعي اللُّغوي من خلال:
الفصل الأول: مفهوم اللغة عند الشافعي، ويضم:
أ - خصائص اللغة عند الشافعي.
ب - الدلالة عند الشافعي.
ج - أنواع الدلالة (دلالة المفرد - دلالة التركيب).
الفصل الثاني: طريقة الشافعي في معالجة بعض القضايا الدلاليَّة:
أ - المشترك اللفظي.
ب - الأضداد.
ج - الترادف.
د - المجاز.
هـ - تحديد المصطلح.
الفصل الأول
مفهوم اللغة عند الشافعي
نبدأ باللغة عند الشافعي باعتباره رائدَ الأصوليِّين على الطريق، وكتبُ الشافعي أجمعُ كتب أدبٍ ولغة وثقافة قبل أن تكون كتبَ فقهٍ وأصول[2].
وفكرة الشافعي عن اللغة مرتبطةٌ بفكرته عن العربية، فهو لا يتناول اللغةَ بشكل مجرد، بل يتناولها بشكل محدَّد مجسم، هو ما عرفه بخصائص العربية التي درسها فيما بعد علماءُ اللغة من خلال درس "فقه اللغة العربية".
ومع ذلك نستطيع أن نستخلص خصائص عامة صالحة للتطبيق على كلِّ اللُّغات، منها:
1 - اتِّساع اللُّغات سَعةً تغلب قدرة الفرد العادي على الإحاطة بها جميعها، وإن لم يكن من الصَّعب على الجماعة اللغوية الواحدة أن تُلِمَّ بلغتها، فما ينقص عند فرد يكمله الآخر، وهذا هو دور الجماعة اللغوية في المحافظة على كِيان اللغة ككلٍّ متكامل؛ يقول الشافعي: إنه رأى لسانَ العرب "أوسعَ الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا، لدرجة أنه لا يُحيط بعلمه إنسان غير نبي، ومع ذلك فلا يذهب منه شيء على عامتها"[3].
2 - إنَّه رأى اللُّغة تتوزَّع على ألسنة أهلها بشكل فيه تفاوت، كلٌّ يتكلمها على قَدْر مخزونه منها، وقدراته الذَّكائية، وخبراته السابقة، وثقافته، كلُّ فرد في الجماعة اللُّغوية الواحدة لديه قَدْر من لغة قومه يشارك به ويتبادل به التواصل مع جماعته، ومن مَجموع لُغة أفراد الجماعة تتكَوَّن اللُّغة ككل وتكتمل، وفي ذلك يقول الشافعي: "الناس طبقات في العلم، فمنهم الجامع لأكثره، وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقلَّ مما جمع غيره"[4].
ويقول: "فلِسانُ العرب عند خاصتها وعامَّتها لا يذهب منه شيء عليها، ولا يطلب عند غيرها"[5].
3 - وثَمة حقيقة لُغويَّة أخرى أدركها الشَّافعي، وهي أنَّ اللغة أعم وأشمل من العلوم المختلفة ومِن علم العلماء في كُلِّ التخصصات؛ يقول: "وعلم أكثر اللِّسان في أكثر العرب أعم من علم أكثر السنن في العلماء"[6].
4 - أمَّا موضوع اختلاط اللُّغات في اللِّسان الواحد، وتشابُه بعض الألفاظ في بعض اللُّغات، فقد أقرَّه الشافعيُّ ولم ينكره، مع تعصُّبه للعربية وذهابه إلى أن مَن دَخَل في العربية وامتلك ناصيتها، صار من أهلها؛ يقول: "لا ننكر إذا كان اللَّفظ قيل تعلُّمًا أو نُطق به موضوعًا - أنْ يوافقَ لسان العجم، أو بعضها قليلاً من لسان العرب، كما يتَّفق القليلُ من ألسنة العجم المتباينة في أكثرِ كلامها، مع تنائي ديارها، واختلاف لِسانِها، وبُعدِ الأواصر بينها، وبين مَن وافقت بعضَ لسانها منه"[7].
فهو يعترف بإمكانيَّة وجود ألفاظ مُتشابهة بين لُغات مُتباينة مُتباعدة زمانًا ومكانًا؛ وذلك بسبب التواضُع العشوائي للغة أو التعلُّم.
5 - والشافعي - إذ يؤكد على أهمية العربيَّة لُغة القرآن الكريم، وعلى السمات التي مَيَّزتها، وعلى ضرورة إجادة المسلمين من العرب وغير العرب لها، لا يُنكر وجودَ اللُّغات الأخرى، ويدرك أنَّ لها حُجِّيَّتَها، ويدرك أوجه اختلافها وأوجه تقارُبِها، رغم بُعد المسافات المكانية والزمانية، كما يدرك استِنادًا لما ورد في القرآن الكريم أنَّ كلَّ نبي قد أُرسِل بلسان قومه؛ ليكون مفهومًا لديهم، ولو شاء لجعل لسان الأنبِياء واحدًا؛ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4].
ومعرفة الشافعي بخصائص اللُّغة العربية من الأمور المُهمة الواجب تمكُّن عالم اللغة منها؛ لأنَّها تجعله يعمل في هُدًى من منطِق اللُّغة لا من منطق الفلاسفة، وقد أورد السيوطي قول أبي الحسن بن مهدي: حدثنا محمد بن هارون، حدثنا هميم بن همام، حدثنا حرملة بن يحيى - الفقيه المصري - قال: سمعت الشافعيَّ يقول: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلاَّ لترْكِهم لسانَ العرب، وميلهم إلى لسانِ "أرسطاطاليس"، ولم ينزل القرآن، ولا أَتَتِ السنَّة إلاَّ على مصطلح العرب ومذاهبهم في المُحاورة والتخاطُب والاحتِجاج والاستدلال، لا على مصطلح اليونان، ولكل قومٍ لغةٌ واصطلاح"[8].
لكنَّ الأصوليين بعد الشافعي قد خلطوا بين الدِّراسة اللُّغوية والمَنطقية، وكان هذا الخلط في البداية بمقدار المُفيد، ثم زادت نسبة المنطق في مُناقشة القضايا الأصولية، حتَّى وصل الأمر بالكُتُب المتأخرة في هذا العلم إلى درجة عالية من الغموض والإرباك[9].
6 - وعرف الشافعي أنَّ اللُّغة ترتفع قيمتها الاجتماعيَّة والسياسية، بل والعالمية إذا نَزَل بها كتاب مقدَّس، بشرط أنْ يساهم أهلُ اللغة بِجُهدهم الخلاَّق في نشر اللِّسان، ونشر ثقافة وآداب هذا اللسان بين أهل الأمم الآخرين، وفي ذلك يقول الشافعي: "ومَنِ ازداد من العلم باللسان، الذي جعله الله لسانَ مَن خَتَمَ به نُبوَّتَه، وأنزل به آخر كتبه، كان خيرًا له، كما عليه أن يتعلَّم الصلاة والذِّكر فيها، ويأتي البيت وما أُمِرَ بإتيانه، ويتوجه لما وُجِّه له، ويكون تبعًا فيما افْتُرِضَ عليه ونُدِبَ إليه، لا متبوعًا"[10]، ويُعقِّب أحمد شاكر على ذلك في الهامش بقوله: "في هذا معنى سياسيٌّ وقومي جليل؛ لأنَّ الأمة التي نزل بلسانها الكتاب الكريم يَجب عليها أن تعمل على نَشْر دينها، ونشر لِسانِها، ونشر عاداتها وآدابها بين الأمم الأخرى"[11].
7- ومِن خلال تناوُله لخصائص العربية، عرض تلقائيًّا لأهم قضايا اللغة العامة، كـ"العموم والخصوص"، و"المعنى الرئيسي والمعنى الهامشي"، "والدلالة المصطلحيَّة أو الدلالة الخاصة للشيء العام"، "والترادف"، و"المشترك اللَّفظي"، "والمجاز"، و"دور السياق في كشف الدلالة وتحديدها"، وهي أهم القضايا الدلالية المطروحة للمناقشة في حياة أي لغة[12].
الدلالة عند الشافعي
كانت بحوث اللُّغويين في موضوع الدلالة أسبق في الترتيب الزَّمني، ثم تلتها بحوث النَّحويين ثم الأصوليين، وقد تناول الأصوليُّون الدلالة على أنَّها حاجة من حاجات الملاحقة التشريعية؛ لإفساح الحياة الإسلامية بما يجعل الأصول الإسلامية تُساير التطور والنَّماء، الذي أصاب تلك الحياة، كما أدَّى الامتزاج في المعنى بين المصطلح اللُّغوي والشرعي إلى تواصُل الفهْم بين الأجيال العربيَّة وغير العربية التي دخلت في الإسلام[13].
وهذا يعني أنَّ مباحث الأصوليين للدلالة كانت تعتني بالدلالة في حالة الحركة لا حالة الكمون والسُّكون، في حالة التطور لا التوقف، وهذا يعني بدوره أنَّهم لم يتوقفوا عند الدلالة المعجمية السكونيَّة، بل نزلوا إلى ساحة الدلالة الاجتماعية النامية المتطورة.
وكان نزول الأصوليين إلى مساحة الدلالة - بكل ما فيها من معترك وصراع - مسبوقًا بوقفة إزاء مبحث المعنى.
فكرة الأصوليين عن علاقة اللفظ بالمعنى:
لقد تناول الأصوليون - وعلى رأسهم الشافعي - المعنى في علاقته باللفظ من مُنطلق أنَّ المعنى أسبق من اللفظ، ومن ثَمَّ فإن المعنى يتحكم في الموقف، ويُحدد الحركة، فإذا تحرك المعنى وانطبق على اللفظ، قالوا: إنها علاقة "مطابقة"، وإذا صادفت حركة المعنى جزءًا من اللفظ، أصبحت العلاقةُ علاقةَ "تضمُّن"، وإذا توازت حركة اللفظ وحركة المعنى، قيل: إنها علاقة "التزام".
وإذا كانت النَّظرة للمعنى على أنَّه في حالة حركة، فإنَّ من السهل تصوُّر المعنى في حالة تحرُّر من اللفظ بعيدًا عن قيود علاقة الالتصاق بين اللفظ والمعنى، التي صورتها فلسفة سقراط، التي اعتبرت اللفظ والمعنى وجهين لعملة واحدة.
وقد وصل ارتباطُ اللغة بالدلالة على يد الإمام الشافعي مبلغًا يكاد يقارب النُّضج، إلاَّ أنه لم يصلْ إلى درجة التقسيمات والحدود، بل كان يعتمد في ذلك على أمثلة من اللُّغة نفسها، وقد وضع الشافعي في اعتباره المعالجة القرآنيَّة للغة العربية، بنقل بعضِ ألفاظها من الاستخدام الشَّائع إلى الاستخدام الشرعي، الذي قصر معناها على استخدامات معينة تخالف تلك التي استخدمها فيه واضعو اللغة الأولون والناطقون بها، ومن ذلك الألفاظ الشرعية: "ألفاظ الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة"، وكانت هذه الألفاظ تستعمل بوضعها اللُّغوي للدعاء والإمساك، والقصد والنُّمو على الترتيب، إلاَّ أنَّها في الشرع اكتسبت مفاهيم جديدة ترتبط بعبادات معروفة، حتَّى تحولت إلى حدِّ المصطلحية[14]، وقد اتَّجه الأصوليُّون منذ الشافعي إلى تحديد مُغايرة الدلالة اللَّفظية في الاستعمال القرآني والسنة للغة المستخدمة في المجتمع؛ فالشافعي يبين في الرسالة:
- عام الظاهر الذي يراد به العام.
- عام الظاهر الذي يراد به العام ويدخله الخصوص.
- عام الظاهر الذي يراد به الخاص.
- الاشتراك اللفظي.
- الترادف[15].
وفيما يلي نتناول كلاًّ منها بالتفصيل:
اللفظ العام الظاهر الذي يراد به العام:
يقدم الشافعي لهذا بالمثال التالي: ما ورد في قوله - تعالى -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62]، وفي قوله - تعالى -: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [إبراهيم: 32]، وقوله - تعالى -: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
فهذا عام لا خاص فيه، وفي ذلك يقول الشافعي: "فكل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك، فالله خالِقُه، وكل دابة فعلى الله رزقها ويعلم مستقرَّها ومستودعها"[16].
وهكذا يتَّضح أنَّ الشافعي يتناول العام الذي اصطلح علماء اللغة المحدثون على تسميته بـ"اللفظ الرئيسي"، وهو اللفظ الذي يلتصق بمدلوله، كالأرض والسماء والإنسان والشجر والشمس والقمر... إلخ، وجميعها ألفاظ اتَّفقت جميع اللُّغات على وضوح حدودها العيانية.
واللَّفظ العام في اللغة الذي يشمل "يستغرق ألفاظًا متعددةً، فلا يقع اللفظ العام في الأفعال، كما لا يقع في المعاني المجردة، كالوجود والذكاء والحرية... إلخ، فهي معانٍ كليةٌ، فالوجود ليس له متعدد، فكذلك الذَّكاء والحرية؛ لأنها معانٍ شاملة لجزئياتها وليس لأجزائها، والعموم مُختص باسم العَيْن دون اسم المعنى، والمعنى الواحد لا يضم متعددًا"[17].
وقد طوَّر الأصوليُّون مَبحث العموم؛ لأنَّهم يبحثون وراء المعاني التي يُستدل عليها من واقع الحياة وأحداثها؛ لاستنباط الحكم وتطبيقه على ظاهر السلوك الإنساني، سواء أكان ذلك السلوك يعتمد على اللسان أو الجوارح؛ ولذا فالعام لفظٌ وُضِع للدلالةِ على أفراد غير محصورة على سبيل الشُّمول والاستغراق، كما في قوله - تعالى -: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 3]، فلفظ الإنسان عام يدُلُّ على استغراق أفراد مفهومه[18].
والتعريف السابق أقرب إلى الحدِّ المنطقي منه إلى التعريف اللغوي، والتعريف اللغوي يحصر في دائرة اللفظ الرئيسية، أو دائرة الغطاء ذات المعنى المعجمي الواحد[19].
وللموضوع تتمة

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|