عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 17-10-2020, 01:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,886
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نماذج من خوف السلف

ابتعاد السلف عن اللغو
جاءت ابنة أحدهم إليه, تقول: يا أبتاه! أريد أن ألعب، وكان معه بعض جلسائه, فأعرض عنها, فأتت من هاهنا ومن هاهنا: يا أبتاه! أريد أن ألعب! قال أحدهم: قل لها: العبي, وتذهب عنك، قال: لا أريد أن أجد في ديواني لعباً؛ لأن بعض السلف يرى أن ذلك يكتب...!
وهناك خلاف في هذه المسألة بين السلف رضي الله تعالى عنهم؛ فبعضهم كان يرى أن كل شيء يقوله الإنسان يكتب عليه مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] فكل كلمة مكتوبة، وكل عمل مكتوب أياً كان, وبعضهم يقول: لا, إنما تكتب الحسنات أو السيئات, أما ما يدخل في المباح أو اللغو أو فضول الحياة, فهذه لا تكتب مثل قولنا: العب أو اذهب أو أي أمراض من أعمالنا اليومية التي لا علاقة لها بالإثم ولا بالحسنة, فالكلام المعتاد لا يكتب, والتصرف المعتاد لا يكتب؛ فكان هذان المذهبان من قديم عند السلف رضي الله عنهم، فبعضهم يقول: كل شيء يكتب؛ فإذا قلت: "العبي" وجدت يوم القيامة في ديواني مكتوب "العبي" وما أريد أن يكون ذلك في ديواني, ومن هنا ندرك مدى التنزيه الذي وصلوا إليه لأفواههم ولقلوبهم ولصحائفهم, مع ما هم عليه من الخوف!! فكيف بمن يلطخ لسانه وقلبه وصحائفه, فإذا سُئِلَ, قال: الحمد لله! ونحن إلى خير! ونحن كذا! وأخذ يثني على نفسه ويذكرها بما ليس فيها.
حبهم لعبادة الخوف من الله
ومن السلف الصالح الذين غلب عليهم الخوف: عمرو بن قيس الملائي -رحمه الله- قال عمر بن حفص بن غياث ''لما احتضر عمرو بن قيس بكى, فقال له أصحابه: علام تبكي من الدنيا فوالله لقد كنت تبغض العيش أيام حياتك فكيف تبكي؟!
فقال: والله ما أبكي على الدنيا وإنما أبكي خوفاً أن أحرم خوف الآخرة'' فمن شدة حرصه على أن يتعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالخوف منه يبكي لأنه إذا فارق الدنيا ربما يفارقه الخوف من الآخرة، وهو يتعبد الله تبارك وتعالى بهذا الخوف، فكأن نوعاً من أنواع العبادة قد انقطع عنه، يقول: إن أَمَّنَني الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأدخلني جنته, ورضي عني, وقبل أعمالي, فسأكون قد انقطعت عن عبادة من العبادات كنت أحبها وأحرص عليها, وهي الخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى!!
لقد أصبح الخوف محبوباً عندهم حتى إنهم ليبكون خوفاً من فواته وهو خوف عند الاحتضار, وهي الساعة التي يُغَلِّبُ كثيرٌ من السلف فيها الرجاء على الخوف، وأمَّا مآثرهم فهي عظيمة وجليلة؛ كما قال بعض العلماء: ''إذا ذُكِرَ الصالحون افتضحنا'' نسأل الله العفو والعافية! لأنه إنما يعرف الإنسان نفسه إذا ذكر هؤلاء.
عابد الشام أبو سليمان الداراني
أبو سليمان الداراني الذي ضرب به ابن القيم المثل في العبادة قال في المدارج: ''كان مضرب المثل في العبادة من أهل الشام مثل ما كان الحسن البصري في البصرة ومثل ما كان سفيان في الكوفة '' وهكذا كل مدينة يشتهر فيها عدد من الناس بهذا, فمن أعظم وأبرز أعلام أهل الشام أبو سليمان الداراني -رحمه الله- نسبة إلى داريا وهي قرية من قرى دمشق كان -رحمه الله- يقول: ''مفتاح الدنيا الشبع, ومفتاح الآخرة الجوع, وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله'' ولهذا كانت مظاهر الخوف في سيرته -رضي الله تعالى عنه- أوضح منها في غيرها من ذلك.
يقول: ''لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وما أحب البقاء في الدنيا لتشقيق الأنهار ولا لغرس الأشجار'' .
مثلما قال الآخر: ''مساكين أهل الدنيا! خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها'' مساكين...! فلو مات أثرى أثرياء الدنيا الذين كانوا يتقلبون في أعطاف القصور والنعيم, وكل ما لا يخطر على أذهان الفقراء, ولا يدور في خلد المساكين -لو ماتوا وهم لم يذوقوا لذة مناجاة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والقرب من الله عز وجل, فهؤلاء مساكين- خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أحلى وألذ ما فيها، ولهذا كان للسلف الصالح كلام عظيم -لو جمع لكان جزءاً- في الليل وفي محبة الليل والثناء على الليل وتعلقهم بالليل؛ لأنه وقت الخلوة بالحبيب, ووقت المناجاة حيث لا يراهم أحد.
كان ليلهم غير ليلنا، نحن الآن في الليل والنهار -نسأل الله والعفو والعافية- لا نخلو ولا نأنس! لكن الحياة في الصدور الأول كان فيها الليل -فعلاً- ليلاً, كما كان آباؤنا -وهم قريبون من عصرنا- إذا صلّى الناس العشاء ذهبوا فناموا, فعندئذ يخلو الإنسان بربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قراءة وذكراً وقياماً وصلاة وتسبيحاً, فيحب الليل, فيقول: '' لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا '' فأحب الأوقات إليَّ هذا الوقت الذي أجد فيه اللذةَ التي من لم يذقها فهو مسكين! دخل الدنيا وخرج منها ولم يذق ألذ وأحلى ما فيها، ولم يتمتع بذلك, وهذا هو الذي قال فيه القائل الآخر إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه '' لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ''...!
الأغنياء والمترفون والكبراء وأهل الدنيا أيما شهوة تبلغهم ذهبوا إليها!! والتاريخ مليء بذلك.
كان بعضهم يقال له وهو في بغداد : إن جارية بـخراسان تغني فيطرب لها كذا وكذا, فيقول: اشتروها لي, فيقولون: إنها بمائة ألف دينار؛ فيقول: ادفعوا مائة ألف دينار وأتوني بها! أية لذة يسمعون عنها يأخذونها ويشترونها, فإن تعاسرت على المال, وحيل بينهم وبينها بالمال, جردوا السيوف لينالوها؛ سواء كانت لذة ملك أو شهوة أو أيّاً ما كان الأمر, يجالدون بالسيوف لينالوها, لكنهم مساكين!! لو يعلم من لم يكن عمله في طاعة الله, وجهاده ومجالدته في طاعة الله ما عند من يجتمعون على كتاب الله ومن يقرءون سيرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن يقرءون حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلام هؤلاء الأئمة وحياتهم، لو يعلمون ما يجده هؤلاء في بيت من بيوت الله أو في بيت من بيوت أحدهم لجالدوا عليه بالسيوف، لكن لا يعلمون؛ لأن اللذات عندهم محصورة في الشهوات فقط, ولذلك لا يمكن أن يتطلعوا أو يفكروا فيما وراءها, ولو علموا أن اللذة الحقيقية هي لذة النجوى والأنس بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والفرح بما عند الله عز وجل وما أنعم الله به على الإنسان من الإيمان والتقوى -لو علموا ذلك- لسابقوا إليه، لكنهم لأنهم لم يعلموا ذلك فلم يسابقوا ولم يزاحموا عليه.
المعصية سبب للهوان على الله
يقول أبو سلمان الداراني حكمةً عظيمةً من حكمه, وما أكثر حكمه وحكم أمثاله! يقول: ''إنما عصى الله -عز وجل- من عصاه لهوانهم عليه, ولو كَرُمُوا عليه لَحَجَزَهُمْ عن معاصيه'' .
أي: عندما نرى أحداً يقترف محرماً أو ينتهك حرمات الله وينغمس في الشهوات, فإننا نعلم أنه من هوانه على الله أوقعه في ذلك كائناً من كان؛ لأنه لا يساوي عند الله -عز وجل- أن يمنعه, فلذلك هانوا عليه فتركهم ووكلهم إلى أنفسهم, فرتعوا في الحرام ووقعوا في الشهوات التي حرمها الله -تبارك وتعالى- أما من كرموا على الله, فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يمنعهم ويحجزهم ويحميهم فلا يقعون فيها.
ومن أعظم الأمثلة الدالة على صدق هذا الكلام ما ذكره الله تبارك وتعالى في القرآن عن الذي أُتيحت له كل الأسباب, ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حجزه ومنعه وعصمه, وهو يوسف عليه السلام، يقول الله تبارك وتعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23]، هذا في منتهى الشباب وغريب لا يعرفه أحد, وعادة الغريب أنه يكون أدعى إلى أن يفعل ما يشاء وأكثر ممن يكون بين قومه وأهله وذويه, فقد يقولون له:لم فعلت يا فلان كذا؟! وليس هو الذي طلب, بل هي التي راودته كما قال: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف:26] وهي التي هو في بيتها، تملكه وتملك البيت, فهي سيدة البيت, بل هي سيدة البلد؛ لأنها امرأة العزيز, والعزيز هو ملك مصر ، فهي التي راودته، وهي التي تملكه, وهو في منتهى الشباب والطاقة وفورة الشهوة, وهي في منتهى الجمال والفتنة والإغراء, ولا أحد يدري بذلك أبداً، ثم إنها قد عملت الوسائل التي لا محيص منها عن الشهوة؛ غلقت الأبواب, فلم يبق هنالك مجال أن يقول: أَخرج أو أُفِرُّ أو أَذْهَب, وقالت: هيت لك, إما بمعنى تهيأت لك أو بمعنى هيهات لك أن تفر، أو ألا تفعل؛ فكل داعٍ من دواعي الوقوع في الفاحشة كان متوفراً, ولم يبقَ هناك أيُّ ملاذ أو ملجأ لأي إنسان إلا من عصمه الله فحجزه كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذا علم أن عبداً من عباده صادقٌ تقيٌ برٌ, فإنه يحجزه ويمنعه, فلكرمه على الله لا يفعل, وكان يوسف عليه السلام كذلك, كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام }.
وصلى الله وسلم على أولئك الأنبياء الذين من كرمهم على الله كانت لهم السير المعطرة الطيبة الزاكية, وكانوا يحجزون ويمنعون عن المعاصي؛ لأنهم كرماء على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما الذين لا يساوون عند الله جناح بعوضة, فكما يشاءون؛ الشهوات متيسرة, والفساد مهيأ, فيفعل ما يشاء, فهو موكول إلى نفسه؛ لأنه هان على الله، كما قال تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19] فإن فكَّر أو تكلم أو كتب أو جاء أو ذهب فيفعل ويتكلم في كل شيء ويخوض في كل شيء إلا نفسه.
يا مسكين! أما علمت أن أمامك موتاً، وأمامك قبراً، وأمامك آخرةً، وأمامك صراطاً وحساباً وجنةً وناراً، لكنه لا يفكر في هذه الأشياء بل يفكر في فلان وفي علان, وفي القضية الفلانية وفي الموضوع الفلاني, بل ربما يدعو بقلمه إلى ما حرم الله.
يقول: تحرير المرأة! والمرأة مسكينة! والمرأة مظلومة! والمرأة مضطهدة!
فكر في نفسك يا مسكين! أنت المسكين المحروم، وليس المرأة هي المحرومة, أنت محروم من طاعة الله، وأنت محروم من قراءة القرآن, وأنت محروم من عبادة الله، وأنت محروم من الجلوس مع أولياء الله، وتقول: المرأة محرومة ومظلومة! وصدق الله إذ يقول: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19]، فترك الأمر الذي أمامه من طريق مخوف مفزع والذي هو واقع فيه, فلم يُفكر فيه، لم يحجزه ربه, لأنه هان عليه, فلما هان عليه, تركه يفعل ما يشاء.
ولهذا علينا أن نُقِّدر نعمة الله أن هدانا للإيمان، فإذا كنت ممن يتقي الله ويطيع الله، ولا يغفل عن ذكر الله ولا عن الآخرة, فاحمد ربك؛ لأنك كريم على الله, فإذا دعتك نفسك إلى معصية أو هيئت لك معصيةٌ من المعاصي.
فكففت عنها, فاحمد ربك لأنه لا يمنع ولا يحجز ولا يصرف عن السوء والفحشاء إلا من كان كريماً عليه وحبيباً لديه, فاحمد الله على هذه المنزلة ولا تسقط من عينه.
منزلة الأخوة عند السلف
يقول أبو سليمان من درر كلامه رحمه الله -وهذه ليس لها علاقة بالخوف لكنني أحببت أن أذكرها لشدة حاجتنا إليها وإلى مثل هذه العبر- يقول: ''لو أن الدنيا كلها جمعت في لقمة -أي: أموالها وشهواتها ومتاعها وكل ما فيها جمع في لقمة- ثم جاءني أخ لي من إخواني في الله لأحببت أن أضعها في فمه'' .
فالدنيا كلها لا تساوي شيئاً, فالأخوة في الله خير عندي من كل الدنيا, فلو جمعت الدنيا بكل شهواتها وملذاتها ومتاعها وما يطلبه الناس وما يتسابقون إليه منها في لقمة ثم جاءني أخ في الله, لأحببت أن أضعها في فمه...!
فهؤلاء هم الذين كانت الأخوة والمحبة في الله عندهم بهذه المنزلة العالية, ولذلك لو لم يدخلهم الجنة إلا هذا لكفى، فهذا من أعظم ما يرجو به الإنسان الجنة.
قال أنس -رضي الله تعالى عنه- عندما سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {يحشر المرء مع من أحب يوم القيامة،قال: فأنا والله أحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم } فهذه نعمة عظيمة، فلينظر الإنسان من يحب, ولينظر من يخالل, ولنعرف قيمة الأخوة في الله, والأخوة في الله ليست مجرد مشاعر أو عواطف تأتينا إذا التقينا وذهبنا وأتينا, بل الأخوة الصادقة أن تكون محباً ومؤثراً له, ناصحاً صادقاً في معاملته ووفياً, إذا احتاج إليك فإنك تنجده: ما استطعت، وتبذل له ما استطعت.
سأل بعض التابعين بعض تلاميذه : {{كيف محبتكم في الله؟
قالوا: الحمد لله, نتحاب ونتآخى في الله, قال: أيمد أحدكم يده إلى كُمَّ أخيه، فيأخذ منه ما يشاء ويدع ما يشاء؟
قالوا: لا, قال: إذاً أين المحبة؟ }}.
هكذا تبلغ بهم المحبة، فيشعر الإنسان أن ما يملك فهو لأخيه, وما يملك أخوه فهو له من مال أو من مساعدة أو من خدمة يمكن أن يقدمها الإنسان لإخوانه في الله، فهذه هي حقيقة الأخوة.
يقول أبو سليمان الداراني -لنعرف كيف كانت سيرته في العزوف عن الدنيا، والتعلق بالآخرة، والخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قال: ''إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزحمها، وإذا كانت الدنيا في القلب، لم تزحمها الآخرة؛ لأن الآخرة كريمة، والدنيا لئيمة، ولا يزاحم إلا اللئام'' .
إذاً الذي ينبغي للإنسان أن يجعله في قلبه هو الآخرة، أما إذا كانت الدنيا هي التي في القلب فلننتبه، فلا بد من يقظة، ولا بد من عزيمة، ولا بد من عمل، فلا نتوقع أن تأتي الآخرة فتزحمها أبداً، فالإنسان لا بد أن يعلم ما الذي يضع في قلبه, فإن كانت الآخرة فليحافظ عليها من مزاحمة اللئيمة، وإن كانت اللئيمة, فليطردها وإلا فلن تخرج؛ والكريمة لن تزحمها ولن تدخل.
حسن الظن أم أماني كاذبة
ومن كان هذا حاله كان ملازماً للمحاسبة دائماً، وكان الخوف هو الغالب عليه في تصرفاته.
ولهذا قال رحمه الله تعالى: ''من حَسُنَ ظنه بالله عز وجل ثم لا يخاف الله فهو مخدوع'' كما قال الحسن : ''إن قوماً أساءوا العمل، وقالوا: نحسن الظن! ولو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل'' .
هذه قاعدة الكرام العقلاء في حياتهم: إذا أحسنوا الظن أحسنوا العمل, والناس في دنياهم يتعاملون هكذا, فإذا وجدت إنساناً يجتهد في شيء ويحسنه فإنك تقول: هذا إنسان وإن شاء الله سيساعدنا, وإذا وجدت واحداً لا يهتم بشيء فإنك تقول: هذا لا ينفع مهما عملت معه، فهذه حقيقة، فمن أحسن الظن أحسن العمل.
فإذا أتينا إلى ما يتعلق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -ولله المثل الأعلى- فسوف نجد أهل الفجور والمعاصي والذنوب يتقحمون في النار, ويقولون: نحسن الظن بالله وحقيقة أحدهم أنه مخدوع خدعه الشيطان وخدعته النفس والشهوات، وخدعته الدنيا والأماني الباطلة، وخدعته أنواع من الغرور والخداع, فأمن وركن إلى الدنيا, فكانت هذه هي النتيجة, وهو أنه هنالك عند الحساب لا يجد شيئاً! فالمخدوع يكتشف أنه مخدوع إذا قضى الأمر وانتهى, فيقول: ربنا أخرجنا! ياليتنا نرد فنعمل صالحاً! وقد قضي الأمر وانتهى.
الازدياد في الطاعة
ومن درر كلامه رضي الله تعالى عنه أيضاً في هذا الجانب؛ حتى يتعلق الإنسان دائماً ويتطلع إلى الزيادة, ولا يطمئن ولا يركن إلى عمله, ولا يقول: أنا أرجو, ويحسن الظن في غير موضعه، قال: ''من كان يومه مثل أمسه فهو في نقصان'' .
هذه القاعدة حتى في الدنيا: التجار، والشركات.. وغيرها, إذا كانت نسبة الربح في هذه السنة مثل النسبة التي كانت في السنة الماضية فإنهم يقولون: "أكيد أننا خسرنا, وما هي الفائدة, وربح هذه السنة مثل ربح السنة الماضية؟"
فدائماً يريدون النسبة أن ترتفع! هذا في دنيانا, لكن في الآخرة قليل من الناس من يفكر كذلك.
ولقد جاء عن بعض السلف أنه لو قيل له: "إنَّ يوم القيامة تقوم غداً" أو "إنك سوف تموت الليلة" ما زاد في عمله شيئاً..! فهؤلاء قوم أخذوا أنفسهم بهذه القاعدة, وكل يوم يأتي عليه فهو أفضل مما قبله, وصل في النهاية إلى أنه لو قيل له: تموت الآن أو تموت الليلة ما يزيد في الطاعات! لا يوجد مجال؛
لأنه مستكمل لكل جوانب الطاعات، لكن لو نظرنا إلى الغافلين اللاهين من أمثالنا: لو قيل له: "سوف تموت الليلة أو غداً", لقال: أريد أن أصلي, وأن أصوم، وأن أتصدق، وأن أجاهد!! فالأيام تمر ولم نسدها بعمل صالح فهي ثغرات مكشوفة, وهذه الثغرات المكشوفة يتسلسل منها العدو والشيطان والشهوات والدنيا، فيفاجأ الإنسان وقد دخل قلبه شيء من ذلك, لكن الذي يحرص كل يوم على أن يكون ما بعده خيراً منه, فإنه سيكون أكثر ذكراً لله, وأكثر حرصاً على طاعة الله، وأكثر طلباً للعلم النافع, وأكثر جهاداً, وأكثر أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر, وأكثر خوفاً, وأكثر رجاءً, وأكثر محبة ما استطاع, حتى لو نقص عمله الصالح أحياناً فإنه يعوضه.
معالجة القلوب
والقلوب ليست دائماً على حال واحد، ''إنما القلوب كالدواب'' كما قال بعض السلف رضي الله تعالى عنه, وهم يمثلون بالدواب لأنهم كانوا يعيشونها يومياً، أحياناً يركب الإنسان على هذه البغلة فتمشي وتهرول وتهملج, وأحياناً تستعصي وتقف فيضربها ويحركها, فلا تمشي بسبب ما من الأسباب, والقلوب كذلك, في يوم من الأيام، ولحظةٍ من اللحظات، وساعةٍ من الساعات تجد نفسك تقرأ القرآن بانشراح وانفتاحٍ وطمأنينة, وتجد نفسك منشرحةً لعبادة من العبادات، أو لطاعة من الطاعات، أو لذكر من الأذكار، أو لعمل من أعمال الخير, مهما استكثرت منه؛ فالنفس منشرحة تقول: يا ليتني أستمر على هذا العمل! ويا ليتني لا أنقطع عن حلاوته!
وفي لحظة من اللحظات أو يوم من الأيام تجد أنك كالذي ينحت في الصخر بقوة! لا تستطيع أن تنال شيئاً من ذلك!
إذا كان هذا حال القلوب فلا بد أن تأخذها وقت الرخاء ووقت الإقبال بالعزيمة, فتحثها وتَسيُربها فتقطع مسافة كبيرة, فإذا حرَّنت الدابة، وتلكَّأت، وعرجت، واسترخت، فسيكون ذلك وقد قطعت مسافة كبيرة جداً، لكن إذا هملجت وأسرعت فاسترخيت ونمت, فلن تقطع بك إلا قليلاً, فإذا تلكأت هي وأردت أنت أن تحركها وقفت, فلا تقطع شيئاً, فيسبق السابقون وأنت منقطع ومتخلف ليس معك أحد, فهكذا حال الإنسان.
ولا يعني أن كل يوم أفضل من جميع الوجوه, فقد تجد أنك في يوم من الأيام صعبت عليك الطاعة، العمل الصالح, فإذا رأيت ذلك في نفسك فاجتهد فيه ما استطعت؛ فإذا جاءك من غدٍ فسحةٌ وانطلاقةٌ وانشراحٌ, فاحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واستمر في الاجتهاد, فلا تأتي الحزونة أو الحرونة من غدٍ إلا وقد قطعت شوطاً كبيراً, وتقول: يا نفس! بالأمس كنت.. كذا, والآن هكذا! لا يليق هذا الشيء، فتمشي بك ولو إلى نصف الطريق, فتكون قد كسبت! لكن لو كنت في وقت الرخاء مشيت النصف, فأنت في وقت الشدة قد لا تقطع الربع.. والله المستعان!
وممن اشتهر عنه جانب الخوف -وهم كثير- رجلان عُرِفَا بذلك أكثر من غيرهما كما قال بعض السلف : ''أكثر الناس بعد الصدر الأول من الصحابة وكبار التابعين خوفاً رجلان هما: عمر بن عبد العزيز وسفيان الثوري كأن النار لم تخلق إلا لهما'' .
فمن كان يتأمل ويرى حال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه فإنه سوف يقول: (ما خلقت النار إلا له) فكأنه يشعر أنها ما خلقت إلا له, وحياته فيها الكثير من العجائب..! ولذلك فإنّ ابن الجوزي رحمه الله -صاحب صفة الصفوة - لما تكلم عن سير الصالحين والعباد, أفرد الكبار المشاهير بكتب مستقلة, ومن الذين أفردهم ابن الجوزي بتراجم مستقلة- لأنهم كانوا أكثر وأشهر وأعظم من أن يحصرهم ضمن تراجم مع غيرهم عمر بن عبد العزيز ، فله كتاب عظيم عنه, وله كتاب عن سفيان الثوري وهو -والله أعلم- مفقود, وما بلغني أنه موجود, وحبذا لو يظهر!! والثالث عن الإمام أحمد بن حنبل .
ومن حكمة الله أن يذكر غير الصحابة -أيضاً- في التحدث عن تلك الفضائل, فلو ذكر الصحابة فقط لقال الناس: "هؤلاء صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن يبلغ ما بلغوا؟" لكن تأتي هذه النماذج, بعضهم في وقت الشدة ووقت الفتن ووقت البدع, وبعضهم في زمن الحجاج .
عمر بن عبد العزيز والهمة العالية
عمر بن عبد العزيز الذي جاء في زمن الفتنة والشهوات, والدنيا قد أقبلت.. ومع ذلك فقد أُثِرَ عنه أنه لما كان أميراً على المدينة [[جيء له بثوب, فقال: كم ثمنه؟ قالوا: خمسمائة دينار, فقال: رخيص! فلما ولى الخلافة جيء له بثوب, قال: كم ثمنه؟ قالوا: عشرة دراهم, قال: هذا غالي! ]] فانظر كيف تبدل حاله!
قال بعض جلسائه: والله يا أمير المؤمنين! إني لأذكر؛ لأنه في أول شبابه كان مترفاً رضي الله تعالى عنه مرة عرض عليك الثوب بكذا وكذا دينار, فقلت: رخيص، فقال كلاماً عظيماً عجيباً جداً! قال: [[تاقت نفسي إلى الإمارة، فلما وليتها تاقت نفسي إلى الخلافة, فلما وليت الخلافة تاقت نفسي إلى الجنة ]] فهذه هي الهمة العالية...!
لما ولي الخلافة، كان يحكم الدنيا, ولو أن رجلاً أقسم بالله أنه كان يحكم الدنيا ما حنث ولا أثم كما يعبر الفقهاء، إذ كان يحكم من جنوب فرنسا إلى بلاد المغرب وأفريقيا إلى بلاد الشام والعراق والترك وحتى حدود الهند والصين , وتدفع له الممالك من غير المسلمين الجزية, هذه هي الدنيا!
أما الأمريكتان واستراليا فلم تكن معروفة, وأما أوروبا فإنهم همج ولو أُعْطِيَتْ لأحد ذلك اليوم لما قبلها, ولو قيل له: احكم أوروبا , لقال: ما أريد بها وهم همج رعاع لا خير فيهم.
إذاً فقد كان يحكم الدنيا, فتطلع إلى ما هو أعظم من الدنيا, فقال: (الآن تاقت نفسي، أي: اشتاقت نفسي إلى الجنة).

يتبع ..

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.53 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.08%)]