خطبة عن الترفيه والترويح (2)
عبدالله بن علي بن عبدالله الغامدي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71] أما بعد:
عباد الله:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فمن اتقاه وقاه، وبلّغه رضوانه وهداه، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3].
سبق في خطبة ماضية الحديث عن مجالات الترفيه والترويح في عهد النبوة والسلف الصالح وذكر من ذلك (الفروسية والرماية والحداء والارتجاز، والترويح بالمسابقات الرياضية، كالمصارعة وسباق الأقدام والصيد ونحو ذلك.
اخي القائم على حدود الله.
إن الترويح المباح شرعا واسع المساحة، متنوع الأنماط، متعدد الوسائل، مختلف الاتجاهات، متجدد مع الأزمنة، متواكب مع التقنية، ومع كونه كذلك، إلا أنه في جميع أحواله ومساراته، محكوم بضوابط الشرع، محاط بسياج العبودية لله، إذْ الأصل والمتركز في رسالة هذه الأمة المحمدية، القوة في الأخذ والتمسك بتعاليم هذا الدين، القوة في الحق، القوة في البناء والتعمير، القوة في حمل الأمانة، القوة في الجهاد، القوة في التربية والاعداد.
﴿ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 63].
﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 145].
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60].
ومن بين صنوف القوة هذه، قوة الضبط والامتناع، وكبح الجماح والانخلاع، عن كل متعة عابرة، أو لذة غالبة، أو شهوة مستعرة، أو هوى متبع، أو تقليد أعمى.
والتمسك بهذه الضوابط الشرعية، حال ممارسة الجوانب الترويحية، لا يُعد تضييقا على النفس، ولا حدّا من مجالات الترفيه الواسعة، ولكن لما في ذلك من مصلحة العباد والبلاد، وتحقيقا لمفهوم العبودية المحيط بجوانب الحياة كلها، ولو لم تكن حياة المسلم كذلك، فما الفرق بينها إذا وبين حياة من ضل عن الهدى ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ [محمد: 12].
إن الترويح واللهو، والترفيه واللعب والسياحة، معناها جميعاً عند الغرب:
الانعتاق من كل قيد، والخروج على كل سائد والانفلات من كل زمام، والتحرر من كل معوق والانغماس في حمأة الرذيلة، افعل ما شئت كما شئت، مع من شئت متي ما شئت، دون حياء ولا خجل، دون قيم ولا آداب، دون تريث ولا تردد.
واستمع أخي الفطن ماذا يقول أعداء الشرائع ممن لعنهم الله وغضب عليهم ومسخهم فجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.
قالوا في بروتوكولاتهم ولكي نبعدها - أي الجماهير - عن أن تكتشف بنفسها أي خط عمل جديد، سنلهيها بأنواع شتى من الملاهي والألعاب، ومزجيات للفراغ والمجامع العامة، وهلمّ جرًّا وسرعان ما سنبدأ الإعلان في الصحف، داعين الناس إلى الدخول في مباريات شتى، في كل أنواع المشروعات، كالفن والرياضة وما إليهما، هذه المتع الجديدة ستلهي ذهن الشعب حتما عن المسائل التي سنختلف فيها معه.. إلخ.
أيها المؤمنون:
فإلى هاتيكم الضوابط الشرعية والأحكام المرعية للترويح والترفيه في ديننا الحنيف:
1- الضوابط المتعلقة بجماعة ورفقة الترويح.
لا بد من صحبة صالحة يكون فيها أحدهم كحامل المسك، وإذا أراد الله بعبد خيراً وفّقه لمعاشرة أهل السنة والصلاح والدين والأخلاق السامية، ونزّهه عن صحبة أهل الشهوات والأهواء والبدع.
يقول عليه الصلاة والسلام (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل). (في السلسلة الصحيحة 927).
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ♦♦♦ فكل قرين بالمقارن يقتدي
الصحبة الصالحة هي المحضن التربوي الناجح، والبيئة الخصبة المثمرة، ففيها وبها تُقوّمُ الأخلاق، وتهذب الطباع، وتنمّى الطاقات، وتفعّل الجهود، معينة على الخير، صائنة عن الشر، إخوان الصدق دعاة الهدى وأهل التقى.
أما قرأت يوماً خطاب المولى سبحانه لنبيه صلوات ربنا وسلامه عليه الذي جاء فيه ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
فهل حرصنا عند ترويحنا لأبنائنا على هذا المعنى العظيم، بترغيبهم مشاركة في مراكز صيفية ومكتبات خيرية، وحلقات قرآنية تربوية؟
هل تخيرنا لهم أخيارا من أجناسهم، وقريبا من أعمارهم رفقةً وأصحابا عليهم سيما الخير وأخلاق البر؟.
وللعلم فلا بد من مراعاة ما يصلح لكل مرحلة عمرية من الأصدقاء ليكون التفاعل إيجابيا ومثمرا.
فها هو الحبيب عليه الصلاة والسلام كان يسرب لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها من هن على شاكلتها وفى سنها من صويحباتها لتلعب معهن.
أما اليوم فان التفت إلى الواقع المرير، ضجّ فؤادك، وضاقت جوانحك كيف لا وانت ترى زمرا من الشباب الكبار وفى رفقتهم ومعهم في سياراتهم وجلوسا في منتزهاتهم غلمان صغار ناهيك عن كون ذلك في ساعات من الليل متأخرة وفي أماكن أحيانا مشبوهة..
أين من هؤلاء آباء وأمهات؟ أين الراعي وأين الرقيب؟
عندها لأتسأل عن منكرات تقع وفواحش ترتكب وحسبنا الله ونعم الوكيل..
يقول عليه الصلاة والسلام (إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) (السلسلة الصحيحة 1636).
ومن أهم ما تلزم الإشارة إليه والتأكيد عليه والمناداة به في الرفقة الترويحية الترفيهية عدم الاختلاط بين الجنسين فكل بمعزل عن الآخر ومنأى عنه درءًا للفتنة، وسدا لذرائع الفاحشة وقطعا للطريق على دعاة التغريب والسفور، قال عليه الصلاة والسلام (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء). (السلسلة الصحيحة 2701).
ولئن كان الحكم بذلك ساريا في كل ميدان وعلى كل صعيد إلا أنه في مجالات الترويح يزداد حرمة ومنعا، لما يغلب على هذه الممارسات من الممازحة وعدم التكلف والمباسطة وفوران روح النشاط والمرح وتزجية الوقت هنا وهناك، وزوال الكلفة خصوصا في الاحتفالات العامة وفعاليات المناسبات السنوية ونحوها..
وحتى لا نذهب بعيدًا عن واقعنا وأحوال مجتمعنا، جل بطرفك أخي مستور العرض مصون الجناب في أسواق وفرج، وشواطئ وحدائق وساحات وصالات عرض والعاب وملاهٍ ومنتجعات ومعارض ماذا عساك هناك أن ترى من اختلاط مشين وتبرج وسفور، وجلسات عوائل متقاربة جدا، وليس ببعيد عن متابع لمثل هذه الفعاليات ما حصل في ليلة من ليالي هذه الاحتفالات حيث أطفئت الأنوار، وارتفعت أصوات الموسيقى وتوقفت حركة السير في الطرق لكثرة الناس المشاهدين للألعاب النارية وغازية ولضوئية ونحوها، مما اختلط فيه الحابل بالنابل ووجد فيه الشباب الآثم متنفسا تحت ستار الظلام الدامس لتصرفات رعناء واعتداء على حرمات وأعراض (وعلى نفسها جنت براقش)، مما اضطر الشرط ومكافحة الشغب من التدخل لحل الإشكلات وفض النزاعات واستنقاذ العوائل من غوائل الشباب.
2- الضوابط المتعلقه بمكان الترويح.
إن المكان الذي يمارس فيه الترفيه له دور هام وأهمية بالغة:
1- من جهة الاختيار: أخي المباركة أنفاسه: كن على حيطة وحذر من أماكن الترويح والترفيه في المجامع والمناسبات والحدائق المختلطة والشواطئ السافرة وأماكن إقامة الطرب والغناء وصالات السباحة شبه العارية وغير ذلك، مما لا يخفى على مثلك النهي عنه .. فحري بالمؤمن أن ينأي بنفسه وأسرته عن كل موطن سوء أو موقع فساد..
قال عليه الصلاة والسلام (قال إياكم والجلوس بالطرقات، قالوا يا رسول الله ما لنا بُدّ من مجالسنا نتحدث فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه، قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) رواه الشيخان.
2- ومن جهة المحافظة والمراعاة.
فمن ذلك عدم إفساد موجداته كالأشجار والأنهار أو الحيوانات والظل أو نحو ذلك فملكية ذلك للجميع وليكن شعارنا "اترك المكان نظيفا كما تحب أن تراه نظيفا".
قال عليه الصلاة والسلام (اتقوا الملاعن الثلاث - أي التي تجلب على فاعلها اللعنة من الله والناس - البراز في الموارد - جمع مورد وهو مجرى الماء- وقارعة الطريق والظل ). (حديث حسن في صحيح ابن ماجة 328).
وفي رواية أخرى (من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم) (السلسلة الصحيحة 2298). (وجبت عليه لعنتهم، فكيف بمن يكون سببا في أذية المسلمين من الشباب والفتيات حيث الإغراءات والمعاكسات والترقيم والخلوات ولربما أشياء أخرى وراء ذلك.. مما لا نسأل الله معه إلا أن يهدي من ضل وزاغ، وانحرف عن جادة العفاف والطهر فخسر وخاب.
3- ومن الضوابط ماله صلة بوقت الترويح.
يتبع