عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 24-10-2020, 05:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,207
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الخوف من الجليل

وعن عبد الله بن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما قال: "لمَّا أنزل اللهُ عزَّ وجلَّ على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذه الآيةَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾، تلاها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يومٍ على أصحابِه فخرَّ فتًى مغشيًّا عليه، فوضع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدَه على فؤادِه، فإذا هو يتحرَّكُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا فتًى قُلْ: لا إلهَ إلَّا اللهُ. فقالها: فبشَّره بالجنَّةِ، فقال أصحابُه: يا رسولَ اللهِ أمن بيننا ؟ فقال: أوَ ما سمِعتم قولَه تعالَى: ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ (المنذري في الترغيب والترهيب 4/194 وقال: إسناده صحيح أو حسن أو ما يقاربها).

خوف الملائكة والعلماء والمؤمنين
وخوف الملائكة من الله تعالى خوف تقديسٍ وإجلال، قال الله تعالى عنهم: ﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ (النحل 50)، وخوف العلماء ناتجٌ عن معرفتهم بأنفسهم وبربهم، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ (فاطر من الآية 28)، وقدوتهم في ذلك سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: "... والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" (صحيح البخاري/كتاب النكاح 4776).

وأما خوف المؤمنين فهو خلقٌ من أهم أخلاقهم طول الحياة حتى لقاء الله طمعاً في جنته وفطاماً للنفس عن طغيان الهوى، قال الله تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ (النازعات 40:41)، وقال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ (الزمر 13).

وانعم به من خلقٍ كريمٍ يدفع إلى مراقبة الله في الخلوات والجلوات، فلو خاف الله أهل المسئوليات العظمى لأتحفوا الدنيا بالعجائب من الفكر والأمانة والعدل بين المرؤوسين، ولو خاف الله أرباب المهن وقاموا بحقها دون إبطاء لقامت معالم الحضارة على الفور، ولو خاف الله تعالى الأزواج والزوجات والبنين والبنات والأقارب والجيران فيما بينهم من علاقات لتغيرت بعض الصور المشينة التي يترجمها الواقع من فقد الخوف في القلوب.

وعندما يغيض منسوب الخوف من الجليل في حياة الناس فحدث ولا حرج عن الباطل الذي يمرح في المجتمع من التظالم بأكل الأموال بالباطل وضياع الحقوق وانتحار القيم ومن الشقاق وانزواء الأخلاق الرشيدة من واقع الحياة، حيث يتحول الإنسان إلى شريعة الهوى والاحتكام إلى نداءات الرغائب المتسفلة، ومن مأثور الكلام بين الناس: خف ممن لا يخاف من الله، وقال ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه: رأس الحكمة مخافة الله.

[ قال أبو حفصٍ: الخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه، والخوف سراج الله في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر، وكلُّ احدٍ إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هاربٌ من ربه إلى ربه. قال أبو سليمان: ما فارق الخوف قلباً إلا خرب، وقال إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها، وقال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق ] ( مدارج السالكين 488"سابق").
فيا مَنْ باتَ يَنْمُو بالخطايَا
وعَينُ اللهِ سَاهِرَة تَراهُ

أتَعْصِي اللهَ وهو يَراكَ جَهْرًا
وتَنْسَى في غدٍ حقاً تَراهُ

وتَخُلو بالمعَاصِي وهو دَانٍ
إليكَ وَليسَ تَخشَى مِنْ لِقَاهُ

وتُنْكِرُ فِعْلهَا وَلها شُهُود
بمَكتُوب عَليكَ وَقدْ حَوَاهُ

فيا حُزْن اُلمسِيءُ لِشُؤِم ذنْبٍ
وبَعْدَ الحزْنِ يَكْفِيهِ حماهُ

فَيَنْدُبُ حَسْرَة مِن بَعدِ مَوتٍ
ويَبْكِي حَيْثُ لا يُجْدِي بُكَاهُ

يَعضُّ اليَدَّ مِن نَدَم وحُزْنٍ
وَيَنْدُبُ حَسْرًة مَا قدْ عَرَاهُ

فبادِرْ بالصلاح وأنْتَ حَيٌ
لعّلكَ أنْ تَنَال بهِ رضَاهُ


والخوف جنديٌّ راسخُ في باب الأدب يؤدب الله به من يشاء من عباده منعاً وزجراً، وقد ضرب الله تعالى به المثل للوعيد بمن اجترح السوء واجترأ على المعاصي، قال الله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ (النحل: 112).

وليس من الخوف الممدوح أن يخاف الإنسان من مثله من بني البشر على نفسه ورزقه ويكتم الحق أو يذيع الباطل، فالآجال مضروبة والأرزاق مقسومة ولكن عليه أن يتوخى الحذر عند نذر الخوف إذا بدت.
فالمؤمن لا يخاف إلا الله ولا يتوكل إلا على الله، وهي للأسف الشديد في دنيا الناس على الحقيقة كلماتٌ تقال على الألسنة فإذا أدرج الناس في مدارج الاختبار بدا من بكى ممن تباكى، فما أشهر البيان عن خوف الله على ألسنة المجترئين!

ومن تاريخنا وقفاتٌ صامدةٌ تبين أن العلماء يدفعون بالحق في وجوه من ينكلون بهم ولا يخافون إلا الله رب العالمين، ها هو الإمام سعيد بن جبيرٍ رضي الله تعالى عنه في موقفه الشهير أمام الحجاج بن يوسف الثقفي كما ورد في الحلية ونقله الذهبي في السير: [ قال لسعيد وهو يرسف في قيوده: ما اسمك ؟ قال: سعيد بن جبير، قال: أنت شقي بن كسير. قال: بل أمي كانت أعلم باسمي منك. قال: شقيت أنت وشقيت أمك. قال: الغيب يعلمه غيرك. قال: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى. قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها. فقال الحجاج: ويلك يا سعيد. قال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار. قال: اختر أي قتلة تريد أن أقتلك، قال: اختر لنفسك يا حجاج، فو الله ما تقتلني قتلة إلا قتلتك قتلة في الآخرة. قال: اذهبوا به فاقتلوه. فلما خرج من الباب، ضحك، فأخبر الحجاج بذلك، فأمر برده، فقال: ما أضحكك؟ قال: عجبت من جرأتك على الله وحلمه عنك! فأمر بالنطع فبسط، فقال: اقتلوه. فقال ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ (الأنعام:79) قال: شدوا به لغير القبلة. قال: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ (البقرة: 115) قال: كبوه لوجهه. قال: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾ (طه: 55) قال: اذبحوه قال: إني أشهد وأحاج أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني يوم القيامة. ثم دعا سعيد الله وقال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي. فذبح على النطع.
وعاش بعده خمس عشرة ليلة قضاها في عللٍ متواصلةٍ من الآلام حتى لقي حتفه ] ( محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي / سير أعلام النبلاء ص332:331 ج4 مؤسسة الرسالة للطبع والنشر 2001م "بانتقاء وتصرفٍ يسيرٍ جداً").

وأخيراً:
فمن الخير للعباد أن يداوموا على الموازنة بين الخوف والرجاء في قلوبهم، فإن شدة الخوف يمكن أن تصيبهم باليأس والقنوط وإن غمرة الرجاء يمكن أن تلقيهم في بحار الأماني بلا زادٍ من الطاعات والقربات، والله تعالى قد صَفَّى الحساب بينهما بلا تقدمٍ لأحدهما على الآخر فقال تعالى: ﴿ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾ (الإسراء من الآية 57).

[ والقلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر ومتى فقد الجناحان فهو عرضةٌ لكل صائدٍ وكاسرٍ، وأكمل الأحوال اعتدال الخوف والرجاء وغلبة المحبة فالمحبة هي المركب والرجاء حادٍ والخوف سائقٌ والله الموصل بمنه وكرمه ] (مدارج السالكين 492"سابق")، وهكذا كان العظماء من هذه الأمة في الرغبة والرهبة [ فعن الحسن رضي الله تعالى عنه أن أبا بكرٍ الصديق رضي الله تعالى عنه قال: ألم تر أن الله ذكر آية الرخاء عن آية الشدة وآية الشدة عند آية الرخاء ليكون المؤمن راغباً راهباً لا يتمنى على الله غير الحق ولا يلقي بنفسه إلى التهلكة ] (حياة الصحابة 730"سابق")
خفِ الله وارجوه لكلِّ عظيمةٍ
ولا تطع النَّفس الّلجوج فتندما

وكن بين هاتين من الخوف والرَّجا
وأبشر بعفو الله إن كنت مسلما



وسبحان الله المنعم بالخوف على بعض خلقه ليرتدعوا، ويُكرم بعض عباده بالأنس والمحبة والشوق لجنابه ليزيدهم بِرّاً وهدى، وهو العالِم بما يصلحهم، فبره زائد وكرمه بين الخلائق عائد.
نستمنح مولانا الكريم منح الهداية وأمن النفوس والأرواح وأن لا يبتلينا بالغفلة ولا يسلط علينا شرارَ خلقه ونسأله سبحانه أن ينشر علينا لواء الأمان يوم الفزع الأكبر إنه ولي المؤمنين.
والحمد لله في بدءٍ وفي ختمٍ.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.42 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.51%)]