الموضوع: ضبط النفس
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 26-10-2020, 09:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,100
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ضبط النفس

فجاء رجل مؤمن، انظروا كيف يتم ضبط الأعصاب، انظروا كيف التصرف في المواقف الحاسمة: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى)، ماذا سيفعل هذا الرجل؟
أهل القرية يهددون الرسل، أهل القرية يعلنون الشرك علانية، انتبهوا معي بدقة إلى أصل القصة، مشركون بالله، ويستهزؤون بالرسل، يعلنون أنهم سيعذبونهم، وسيقتلونهم، ويأتي الرجل يسعى ماذا سيفعل؟ (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) أرأيتم الأسلوب، أريتم ضبط الأعصاب، أرأيتم كيف التصرف في مواقف الشدة، يقول: يا قومي، بأحب الألفاظ إليه، وكان المتوقع بحدود فهمنا القاصر أنه ما دام هؤلاء يهددون الرسل، ويؤذنهم، ويريدون أن يقتلوهم؛ أن يأتي هذا ويلتحم بمعركة مع هؤلاء المشركين، لا، بل يقول بأحب الألفاظ إليهم: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
هل ستواجهون منكراً أعظم من هذا؟ أي منكر رأيتموه لن يكون أعظم من منكر أهل القرية، لأن أهل القرية مشركون كفروا بالله، هددوا الرسل، استهزئوا بالله، ومع ذلك يأتي هذا الرجل ويقول هذه الكلمات الهادئة، هذه الكلمات العاقلة، هذه الكلمات المطمئنة، ويثني الله - جل وعلا - عليه في نهاية القصة: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ).
فإذا رأيتم منكراً لا نقول لا تغيروه - كلا وحاشا -، ولكن ضبط الأعصاب مطلب شرعي لنعرف كيف نتصرف.
إذا اللهَ الله بالحلم، وتدريب النفس على ذلك، الحلمَ الحلم، وإنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، وقدوتنا في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
روى أنس أن رجلاً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجذبه من عنقه قال: يا محمد أعطني من مال الله، يقول أنس: حتى رأيت أثر الجذبة بين رقبته وحتفه - صلى الله عليه وسلم -، ماذا فعل - صلى الله عليه وسلم -؟ تبسم، وأعطاه حتى أرضاه، حلم عجيب، ولا عجب فهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
يوسف - عليه السلام -:
تصوروا أن إخوانه الذي آذوه، وألقوه في البئر حتى سيق مملوكاً، واشتري بثمن بخس، وسجن سنوات طويلة، ثم بعد ذلك يصبح عزيز مصر، فلما جاءت قصة أخيه قال أخوته: (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) ماذا يقصدون؟
يقصدون يوسف - عليه السلام -، هذا الذي أذوه، وأهانوه، وهو الآن عزيز مصر، ماذا فعل يوسف؟ وانظروا إلى ضبط النفس: (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ)، حتى ما أراد أن يجرح مشاعرهم بهذه الكلمة، نعم حتى كلمة (أنتم شر مكاناً) ما نطقها بل قالها سراً في نفسه، مع أنه وهو في موقعه عزيزاً لمصر يستطيع أن يأخذهم، وأن يعاقبهم، وأن يعذبهم، وأن يقتلهم، لكن مجرد أن يجرح مشاعرهم مع أنهم أذوه من قبل، بل وإلى الآن هم يجرحون مشاعره عندما قالوا: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)، يتهمونه بالسرقة أيضاً رغم أنه لم يسرق - عليه السلام -، وإنما هي تهمة لُبّست عليه وهو صغير، ومع ذلك لم يرد - عليه السلام - أن يجرح مشاعرهم، وهذا والله هو كظم الغيظ مع القدرة على التنفيذ، مع القدرة على المعاقبة.
عندما كان - عليه السلام - صغيراً، وأخذوه وألقوه في البئر؛ لم يكن يملك من أمره شيئاً، ولكن الآن هو عزيز مصر، ولو أراد أن ينتقم منهم لفعل، ولكن ليست قصة انتقام، بل حتى أن يجرح مشاعرهم بكلمة واحدة لا يريد.
الأحنف وهو سيد قومه يقال أنه إذا غضب غضبَ له مائة ألف، لا يسألونه فيما غضب، لكن متى يغضب الأحنف؟ قيل له: ممن تعلمت الحلم؟ قال: تعلمته من قيس بن عاصم حيث كان يوماً جالساً مع أصحابه في مجلسه، فجاءوا له برجل مقيد يرسف بالحديد، وقالوا له: هذا أبن أخيك قتل ابنك، فالتفت إلى أبن أخيه وقال: يا ابن أخي أقتلت ابن عمك، وأسأت إلى رحمك، وأثمت نفسك.
ثم التفت إلى ابنه وقال: قم أطلق سراح ابن عمك، وأدِّ الدية إلى أمك، وجهز أخاك، ثم آذنِّا بعد ذلك، واستمر في مجلسه، نعم لم يتحرك من مجلسه، الله أكبر.
ميمون بن مهران:
كان جالساً مع أصحاب في مجلسه، فجاءت الجارية تحمل مرقة حارة لتقدمها لهم، فعثرت، وسقطت المرقة على ميمون بن مهران، فغضب غضباً شديداً، وكاد أن يعاقبها، فقالت له: حسبك، ألم تسمع إلى قوله - تعالى -: (والْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) فكظم غيظه، قالت: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال: قد عفوت عنك، قالت: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال: أنت حرة لوجه الله - جل وعلا -.
الحلم أيها الأخوة زين، ومن زينة الرجال:
ألا إن حلــــــــــــــــــــم المرء أكرم نسبة *** تســـامى بها عند الفخار حليم
فيا رب هب لي منك حلماً فإنني *** أرى الحلم لم يندم عليه كريم
أحب مكارم الأخلاق جهدي *** وأكره أن أعيب وأن أعابا
وأصفح عن سباب الناس حلماً *** وشر الناس من يهوى السبابا
ومن هاب الرجال تهيــــــــــــــــــــــــــبوه *** ومن حقـــــــــر الرجال فلن يهابا
- الأعراض عن الجاهلين: وهذا مما يساعد على ضبط النفس يقول - جل وعلا -: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، ويقول: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)، ويقول: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً).
ومرة أخرى كان الأحنف يسير إلى مجلسه، وورائه رجل يتبعه، ويسبه، ويشتمه، فلما قرب الأحنف من بيته وقف، وقال لهذا الرجل الذي يسبه ويشتمه، وكان يجري خلفه منذ مسافة: يا أخي أعطني ما بقي عندك، أكمل السب والشتام، فأستغرب الرجل فقال: لماذا؟ قال: أخشى أن أدخل إلى حيي وأنت تسبني، فيراك سفهاء قومنا فيؤذوك، وأنا لا أريد أن يؤذوك، فأطرق الرجل حياء وانصرف.
ولقد أمر على اللئيــــــــــم يسبني *** فمضيــــــــــــت ثم قلت لا يعنيني
لو كل كلب عوى أقمته حجراً *** لأصبح الصخر مثقالا بدينار
فالإعراض عن الجاهلين منهج يؤدي إلى ضبط النفس.
- دفع السيئة بالحسنة: يقول - تعالى -: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
- الاستشارة: نعم مما يعين على ضبط النفس الاستشارة فيما يجب اتخاذه من المواقف الطارئة، والمفاجئة، والاستعداد لذلك: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).
ولكن ما معنى أن نتشاور؟
هو أن نقول: نتوقع أن يحدث كذا، واحتمال هذا اليوم أن يستفزنا أحد، واحتمال عند وقوع هذا الأمر أن يحدث كذا، ماذا تنصحونا؟
فنتشاور عن الحدث قبل وقوعه، فإذا وقع كنا قد قلبنا النظر، وإذا نحن قد استشار بعضنا بعضاً، فنعرف كيف نتصرف، أما إذا أقدمنا دون استشارة فقد يكون أحدنا يرى الحسن خطأ، والخطأ حسناً: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً).
- الصبر والتقوى: يقول - تعالى -: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)، ويقول: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، ويقول: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
ويقول الشاعر في الصبر:
أصبر قليلاً فبعد العسر تيسير *** وكل وقت له أمر وتدبير
وللمهيمن في حالاتنا قـــــــــــــــــــــدر *** وفـــــــــــــوق تدبيرنا لله تدبير
أصبر فبالصبر خير لو علمت به *** لكنت باركت شكراً صاحب النعم
وأعلم بأنك إن لم تصطبـــــــــــر كرماً *** صبرت قهراً على ما خط بالقلـــــم
كن حليماً إذا بليت بغيـــظ *** وكن صبوراً إذا أتتك مصيبة
فالليالي من الزمان حبالى *** مثقـــــــــــــــلات يلدن كل عجيبة
أصبر قليلاً وكن بالله معتصماً *** لا تعجلن فإن العجز بالعجل
الصبر مثل اسمه في كل نائبة *** لكن عواقبه أحلى من العسل
إذا جرحت مساويهم فؤادي *** صبرت على الإساءة وانطويت
وجئت إليهمُ طلق المحيـــــــــا *** كأني لا سمــــــــــــــــــــــــعت ولا رأيت
فالصبر من أعظم العلاج في مسالة ضبط النفس.
- الالتزام بما ورد في الشرع لذهاب الغضب: وهي وسيلة عظيمة تجمع عدة وسائل، فأنتم تعلمون أن موضوع ضبط النفس يعني مدافعة الغضب، فكيف يدفع الواحد منا غضبه.
فمثلاً إذا غضب الواحد منا على زوجته، أو على ابنه، أو على أقاربه، أو أثاره الغضب على أمر من أمور الشرع، فكيف يذهب هذا الغضب؟
هذا الموضوع يحتاج بذاته إلى محاضرة خاصة، وأحيل الأخوة إلى كتاب للشيخ محمد المنجد بعنوان (شكاوى وحلول)، وهي رسالة جميلة ذكر فيها باباً عن الغضب، وكيف نعالج الغضب، وأذكر لكم هنا أبرز الوسائل التي نستطيع أن ندفع بها الغضب، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها:
الاستعاذة بالله من الشيطان: فعن سليمان بن سرد قال: كنت جالساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجلان يستبان، فأحدهما أحمر وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان لذهب عنه ما يجد))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا غضب الرجل فقال: أعوذ بالله!! سكن غضبه)).
إذا التعوذ من الشيطان وسيلة مهمة من وسائل ضبط النفس.
السكوت: فيا أخي الكريم إذا غضبت إياك والكلمة أخرج واترك الموضع قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا غضب أحدكم فليسكت)).
السكون وتغيير الحالة التي هو عليها: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإذا ذهب عنه الغضب وإلا فيضطجع)).
وهذا حديث يبين لنا كيف نتصرف: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصني، قال: ((لا تغضب))، قال: أوصني، قال: ((لا تغضب))، قال: أوصني، قال: ((لا تغضب)) يقول هذا الصحابي، ففكرت حين قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله.
فإذا كنت مع زوجتك تتكلم مثلاً اعلم أنك لو أنفذت غضبك فقد يقع الطلاق، وماذا بعد الطلاق؟ لو كنت مع خصم لك، وغضبت؛ فقد يحدث ما لا يحمد عقباه.
أذكر هنا قصة عجيبة حدثت قبل سنوات: امرأة من أهل السنة ذهبت لشراء اللحم، وكان بعض الجزارين في تلك البلاد من الرافضة، فذهبت إلى أحد الجزارين وكان رافضياً، فقالت: أريد منك لحم، فقام وأعطاها لحماً، فلما نظرت اللحم فإذا هو قد غشها، فغضبت ورمت اللحم عليه وقالت: أعط هذه للخميني (وكان ذلك أيام الثورة)، فما كان من هذا الجزار إلا أن رفع السطور وقسمها نصفين، عليه من الله ما يستحق.
أرأيتم الغضب؟
فالغضب أيها الأخوة سبب لأكثر مشاكل القتل، نعم تبدأ مشاجرة عادية، ثم تتطور شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى القتل.
الدعاء: وهو من أعظم ما يضبط النفس، فالدعاء سلاح، أن يلح الإنسان على الله بالدعاء أن يرزقه حلماً وعلماً، ويقيناً وثباتاً، نعم خاصة الثبات، أدعوا الله أن يثبت أقدامكم.
هذه أبرز وسائل ضبط النفس.
وأخيراً أقف مع نقطتين مهمتين:
* الأولى ثمار ضبط النفس:
- أولاً ثمرة من ثمار ضبط النفس الاتصاف بصفة من صفات المتقين: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
تفويت الفرص على الأعداء، وحماية الصحوة من المتربصين.
يا شبابنا!!، يا إخواننا!!، والله إن الأعداء يتربصون، ويتمنون أن يقع من شباب الصحوة، ومن طلاب العلم تصرفات تكون مبرر للإيقاع بهم، ففوتوا الفرصة عليهم، فإن من أعظم ثمار ضبط النفس تفويت الفرصة على الأعداء.
- تجنيب النفس الحسرة، والندامة.
وكم من الناس في السجون يتحسرون على نزوة حصلت، كم من الرجال في داخل بيوتهم يتأثرون ويتحسرون على خراب بيوتهم.
جاءني رجل منذ أيام يقول لي: أبحث لي عن مخرج، قلت: ما الذي حدث؟ قال: طلقت زوجتي، وهذه هي المرة الثالثة أي بانت منه، وكنت مغضباً، ومشكلتي الآن أطفالي، ماذا أفعل بهم؟ إن جلسوا معي مشكلة، وإن ذهبوا معها مشكلة.
وهو الآن يعيش في حالة لا يعلمها إلا الله، ولم أجد له مخرج لأنني وجدت أن أسباب الغضب التي أدت به إلى الطلاق لا تبرر أن نعتبر أن إحدى تلك الطلقات خارجة عن إرادته، فقلت: لا أجد لك حلاً، واذهب إلى من هو أعلم مني.
وهو الآن يعيش حسيراً، كسيراً، متألماً؛ بسبب غضب لم يكظمه، فخرب بيته.
وإنني هنا أوجه الآباء والأمهات إلى الترفق بأبنائهم، وإلى كظم الغيظ مع من هم تحت أيديهم، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - رفيقاً بأبنائه، يداعب الحسن والحسين، ويفرح فرحاً شديداً بمقدميهما، كان - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي يحمل إمامة، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها، كان لطيفاً بالأطفال، كان يداعب أبا عمير طفل من الأطفال ويقول له: يا أبا عمير ما فعل النغير (طائر كان يلعب به).
أما ما يفعله بعض الآباء فخذوا بعض هذه القصص، ولعل فيها العبرة:
دخل أحد الآباء يوماً على أولاده، فوجدهم قد عبثوا في أثاث المنزل، تعلمون عن لعب الصغار يلحق بعضهم بعضاً، وقد يرمون كرة وقد يكسرون شيئاً، أو يفسدون شيئاً، فغضب غضباً شديداً، ونادى أكبرهم، وربطه بيديه ربطاً شديداً، وأقسم على أمه إن فككته من رباطه فأنت طالق.
وكان الطفل يبكي بكاء شديداً، ويتأوه، والأب لا يتصرف ولا يحرك ساكناً، حتى ازرقت يدا الطفل، أخذه إلى المستشفى فقالوا له: لا خلاص إلا بأن نقطع يدا ابنك، حيث أن هذا الدم إن وصل إلى القلب مات الطفل، فاضطر بعد أن اقتنع أن يوقع على قطع يدا أبنه، وهو يبكي، ولما انتهت العملية وأفاق الطفل، وجاء أبوه يزوره وكان يقول لأبيه: يا أبت أعد إلى يدي ولن أعبث بأثاث المنزل، والأب كلما رأى أبنه بكى وتأثر بسبب تصرف أهوج كان هو أعقل من أن يفعل ذلك.
ويقول لي أحد الآباء إن أحد أبنائي كان عاصياً، ومفرطاً، وكنت آمره وأنهاه ولم يأتمر، ولم ينته، وقد كان هذا الأب قواماً صواماً، فقام ودعا عليه، وأثناء مجيء ابنه من إحدى المباريات وقع له حادث وأصيب بشلل، ولله لقد رأيت هذا الابن وهو مشلول على الكرسي، وأبوه يقول: أن أذاه بعد شلله كان أعظم من أذاه قبل شلله، كان يكسر زجاج البيت، كان يسب أهله، كان يؤذيهم، وفي نهاية المطاف ما كان منه إلا أن أحرق نفسه مع البيت، ثم توفي أبوه بعد ذلك.
فبعض الأمهات هداهن الله تدعو على ابنها غضباً، وقد توافق ساعة إجابة، فيا أختي الكريمة عودي لسانك بدلاً من أن تقولي: "أهلكك الله" أن تقولي: "أصلحك الله":
عود لسانك قول الخير تنج به *** من زلة اللفظ أو من زلة القدم
فبدل أن تسب؛ ادع لأبنك، بدلاً أن تدعو عليه ادع له: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً).
أحد الآباء شد على ابنه، وغضب عليه، وأمره أن يخرج في الظلام لينفذ له حاجة من الحوائج، والابن الصغير الخائف يقول: لا أستطيع، فأصر عليه والده وهو يقول له: أنت جبان، أخرج، فخرج وكان عمره عشر سنوات، فلما عاد الابن رجع وقد فقد عقله، فأقول: رفقاً بأبنائكم، لطفاً بأبنائكم، رحمة بأبنائكم.
- القدوة الصالحة: طفل من الأطفال خرج في يوم من الأيام مع مجموعة من الدعاة، فلما وصلوا إلى القرية التي ذهبوا إليها قالوا: كل منا يذهب إلى شارع، ويطرق البيوت على أهل هذه البلدة، ويقول: إن إخواننا لكم قد جاءوا لزيارتكم، وهم سيلقون درساً أو محاضرة في المسجد الفلاني.
هذا الطفل ذهب وطرق باب أحد الناس، فخرج عليه صاحب البيت وربما كان نائماً، أو مشغولاً، أو لسبب من الأسباب، فلما خرج قال للطفل: لماذا طرقت الباب، قال: نحن إخوان لكم جئنا من مدينة كذا، ونريد أن نزوركم، وأن تحضروا معنا بعض الدروس، قال: أمن أجل هذا تطرق الباب، ثم بصق في وجهه بغضب، فما كان من هذا الطفل إلا أن مسح البصاق في وجهه وهو يقول: الحمد لله الذي أوذيت في سبيلك، ثم انصرف، هذا الرجل وقف مشدوهاً، فما كان منه إلا أن لحق بالطفل وقال له: قف يا بني، لقد أخطأت عليك، أين إخوانك فأنتم ضيوف علينا، وأريد أن تسامحني، ثم ذهب معه إليهم، وجلس معهم وأكرمهم.
أرأيتم القدوة الصالحة نحتاج إلى قدوات لضبط النفس.
* أخيراً وقفات مهمة:
- الوقفة الأولى: اعلموا أن عدم ضبط النفس مظهر ضعف لا مظهر قوة، يعني إذا جاء إليك إنسان وقال: إن فلاناً شتمني، أو تصرف كذا، وإني ضربته، فلا تقل: له أنه بطل، أبداً فهو بالحقيقة ضعيف، ((ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً).
يقول الإمام أحمد - رحمه الله - مبيناً هذه المسألة: "الصدع بالحق عظيم يحتاج إلى قوة وإخلاص، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يخذل، فمن قام بهما كاملاً فهو صدّيق، ومن ضعف فلا أقل من التألم، والإنكار بالقلب، وليس بعد ذلك إيمان" إذن عد ضبط النفس مظهر ضعف لا مظهر قوة.
- الوقفة الثانية: هناك فرق عظيم بين ضبط النفس وبين الذل، فقد يقول قائل: إن المعنى أن كل ما جاءنا نصبر عليه، وهذا يؤدي بنا إلى الذل والضعف، أقول: لا.
فرق بين الذل وبين ضبط النفس:
ضبط النفس هو تحمل الأذى في سبيل الله، من أجل الله، ومن أجل دعوته.
ضبط النفس هو تحمل الأذى، والنظر في مئآلات الأمور.
ضبط النفس هو مراعاة قواعد المصالح والمفاسد.
فإذا كان تصرفك سيجر علينا مصيبة أعظم فلا، وبارك الله فيك، أما إن كنت قادراً ولن يترتب على ذلك مفسدة؛ فأقدم وبارك الله فيك، إن كنت صاحب سلطة فأدب هؤلاء.
أما الذل فهو تحمل الأذى والإهانة من أجل مصلحة النفس، كثير من الناس يتحمل الأذى والإهانة من أجل مصلحة نفسه، يخشى على وظيفته، أو يخشى أن يسجن، أو يخشى من أي أذى شخصي، وهذا هو الذل.
هؤلاء هم الذين يتربون على الذل، أما أن تتحمل في سبيل الله فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قد وضع السلى على رأسه الكريمة فما حركه، وصبر - صلى الله عليه وسلم -، بل شجوا رأسه وصبر - صلى الله عليه وسلم -.
فيجب أن نفرق بين ضبط النفس وبين الذل حتى لا يقع وهم، أو يتصور أحد منكم أن هناك خلط بين الأمرين.
(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى)، لا، نحن لا نقبل بالذل، ولا نرضى به أبداً، ولكن هناك فرق بين الأمرين فلتنتبهوا.
* الوقفة الأخيرة:
أن الغضب لله إذا انتهكت محارمه مطلوب شرعاً، وهذا آخر ما أختم به كلامي لأهميته، الغضب من أجل الله إذا انتهكت محارمه مطلوب شرعاً، ولكن بضوابطه الشرعية، ضوابط المصلحة والمفسدة.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - الرحيم الحليم قد غضب غضباً شديداً عندما خرج، والصحابة يتكلمون في القدر، وكأن ما تفقأ في وجهه الرمان - صلى الله عليه وسلم - أو كحب الرمان، وقال: ((أيضرب بكتاب الله بعضه ببعض، وأنا بين أظهركم)).
وعندما بلغه أن معاذاً كان يطيل الصلاة في الناس غضب - صلى الله عليه وسلم -، وقال: ((أفتان أنت يا معاذ)).
وعندما دخل على عائشة ووجد في غرفتها صور غضب - صلى الله عليه وسلم -.
عندما جاء أسامة يشفع في المخزومية غضب - صلى الله عليه وسلم -، وقال: ((يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله)).
وعندما قتل أسامة الرجل الكافر الذي قال في آخر حياته "لا إله إلا الله"، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((أقتلته وقد قال لا إله إلا الله؟ ماذا تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة))، وغضب - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن غضبه لم يخرجه عن الحد الشرعي، وحاشاه من ذلك، بل إن غضبه شرعي - صلى الله عليه وسلم -.
إذن الغضب لله له ضوابطه الشرعية، وإذا لم يؤدِّ إلى مفسدة أعظم، وضبط بهذه الضوابط فهو مطلوب، والذي لا يغضب لله لا خير فيه.
وقد ذكر بعض الشعراء بعضاً من ذلك:
إذا كنت محتاجاً إلى الحلم إنني *** إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
ولي فرس للحلم بالحلم ملجـــــــــــــم *** ولي فرس للجهـــــــــــــــــــــــل بالجهل مسرج
فمن شــــــــــــــــاء تقويمي فإني مقوم *** ومن شـــــــــــــــــــــــــــــــاء تعويجي فإني معوج
ونحن لا نسميه جهلاً، ولكن الشاعر سماه جهلاً.
إذا كنت بين الحلم والجهــــــــــــل ناشئاً *** وخيـــــــــــرت أنى شئت فالحلم أفضل
ولكن إذا أنصفت من ليس منصف *** ولم يرض منك الحلم فالجهل أمثل
والجهل هنا يقصد به الغضب.
ولا خير في حلم إذا لم يكن له *** بوادر تحمي صفــــــــــــوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له *** حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فأقول: إن الغضب في الله، والغضب لله، ولمحارم الله، وضبط بضوابطه الشرعية؛ فهو مطلوباً شرعاً.
وختاماً:
أسال الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله، وصحبه، وسلم، تم بحمد الله وتوفيقه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.63 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.52%)]