انحلال الزواج
د. عبدالسلام الترمانيني
ج – الطلاق في المسيحية:
ورد في الإنجيل على لسان السيد المسيح نصٌّ غامض فيه ما يفيد عدم جواز الطلاق بشكل مطلق، فقد جاء في الإنجيل المذكور أنَّ رجلاً سأل السيد المسيح، هل يحق للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب، فأجاب: إن الذي خلق من البدء، خلقهما ذكرًا وأنثى؛ ومن أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكون الإنسان جسدًا واحدًا، إذًا ليس بعد اثنين؛ بل جسد واحد، فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان[10]، ويستفادُ من هذا النَّصّ أنَّ الطلاق غير جائز لسبب من الأسباب، ثُمَّ يَجِيءُ في الإنجيل نفسه نَصٌّ آخَر يقول فيه السيد المسيح: "إن من طلق امرأته – إلا بسبب الزنا – وتزوج بأخرى يزني"[11]، ويُسْتفاد من هذا النص أنَّ الطلاق غير جائز إلا في حالة الزنا.
غير أنَّ الكنيسة لم تَسْتَطِعْ في مطلع عهدها أن تفرض عدم جواز الطلاق؛ لأن قاعدة الطلاق كانت مقرَّرة في القانون الروماني ولا يمكن تجاوزها، وقد أصدر أباطرة الرومان الذين اعتنقوا المسيحية مراسيم عددوا فيها الحالات التي تجيز الطلاق وفي مقدمتها الزنا، فلزمت الكنيسة هذا السبب وأجازت الطلاق في حالة زنا الزوجة، آخذة بأحد قولي المسيح المجيز للطلاق بسبب الزنا، وقد سادت قاعدة الطلاق المقررة في القانون الروماني في أوربا حتى عهد الملك شارلماني (742 – 814م)، فلما قويت سلطة الكنيسة الغربية (الكاثوليكية) أخذ آباؤها بقاعدة عدم جواز الطلاق؛ لأيِّ سبب من الأسباب إلا بالموت، وفرَضَتْ هذه القاعدة في القوانين الدنيوية والتَزَمَتْ بتطْبيقها المحاكمُ تَحْتَ رِقابة الكنيسة، وكل ما فعلته الكنيسة في حال عدم اتفاق الزوجين أنها أقرَّت مبدأ التفريق الجسدي، بحيثُ يَعيشُ كلٌّ من الزوجين منفصلاً عن الآخر (في الفراش والمائدة) على أن يظلَّ عقدة زواجهما قائمًا، ولا يحلُّ لهما فسخه حتَّى بإرادتهما.
ولمَّا ظهرت في القرن السادس عشر حركة الإصلاح التي نادى بها (لوثر)، واحتج فيها على تصرُّفات الكنيسة؛ أجاز المذهب الجديد (البروتستانتي) قاعدة الطلاق، لا بسبب الزنا فحسب؛ بل أجاز الطلاق باتِّفاق الزوجين إذا استحال دوام العشرة بينهما.
وأخذت قوانين البلاد التي انتشر فيها هذا المذهب بهذه القاعدة؛ كألمانيا؛ وإنكلترا؛ والدانمارك؛ والسويد؛ وغيرها من البلاد الأخرى، ولما نشبتِ الثورة الفرنسية سنة 1789م أجازت الطلاق بقانون 20 سبتمبر 1792 م، وبموجبه اعتبر الزواج عقدًا مدنيًّا يخضع لقواعد الفَسْخ؛ شأنه في ذلك شأن سائر العقود، ثم تأيَّد جواز الطلاق بالقانون المدني الذي أصدره نابليون سنة 1804م مع قيود روعيتْ فيها مصلحة الأسرة، وقد سرى جواز الطلاق بعد ذلك إلى أكثر الدول الكاثوليكية، وشَمل في الوقت الحاضر جَميع القوانين في دول الغرب، وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أكثر البلاد تسامُحًا في الطلاق، ففي كل سنة يزداد عدد المطلقين حتى بدا الزواج؛ كأنه علاقة مؤقتة بين زوجين[12].
أمَّا الكنيسة الشرقية (الأرثوذكسية) التي كان يرعاها أباطرة الشرق البيزنطيون، فقد ظلَّت آخذة بقاعدة جواز الطلاق في الحالات التي كانت مُقررة في القانون الروماني، الذي صاغه الإمبراطور جستنيان الأول (482 – 565م)، وفيها سند من قول المسيح، وقد سرَى الأخذ بِهذه القاعدة إلى الكنائس الشرقية الأخرى، مع اختلاف بينها من حيث السعة والضيق.
على أنَّ نفاذ الطلاق في جميع المذاهب المسيحية الغربية والشرقية لا يتم بالإرادة المنفردة، أو بالاتفاق؛ بل لا بد فيه من صدور حكم قضائي[13].
د – الطلاق في الجاهلية:
كان الرجل في الجاهلية إذا أراد تطليقَ زوجتِه قال لها: "حبلُكِ على غاربك"؛ أي خلَّيْتُ سبيلك فاذهبي حيث شئت، أو يقول لها: أنت مُخلًّى كهذا البعير، أو الحقي بأهلك، أو اذهبي فلا أنده سربك[14]، أو يقول لها: بِينِي، أي فارقي (من البَيْن: وهو الفراق) ومنه قول الأعشى:
أَيَا جَارَتَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ كَذَاكِ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ
وكان الطلاق يتِمّ على ثلاث مرات متفرِّقات، فإذا طلق الرجل امرأته للمرة الأولى والثانية جاز أن يعود إليها، أما إذا طلَّقها للمرَّة الثَّالثة فلا تَحِلُّ له إلا بعد أن تتزوَّج من رجل آخر يحل لها، وكانوا يشترطون عليه أن يطلقها بعد العقد، فتعود إلى زوجها الأول، وكانوا يُطْلِقون على الرَّجُل الذي يتزوَّجُها بعد طلاقها اسم (المحلل)، ويلقبُّونه بالتَّيْسِ المُستعار؛ لأنَّ زواجه من المرأة كان زواجًا صوريًّا، وقد دُعِي لِهذه المهمة ليحلل عودة المرأة إلى زوجها.
هـ ـ الطلاق في الإسلام:
أخذ الإسلام بمبدأ الطلاق على النحو الذي كان مألوفًا في الجاهلية؛ ولكنه أخضعه لأحكام استبعد فيها سوء استعماله، ورتَّب للمرأة حقوقًا، لم تكن تَحْظَى بها في الجاهلية، ففي الجاهلية كان الرجل يطلق امرأته للمرة الأولى، وقبل أن تنقضي عدتها يُراجعها، ويفعل ذلك عدة مرات ما دامت في العِدّة، وبذلك كان يضارُّها، وقد شكت امرأة لرسول الله ما صنع زوجها، فنزلت الآية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229][15] ففي هذه الآية تحدد الطلاق بمرَّتَيْنِ ففي المرَّة الأولى يكون رجعيًّا، بمعنَى أنه يَحِقُّ للرجل أن يراجع زوجته قبل انقضاء عدتها، أمَّا إذا طلَّقها مرَّة أخرى، أو مضت عدتها ولم يراجعها، فتبين منه، ولا تحل له إلا بعقد جديد ومهر جديد، وبذلك قطع الإسلام سوء استعمال الطلاق، وحمى المرأة من مضارة زوجها، وإذا طلَّقها بعد ذلك مرة ثالثة، فتبين منه بينونة كبرى بمعنى أنها لا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجًا غيره ويدخل بِها، ثُمَّ يطلِّقها بإرادته أو بالاتفاق، وفي ذلك يقول تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وذلك بعد قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}، وبذلك نهى الإسلام عن الزواج الصوري الذي كان يدعى إليه (المحلل) في الجاهلية، واشترط أن يكون الزواج حقيقيًّا لا شُبْهَة فيه، ولا تواطُؤ.
والطلاق حق يملكه الرجل، ويمكن للمرأة أن تَمْلِكَه، ففي الجاهلية كان بعض النسوة من الشريفات يشترطن على أزواجهن أن يكون أمرهن بيدهن؛ أي أن يكون لهن حق تطليق أنفسهنَّ متى شئن، وكانت علامة التطليق ألا تصنع المرأة طعامًا لزوجها، أو أن تحول باب خبائها، فإن كان قبل المشرق حولته قبل المغرب، فيعلم الزوج أن زوجته طلقت نفسها منه فلا يأتيها.
ويروي صاحب "الأغاني" أن ماوية زوجة حاتم الطائي طلَّقته وكان أمرها بيدها، وذلك أنه جاءها، فرآها حولت باب خبائها فانصرف[16].
ومِن هؤلاء النسوة سلمى بنت عمرو بن زيد النَّجَّارية، وهي أم عبدالمطلب بن هاشم جد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفاطمة بنت الخرشب الأنمارية، وتدعى (أم الكَمَلَة)؛ لإنجابِها أربعة أولاد كل منها كان يلقب بالكامل[17]، وعاتكة بنت مُرّة بن هلال، وهي أم هاشم، وعبدشمس، والمطلب أبناء عبدمناف، وأم خارجة: وهي عمرة بنت سعد البجلية، وكان يضرب بها المثل فيقولون: (أسرع من نكاح أم خارجة)، ويدعى هؤلاء النسوة بالمنجبات؛ لأنهن ولدن عدة بطون من العرب، وعرف أولادهن بالنجابة، ونالوا في قومهم شرف المقام.
وقد أخذ الإسلام بِحقِّ المرأة في أن تشترط على زوجها تطليق نفسها منه، فإذا قالت طلقت نفسي منك، أو اخترت نفسي كانت طلقة بائنة عند أبي حنيفة، بحيث لا تحل له إلا بعقد جديد ومهر جديد، وعند الشافعي كانت طلقة رجعية، بحيث يمحو الزوج أثر الطلقة إذا راجعها في مدة العدة، وهذا ما أخذ به قانون الأحوال الشخصية المصري والسوري، على أنه يبقى للزوج حق طلاقها متى شاء؛ لأنه صاحب الحق الأصلي في التطليق، ومنحه المرأة حق تطليق نفسها منه؛ إنما هو تفويض لا يسلبه حق الأصيل.
2 - الخلع:
الخلع: هو إزالة الزوجية بطلب من المرأة، إذا كرهت من زوجها أمورًا لا تطيقها، وقد أفسح الإسلام لمثل هذه المرأة المجال للتخلُّص من زوجها، لقاء مال تدفعه إلى زوجها، فتفدي نفسها بالمال، أو بمنفعة تقدمها للزوج؛ كإرضاع ولده أو حضانته دون أجر، وقد استدل الفقهاء على جواز الخلع بقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}[18].
وتأيد هذا الجواز بالسنة، فقد روى البخاري أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أبغضت زوجها وكرهته، فأتَتِ النَّبيَّ – صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس لا أعتب عليه في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال الرسول: ((أَتَرُدِّين عليه حديقته؟))، وكان قد جعلها مهرًا لها، فقالت: "نعم"، فقال الرسول لثابت: ((اقبل الحديقة وطلِّقها تطليقة))، فردت عليه حديقته، وفرق الرسول بينهما، وكان ذلك أول خلع في الإسلام[19].
ويروى أن عمر بن الخطاب سمع امرأة في الطواف تقول:
فَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِعَذْبٍ مُبَرَّدِ نُقَاخٍ فَتِلْكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ قَرَّتِ
وَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِأَخْضَرَ آجِنٍ أُجَاجٍ وَلَوْلا خَشْيَةُ اللَّهِ فَرَّتِ
ففهم عمر شكواها، فبعث إلى زوجها فوجده متغير الفم، فخيَّره بين خمسمائة درهم والتمسك بها فاختار الدراهم، وطلقها[20].
ونرى عمر قد أخذ بمبدأ الخُلْعِ، وأَشْفَقَ على امرأةٍ تشكو أمرها إلى الله وهي تطوف، فطلب من زوجها أن يطلقها، أو يُخالعها على مال، فخالَعَها على مال وخلعها من عصمته.
وقد جعل الإسلام حقَّ المرأة في افتداء نفسها في مُقابل حق الرجل في الطلاق، فإذا كرهت المرأة معايشة زوجها، كان لها الحق في طلب خلعها من عصمته، وبذلك يتوازن حقها في طلب الخلع مع حقه في طلاقها إذا كره أحدهما الآخر.
وإذا رفض الزوج خلع امرأته، رفعت أمرها إلى القاضي فإذا امتنع الصلح بينهما، أمر القاضي أن تدفع المرأةُ إلى زوجها ما قبضت من مهر، أو يقرر القاضي التعويض الذي ينبغي أن تدفعه إلى الزوج، فإن لم يرضَ ألزمه القاضي بالقبول، ويثبت واقعة الخلع، ويكون طلاقًا بائنًا[21].
3 – الطلاق بحكم القاضي:
يُمكِنُ الحكم بالطلاق قضاء في أربع حالات: للضرر، والعيب، وغياب الزوج، وعدَمِ إنْفاقِه.
أ – الطلاق للضرر:
إذا أساء الزَّوج معاملة زوجته وأضر بها، وقام بسببها شقاق مستمر، فيحق للزوجة أن تطلب مِن القاضي أن يفرق بينها وبينه، ويسعى القاضي في الصلح، فإذا لم يثمر سعيه أحال الزوجين إلى حكمين من أهلهما، وفقًا لقوله – تعالى -: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}[22]، وعلى الحكمين أن يتعرفا أسباب الشقاق ويبذُلا جهدهما في الإصلاح بين الزوجين، فإذا عجزا وتبيّن أن الإساءة كلها من الزوج، قرر الحكمان التفريق وإلزامه بجميع الحقوق المترتبة عليه في الزواج والطلاق.
وإن كانت الإساءة كلها من الزَّوجة، قرَّر الحكمان التفريق بين الزوجين، وإلزام المرأة برد ما قبضَتْهُ منَ المهر، وسقوط جميع حقوقها المالية المترتبة على الزواج والطلاق، وهذا الحق ليس قاصرًا على المرأة؛ بل يحقُّ للرجل أيضًا أن يطلب التفريق من زوجته؛ للضرر الذي يلحق به من مشاكستها وعنادها، وإهمالها لواجباتِها نحوه، ونحو أولاده وبيته، حتى لا تتخذ الزوجة المشاكسة إساءتها وسيلة لتطليقها من زوجها دون مقابل، فتُحَمِّله خسارة كبيرة من باقي المهر، ونفقة العدة والمتعة (التعويض)، فإعطاء الزوج الحق في طلب التفريق للضرر يَحول - غالبًا - بين الزوجة وتعمدها الإساءة لتتوصَّل إلى الطلاق.
وإذا كان كل من الزوجين يطلب التفريق، فإن تبين أن الإساءة من الزوج، اقترح الحكمان رفض دعواه، وإن لم يعرف المسيء منهما، أو كانت الإساءة مشتركة، قرَّرا التفريق دون تعويض أو بتعويض يتناسب مع الإساءة[23].
وللموضوع تتمة