فقد بقي ابن عمر هذه المدة يقصر؛ لأنه لم يقصد الإقامة بل كان مكرهًا عليها؛ لأنه حاصره الثلج فمنعه من السفر، ودل قوله ذلك على أن المسافر يقصر ما لم يعزم على الإقامة.
وبهذا يتم الجمع بين ما اختلف من الروايات في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم، وأن الصواب أن مدة الإقامة غير محددة بأيام معينة[44].
وأيضًا كيف نقول: من نوى الإِقامة ستًا وتسعين ساعة فله أن يقصر، ومن نوى الإِقامة ستًا وتسعين ساعة وعشر دقائق فليس له أن يقصر؛ لأن الأول مسافر والثاني مقيم، أين هذا التحديد في الكتاب والسنّة؟
والصلاة كما نعلم أعظم أركان الإِسلام بعد الشهادتين فكيف نقول للأمة: إنَّ هذا الرجل الذي نوى إقامة ست وتسعين ساعة وعشر دقائق لو قصر لكانت صلاته باطلة؟
فمثل هذا لا يمكن أن يترك بلا بيان، وترك البيان في موضع يحتاج إلى بيان يعتبر بيانًا، إذ لو كان خلاف الواقع والواجب لبين.
وعليه فالمسافر مسافر ما لم ينوِ واحدًا من أمرين:
1- الإِقامة المطلقة.
2- أو الاستيطان.
والفرق: أن المستوطن نوى أن يتخذ هذا البلد وطنًا، والإِقامة المطلقة أنه يأتي لهذا البلد ويرى أن الحركة فيه كبيرة، أو طلب العلم فيه قوي فينوي الإِقامة مطلقًا بدون أن يقيدها بزمن أو بعمل، لكن نيته أنه مقيم لأن البلد أعجبه إما بكثرة العلم وإما بقوة التجارة أو لأنه إنسان موظف تابع للحكومة وضعته كالسفراء مثلاً، فالأصل في هذا عدم السفر؛ لأنه نوى الإِقامة فنقول: ينقطع حكم السفر في حقه.
أما من قيد الإِقامة بعمل ينتهي أو بزمن ينتهي فهذا مسافر، ولا تتخلف أحكام السفر عنه.
ثم إننا إذا تأملنا القول بأنه تنقطع أحكام السفر إذا نوى إقامة أكثر من أربعة أيام وجدنا هذا القول متناقضًا.
ووجه التناقض: أنه في الجمعة في حكم المسافرين، وفي غير الجمعة في حكم المقيمين، فمثل هذه الأمور تحتاج إلى دليل وتوضيح، ولهذا ما أحسن قول صاحب المغني رحمه الله لما ذكر أن تحديد السفر بالمسافة مرجوح قال: "إن التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، سيما وليس له أصل يرد إليه، ولا نظير يقاس عليه، والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه"[45].
أي: أنه حد من حدود الله يحتاج إلى دليل، فأي إنسان يحدد شيئًا أطلقه الشارع فعليه الدليل، وأي إنسان يخصص شيئًا عمّمه الشارع فعليه الدليل، لأن التقييد زيادة شرط، والتخصيص إخراج شيء من نصوص الشارع، فلا يحل لأحد أن يضيف إلى ما أطلقه الشارع شرطًا يقيده[46].
أخيرًا: كما نرى من الخلاف المتقدم يظهر أن هذه المسألة من المسائل الاجتهادية لعدم وجود نص صريح سالم من المعارض، وعليه فمن أخذ بتحديد الإقامة بأربعة أيام فله سلف في ذلك من الجمهور، وفي ذلك احتياط كما تقدم، ومن رأى أن المرجع في ضبط الإقامة غلى العرف -وهو المرجح- كضابط السفر فحسن، ولا يؤثر على هذا الاعتبار أن الناس يختلفون عرفًا في تحديد الإقامة؛ لأننا نقول:
أن اختلاف الناس لا يلغي الاعتداد بالعرف، وإلا لم يرد الشارع الناس إليه في مسائل كثيرة.
أن أهل العلم بالشرع وواقع الحياة هم الذين يحددون ما يُختلف فيه.
وما قد يشكل يُرجع فيه إلى الأصل وإلغاء الوصف الطارئ.
أما الذين يقيمون خارج بلادهم للدراسة أو لغيرها مما يستدعي إقامتهم في تلك البلاد مدة طويلة فهؤلاء على القول الراجح يجب عليهم الإتمام والصيام، وليس لهم حكم المسافر.
أما على القول بأن المدة أربعة أيام فالأمر واضح، وأما على القول بأن المرجع في تحديد الإقامة إلى العرف فلا ريب أن هؤلاء مقيمون بقطع السفر، ووجود نية الإقامة المستمرة مدة طويلة على أن ينتهي من دراسته، ولصلاحية المكان الذي قصدوه للإقامة، وكل منهم معه جميع مصالحه مما يحتاجه المقيم، ومنهم من تكون معه زوجته وأولاده، وهذه أوصاف المقيم لا المسافر، وعلى هذا فالقول أنهم يتمون ولا يقصرون، ويصومون ولا يفطرون قوي جدًا، بل هم أكثر استقرارًا ممن كان في البحر معه امرأته وجميع مصالحه، ومع ذلك قال الإمام أحمد عنه: "إنه عندي لا يقصر"[47].
[1] انظر: فتح القدير (2/ 36)، وشرح الخرشي (2/ 61)، ونهاية المحتاج (2/ 242)، والمبدع (2/ 115).
[2] انظر: المبسوط (1/ 266)، وشرح الخرقي (2/ 62)، والمجموع (4/ 241)، وكشاف القناع (1/ 512)، ومجموع الفتاوى (24/ 17).
وقال الترمذي في السنن (2/ 434): "أجمع أهل العلم على أن المسافر يقصر ما لم يجمع إقامة وإن أتى عليه سنون".
[3] انظر: البناية (3/ 19)، والمقدمات الممهدات (390).
[4] انظر: الفروع (2/ 63)، والإنصاف (5/ 70)، والمغني (3/ 147-148)، والمبدع (2/ 113)، وكشاف القناع (1/ 512).
وفي رواية في المذهب اختارها ابن قدامة ووصفها ابن رجب بأنها المذهب أن المدة التي يلزم المسافر الإتمام إذا نوى الإقامة فيها ما كان أكثر من إحدى وعشرين صلاة.
ووجه هذه الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر يوم دخوله مكة فيها، فتكون مجموع الصلوات التي صلاها بمكة إحدى وعشرين صلاة. إلا أن حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- صريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فجر الرابع بذي طوى ثم دخل مكة، أخرجه البخاري (1573).
انظر: المغني (3/ 148)، والإنصاف (5/ 69)، ومجموع الفتاوى (24/ 141).
[5] متفق عليه: أخرجه البخاري (1564)، ومسلم (1240).
[6] أخرجه مسلم (1216).
[7] متفق عليه: أخرجه البخاري (1574)، ومسلم (1259).
[8] متفق عليه: أخرجه البخاري (1653)، ومسلم (1309).
[9] انظر: مسائل الإمام أحمد برواية الكوسج (409)، والمغني (3/ 150)، وشرح الزركشي (2/ 157)، وشرح مختصر الخرقي لابن البناء (1/ 435).
[10] انظر: مجموع الفتاوى (24/ 136).
[11] أخرجه أبو داود (1235). وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام (437): رواته ثقات إلاّ أنّه اختلف في وصله. يشير إلى قول أبي داود قبه: "غير معمر لا يُسنده"، والمعنى أنه لم يرو هذا الحديث متصلاً إلا معمر بن راشد، وقد خالفه علي بن المبارك فرواه عن يحيى بن ابي كثير، عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 454).
قال النووي في الخلاصة (2/ 734): "الحديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ومسلم، ولا يقدح فيه تفرد معمر، فإنه ثقة حافظ، فزيادته مقبولة".
وهذا فيه نظر لأمرين:
الأول: أن أبا داود أراد بقوله: "غير معمر لا يسنده" إعلال الحديث، ولا يخفى على مثله –وهو من أئمة هذا الفن- أن معمرًا ثقة، ومع ذلك أعله بالتفرد بالوصل، فالرد عليه بأن معمرًا ثقة لا يكفي.
الثاني: أن الظاهر عند التأمل ترجيح رواية علي بن المبارك وهي الإرسال؛ لأن روايته عن يحيى بن أبي كثير مقدمة على رواية غيره، حاشا رواية هشام الدستوائي والأوزاعي، قال الإمام أحمد في رواية ابنه صالح: "علي بن المبارك ثقة، كانت عنده كتب، بعضها سمعها من يحيى بن ابي كثير، وبعضها عرض" كما في مسائل الإمام أحمد (2/ 439). وقال ابن عدي في الكامل (5/ 181-182): "ولعلي أحاديث، وهو ثبت في يحيى مقدم عليه".
[12] أخرجه سعيد بن مصور في سننه (2/ 264/ ح2581).
[13] انظر: فتح القدير (2/ 36)، ونصب الراية (2/ 184).
[14] متفق عليه: أخرجه البخاري (1653)، ومسلم (1309).
[15] انظر: شرح الزركشي (2/ 443).
[16] انظر: مجموع الفتاوى 024/ 138).
[17] انظر: الشرح الممتع (4/ 377).
[18] انظر: المقدمات الممهدات (1/ 157)، ومواهب الجليل (2/ 503)، وشرح الخرشي (2/ 62)، والتمهيد (4/ 377)، والمنتقى (1/ 266)، وبداية المجتهد (1/ 326)، والذخيرة (2/ 360)، وعقد الجواهر الثمينة (1/ 152)، وحاشية العدوي (1/ 323).
[19] انظر: الحاوي الكبير (2/ 371)، والمجموع (4/ 244)، ونهاية المحتاج (2/ 254)، والتهذيب (2/ 303)، وفتح العزيز (2/ 212-213).
[20] انظر: شرح الزركشي (2/ 443-444)، والفروع (2/ 63)، والمبدع (2/ 114)، والكافي لابن قدامة (1/ 452)، والمغني (3/ 148)، والإنصاف (5/ 72).
[21] انظر: الأم (1/ 164)، والاستذكار (2/ 244).
[22] انظر: الاستذكار (2/ 244)، والجوهر النقي على سنن البيهقي (3/ 149).
[23] انظر: مجموع الفتاوى (14/ 138).
[24] متفق عليه: أخرجه البخاري (3933)، ومسلم (1352).
[25] انظر: الاستذكار (2/ 244)، والحاوي الكبير (2/ 372)، وشرح الزركشي (2/ 444).
[26] انظر: البناية على الهداية (3/ 21)، والمحلى (5/ 24).
[27] انظر: بدائع الصنائع (1/ 97)، والمبسوط (1/ 236)، وفتح القدير (2/ 35)، وتبيين الحقائق (1/ 211)، ومجمع الأنهر (1/ 162)، ورد المحتار (2/ 135).
[28] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4343).
[29] أخرجه محمد بن الحسن في الآثار (188). وقال عقبه: قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
[30] انظر: بدائع الصنائع (1/ 97)، وفتح القدير لابن الهمام (2/ 35)، وتبيين الحقائق (1/ 211).
[31] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4342).
[32] أخرجه البخاري (1080).
[33] انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 235-236).
[34] انظر: المحلى (5/ 23)، ومجموع الفتاوى (24/ 142).
[35] انظر: مجموع الفتاوى (2/ 18، 137)، والفروع (2/ 64)، والإنصاف (5/ 75)، وحاشية الروض المربع (2/ 390).
وقد جاء النقل عن ابن تيمية –رحمه الله- بما يوافق المشهور من مذهب أحمد، فقد سئل –رحمه الله- عن رجل مسافر على بلد ومقصوده أن يقيم مدة شهر أو أكثر فهل يتم الصلاة أم لا؟ فأجاب: "إذَا نَوَى أَنْ يُقِيمَ بِالْبَلَدِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا قَصَرَ الصَّلَاةَ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ. فَإِنَّهُ أَقَامَ بِهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَفِيهِ نِزَاعٌ. وَالْأَحْوَطُ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ" الفتاوى الكبرى (1/ 149). لكن المشهور عنه هو القول الرابع.
[36] متفق عليه: أخرجه البخاري (1090)، ومسلم (685).
[37] أخرجه مسلم (687).
[38] انظر: مجموع الفتاوى (24/ 18).
[39] أخرجه أبو داود (1235). وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام (437): رواته ثقات إلاّ أنّه اختلف في وصله. يشير إلى قول أبي داود قبه: "غير معمر لا يُسنده"، والمعنى أنه لم يرو هذا الحديث متصلاً إلا معمر بن راشد، وقد خالفه علي بن المبارك فرواه عن يحيى بن ابي كثير، عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 454).
قال النووي في الخلاصة (2/ 734): "الحديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ومسلم، ولا يقدح فيه تفرد معمر، فإنه ثقة حافظ، فزيادته مقبولة".
وهذا فيه نظر لأمرين:
الأول: أن أبا داود أراد بقوله: "غير معمر لا يسنده" إعلال الحديث، ولا يخفى على مثله –وهو من أئمة هذا الفن- أن معمرًا ثقة، ومع ذلك أعله بالتفرد بالوصل، فالرد عليه بأن معمرًا ثقة لا يكفي.
الثاني: أن الظاهر عند التأمل ترجيح رواية علي بن المبارك وهي الإرسال؛ لأن روايته عن يحيى بن أبي كثير مقدمة على رواية غيره، حاشا رواية هشام الدستوائي والأوزاعي، قال الإمام أحمد في رواية ابنه صالح: "علي بن المبارك ثقة، كانت عنده كتب، بعضها سمعها من يحيى بن ابي كثير، وبعضها عرض" كما في مسائل الإمام أحمد (2/ 439). وقال ابن عدي في الكامل (5/ 181-182): "ولعلي أحاديث، وهو ثبت في يحيى مقدم عليه".
[40] أخرجه البخاري (1080).
[41] انظر: مجموع الفتاوى (24/ 18، 136)، وزاد المعاد (3/ 14).
[42] أخرجه البخاري (1081).
[43] أخرجه أخرجه عبد الرزاق (2/ 533)، وسنده لين، وأخرجه البيهقي (3/ 152) من طريق آخر، وقال الحافظ في الدراية (1/ 212): إسناده صحيح. وانظر: الخلاصة (2/ 734).
[44] انظر: منحة العلام في شرح بلوغ المرام (3/ 477).
[45] المغني لابن قدامة (3/ 109).
[46] الشرح الممتع (4/ 378-379).
[47] مسائل الإمام أحمد لأبي داود (74).