الموضوع: طريقنا للقلوب
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 18-12-2020, 10:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,207
الدولة : Egypt
افتراضي رد: طريقنا للقلوب

طريقنا للقلوب (2)


الشيخ د. : إبراهيم الدويش



عناصر الخطبة

1/ المظاهر الأخلاقية السلبية 2/ مواقف تبين مكارم أخلاق السلف 3/ وجوب تأصيل المسلم للأخلاق في نفسه 4/ من أخلاق وشمائل النبي الكريم 5/ هل يمكننا تغيير أخلاقنا؟


اقتباس
ومن مظاهر الازدواجية -أيضا- أن ترى بعض الشباب يعجبك حسن مظهره، ويجذبك سحر عطره، وتصفيف شعره، ولولا الحياء لأطنبت في الوصف مما يرى ويشاهد على بعض شبابنا هذه الأيام، من حرص على المظاهر والأشكال، ومع ذلك انحراف ..










الحمد لله على ما منح من الإنعام وأسدى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، من خطايا وذنوب لا تحصى عدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أعظم به رسولا وأكرم به عبدا، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ كانوا أمثل طريقة وأقوم وأهدى، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فكان الحديث عن أهمية الأخلاق، ومدى حاجتنا الماسة إلى حسن التعامل، بعضنا مع البعض الآخر، وكسب القلوب، وأثر ذلك على المجتمع.
والكلام موصول اليوم؛ فنقول: ومن المظاهر السلبية التقلب والمزاجية، والازدواج في الشخصية لدى بعض الناس، فكم هم أولئك الذين نسمع عن حسن أخلاقهم وكرمهم وابتسامتهم وجميل معاشرتهم للآخرين، أما مع أقرب الناس إليهم، وأعظم الناس حقا عليهم؛ كالوالدين مثلا، فجفاء وهجر وبُعد، ويكفي بلاغة وقوة ورقة، قول الحق -عز وجل-فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) [الإسراء:23].
ومن نظر لحالنا مع آبائنا وأمهاتنا علم ضعف إيماننا وتقصيرنا بأعظم الحقوق علينا بعد توحيد الله، والله المستعان!.
والزوجة المسكينة تسمع عن أخلاق زوجها، وسعة صدره، وابتسامته وكرمه، ولكنها لم تر من ذلك شيئا! فهو في بيته سيء الخلق، ضيق الصدر، عابس الوجه، صخاب، لعان، وبخيل، ومنان، فأين هذا وأمثاله من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"؟ وأين هو عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم".
قال سلمة بن دينا: السيئ الخلق أشقى الناس به نفسه التي بين جنبيه، هي منه في بلاء، ثم زوجته، ثم ولده، حتى إنه ليدخل بيته وإنهم لفي سرور، فيسمعون صوته فينفرون عنه خوفا منه، حتى إن دابته تحيد مما يرميها بالحجارة، وإن كلبه يراه فينزور على الجدار، حتى إن قطه ليفر منه!.
ومن الازدواجية في الأخلاق أن ترى المرأة متعلمة مثقفة، جميلة الملبس أنيقة، بل ربما حرصت على صفاء وجهها وبياض أسنانها، وتبذل الغالي والنفيس من أجل جمالها وأناقتها، فمن عرفها عن قرب وجدها سيئة الأخلاق، سريعة الغضب، تتذمر وتتسخط و ترفع صوتها على زوجها، وتعبس في وجه أختها! آه لو حرص النساء على أخلاقهن كحرصهن على جمالهن!.
ليس الجمالُ بأثوابٍ تُزَيِّنُنا *** بلِ الجمالُ جمالُ العلمِ والأدبِ
اعلمي -أخيتي- أن الجمال الحقيقي هو جمال الأخلاق والأدب، فأفٍّ لجمال اللباس والشكل مع قلة الحياء، والتكشف والعري، وضياع القيم والمبادئ!.
مررت على المروءة وهي تبكي *** فقلت علام تنتحب الفتاة؟
فقالت: كيف لا أبكي وأهلي *** جميعاً دون خلق الله ماتوا!

أيها المسلمون: إن الله جعل للإنسان عورتين: عورة الجسم، وعورة النفس؛ وجعل للأولى سترا هو اللباس، وللثانية سترا هو الأخلاق، وننبه على الثاني وهو الأهم؛ لأن لباس الإنسان لا يغني عن أخلاقه البتة، قال -عز وجل-: (يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف:26].
فاتقي الله أيتها المرأة، واستري عورة النفس بلباس التقوى والحياء ومكارم الأخلاق، فإن المرأة العاقلة:
إذا نطقَتْ جاءت بكل ملاحةٍ *** وإن سكتَتْ جاءت بكُلِّ مليحِ
ومن الازدواجية في الأخلاق: ما نراه من بعض الناس من حسن الكلام، وسعة الصدر والابتسامة، فإذا جاء البيع والشراء، والتعامل بالدينار والدرهم تراه مماطلا ممسكا، يجادل ويخاصم، وتلاشت معاني الأخوة وحقوقها.
قيل لمحمد بن الحسن: ألا تصنف كتابا في الزهد؟ فقال: صنفت كتابا في البيوع! يعني -رحمه الله- أن الزاهد هو من يتحرر عن الشبهات والمكروهات في التجارات وفي سائر المعاملات، وهذا من فقهه وذكائه رحمة الله عليه.
ويروى أن مسروقا كان عيه دين ثقيل، وكان على أخيه خيثمة دين أيضا، فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم.
وقال مطرف بن عبد الله لبعض إخوانه: يا أبا فلان، إذا كانت لك حاجة فلا تكلمني، واكتبها في رقعة؛ فإني أكره أن أرى في وجهك ذل السؤال.
وعن جميل بن مرة قال: مسّتنا حاجة شديدة، فكان مورق العجلي يأتينا بالصرة فيقول: أمسكوا هذه لي عندكم، ثم يمضي غير بعيد فيقول: إن احتجتم إليها فأنفقوها.
وقال سفيان بن عيينة: سمعت مساورا الوراق يقول: ما كنت لأقول لرجل: إني أحبك في الله، فأمنعه شيئا من الدنيا.
سبحان الله! مواقف عجيبة، لكنها مكارم الأخلاق عند السلف رضوان الله تعالى عليهم، وصدق الأخوة والمحبة في الله. نسأل الله أن يرزقنا حسن التأسي بهم.
ومن مظاهر الازدواجية -أيضا- أن ترى بعض الشباب يعجبك حسن مظهره، ويجذبك سحر عطره، وتصفيف شعره، ولولا الحياء لأطنبت في الوصف مما يرى ويشاهد على بعض شبابنا هذه الأيام، من حرص على المظاهر والأشكال، ومع ذلك انحراف في السلوك والأخلاق، فلا مانع لديه أن يكذب، وأن يلعن، أو يشتم، وربما يزني، ويسرق، أو يغش، ويخدع، لا مانع لديه أن يتخلى عن دينه وأخلاقه من أجل شهوة، فأفسد المسكين جمال الظاهر وجمال الباطن!.
أيها الشاب! ليس الإنسان إنسانا بجسمه وصورته، ولا بثيابه ومظهره، بل هو إنسان بروحه وعقله وخلقه.
يا خادمَ الجسمِ كم تشقى بخدمتِهِ *** أتعبتَ نفسك فيما فيه خسرانُ
أقبِلْ على النفس واستكمِلْ فضائلَها *** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
هل ينفع الفتيانَ حسنُ وجوهِهِمْ *** إن كانت الأخلاقُ غيرَ حِسانِ؟

أيها الشاب! إن في قلبك فطرة الخير ففتش عنها، وأشعل جذوة الخير فيها. أيها الشاب! إن من تمام سعادتنا أن نتمتع بمباهج الحياة، وزينتها، ونعيمها، لكن في حدود الشرع: (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص:77]
أيها الشاب:
كن رجلا رِجْلُهُ في الثَّرى *** وهامةُ همَّتِهِ في الثريا
وتجمل بمكارم الأخلاق والآداب؛ فإنها زينة الرجال.


ومن الازدواجية في الأخلاق تصرف أولئك الذين نرى عليهم أثر الصلاح وسيماء الخير، ثم نراهم في أفعالهم وتصرفاتهم يناقضون تلك السمات والآثار، حتى أصبحوا فتنة لغيرهم، فيا مَن ابتليت بهذا! إنك لا تسيء لنفسك فقط، بل لنفسك ولغيرك، بل ولدينك؛ فإن من يرى سوء الأخلاق فسيقول: أهذه أخلاق الصالحين؟ أهذا هو الالتزام؟! فعلى هذا وأمثاله أن يراجعوا صلاحهم، فقد لا يكون لهم من الصلاح إلا الاسم والرسم.
مدحوا عند الفضيل بن عياض رجلا وقالوا: إنه لا يأكل الخبيص فقال -رحمه الله-: وما ترك أكل الخبيص؟ انظروا كيف صلته للرحم، انظروا كيف كظمه للغيظ، انظروا كيف عطفه على الجار والأرملة واليتيم، انظروا كيف حسن خلقه مع إخوانه.
فقل لي بربك -أيها القدوة- هل الاستقامة مظهر فقط؟ أم هي حسن تعامل مع فئة من الناس فقط؟ أم أنها تقوى الله، وحسن التعامل مع الناس في كل شيء، وفي جميع الأحوال؟ ففي الحديث الصحيح سئل -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: "تقوى الله وحسن الخلق". قال ابن القيم في الفوائد: جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين تقوى الله وحسن الخلق في هذا الحديث؛ لأن تقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته.
ويجب التنبه لأمر هام اختلط على كثير من الناس إما جهلا، أو بقصد من قلب فيه دخن ودغل، وهو: تعميم الأخطاء؛ فإذا أخطأ منتسب للصلاح اتهم كل الصالحين، والأشنع أن نتهم الإسلام، فإن تخلى بعض المسلمين عن أخلاقهم ومبادئ عقيدتهم فليس معنى هذا أن نتهم الإسلام، أو نتردد بالالتزام بتعاليمه وشرائعه، أو أن يحكم أناس مسلمون على الإسلام وعلى أهل الصدق منه بالغلو والتطرف والغلظة والفظاظة وسوء الخلق، لمجرد أن منتسبا للإسلام أخطأ في تصرفه، أو قوله، أو تلبس لباس الصادقين من المسلمين!.
إن من أشنع أنواع الظلم أن يؤاخذ الإنسان بخطأ غيره؛ فإن الله -عز وجل- يقول: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [فاطر:18] .
أين الإنصاف؟ وأين العدل؟ والله -عز وجل- يقول: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة:8].
لماذا نتسرع بالحكم على الجميع ونعم الأخطاء لمجرد أخطاء فردية؟ أين هؤلاء الشانئون من المئات والآلاف من المسلمين والمسلمات ممن نبلت أخلاقهم، وعزت نفوسهم؟.
إنني أعرف وتعرف وأسمع وتسمع وأرى وترى أعدادا ليست بالقليلة ممن ملكوا القلوب بجمال ألفاظهم، وأسروا النفوس بحسن أفعالهم، قلوب صافية، وأيد حانية، وألسن عفيفة، علم وعمل، وحب للدين والوطن، فلماذا لا يذكر هؤلاء ويشهر أمرهم، ويتحدث عن نبلهم؟ لمذا ننظر بعين واحدة ونقع في الجروح فقط؟.
انظر لنفسك، أيها الأخ الحبيب أيها الشانئ مسلما، أو لستَ تخطئ؟ ألست تزل؟ فربما شكا منك الناس! فأنت تشكو وأنت تُشكى، ولكن ما أجمل أن يعذر بعضنا بعضا، وأن نعفو عن الزلات، ونستر السيئات، ونشهر الحسنات! تناصح وتغافر يطفئ نار الفرقة والاختلاف؛ عامِل الناس جميعا على أنهم بشر يصيبون ويخطئون، غُض الطرف، وتغافل، واصبر.
ليس الغبي بسيِّدٍ في قومه *** لكنَّ سيدَ قومِهِ المتغابي

ولك أن تسرح بخيالك لترى المجتمع يعيش بهذه المعاني الجميلة، فهي من أعظم مكارم الأخلاق، فإن أبيت فاتهم ذلك الشخص ولا تعمم، واتق الله؛ فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.
هذه بعض المظاهر السلبية في ازدواج الشخصية عند البعض من الناس، نراها كثيرا في واقعنا، فمتى يعلم أمثال هؤلاء أن الخلاق عبادة يجب إخلاصها لله، بدون مراءاة أو تزييف؟ وأنها مع الأقربين والأرحام أعظم أجرا، وأوقع قدرا!.
لا بد أن تشعر -أيها المسلم- أن الأخلاق الإسلامية يجب أن تكون أصلية في نفسك معك في كل زمان ومكان، مع ربك ومع الناس، في بيتك وفي عملك، وفي البيع والشراء، وفي الجلوة والخلوة، مع الكبير والصغير، والرئيس والمرؤوس، فهي أصلية في نفسك في كل الأحوال، ومع كل الأشخاص، و في كل مكان.
اللهم كما حسَّنْتَ خَلقنا فحسن أخلاقنا، وثبتنا على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، وبعثه بالدين والهدى، وكلمة التقوى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم وتسليما كثيرا في الآخرة والأولى.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وكونوا -عباد الله- إخوانا كما سماكم الله، يحب أحدكم لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه، يبذل خيره لأخيه، ويكف عنه شره ولا يؤذيه.
واعلموا أن مكارم الأخلاق تشعر الجميع أنك تحبهم، بل كل واحد يشعر أنه أحب الناس إلى قلبك، فهل تستطيع هذا؟ إنك تملك القلوب بأيسر الطرق وأفضلها.
هكذا كانت أخلاق قدوتنا وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم-، فعن عمرو بن العاص قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم، يتآلفهم بذلك، فكان يقبل بوجهه وحديثه علي، حتى ظننت أني خير القوم، فقلت: يا رسول الله، أنا خير أو أبو بكر؟ فقال: أبو بكر، فقلت: يا رسول الله أنا خير أو عمر؟ فقال: عمر، فقلت: يا رسول الله أنا خير أو عثمان؟ فقال: عثمان. فما سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصدقني، فلوددت أني لم أكن سألته.
إذا؛ فعمرو بن العاص ظن أنه أحب الناس وأقرب الناس لقلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!.
أيها المسلم! لعلك تسأل كيف استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- كسب القلوب إلى هذا الحد، فالكل يظن أنه أحب الناس لرسول الله، بك كسب قلوب أعدائه، فإليك شيئا من شمائله وأخلاقه بإيجاز، رزقني الله وإياك حسن الاقتداء والتأسي به.
كان -صلى الله عليه وسلم- "أشدّ حياء من العذراء في خدرها"، لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذرين إليه، يمزح ولا يقول إلا حقا، يضحك من غير قهقهة، ترفع الأصوات عليه فيصبر، لا يحتقر مسكينا لفقره، ما ضرب بيده أحدا قط إلا في سبيل الله، وما انتقم من شيء صُنع إله قط إلا أن تنتهك حرمة الله، "ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح".
كان يبدأ مَن لقيه بالسلام، كان إذا لقي أحدا من أصحابه بدأه بالمصافحة، ثم أخذ بيده فشابكه ثم شد قبضته عليه، كان يجلس حيث انتهي به المجلس، كان يكرم من يدخل عليه، حتى إنه ربما بسط ثوبه ليجلس عليه، كان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته، فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل.
كان يعطي كل من جلس إليه نصيبه من وجهه وسمعه وبصره وحديثه، كان يدعو أصحابه بكناهم إكراما لهم، واستمالة لقلوبهم، كان أبعد الناس غضبا، وأسرعهم رضا،كان أرأف الناس بالناس، وخير الناس للناس.
فعن أنس -رضي الله عنه-: أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال: "يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي حاجتك".
وبكلمة جامعة مانعة: "كان خلقه القرآن"؛ ولذلك أثنى الله عليه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
إذا؛ فمَن أراد أن يرى هدي هذا الدين واقعا يعاش فلينظر في سيرة الحبيب، ومن أراد أن يكتسب الأخلاق بحق فلينهل من معين السيرة، وليدرسها دراسة فهم وتدبر، بأبي هو أمي!.
ويكفي أن كل أحد يقول يوم القيامة في حديث الشفاعة الطويل: نفسي نفسي! وهو يقول: اي ربّ! أمتي أمتي! .
يا مَن يذكِّرني بعهد أحبَّتي *** طاب الحديثُ بذكرهم ويطيبُ
أعِد الحديث عليّ من جنَباته ***إنَّ الحديث عن الحبيب حبيب
ملأ الضلوع وفاض عن أجنابها *** قلبٌ إذا ذُكِر الحبيب يذوب
ما زال يخفق ضاربا بجناحه *** يا ليت شعري هل تطير قلوب

عباد الله! سؤال يتكرر كثيرا: هل يمكننا تغيير أخلاقنا؟ أو أنه كما يقال: من شب على شيء شاب عليه، نعم، هناك مَن يرى أن الأخلاق ثابتة في الإنسان لا تتغير، فهي غرائز فطر عليها، وطبائع جبل عليها، وهناك من يرى أنها تتغير فليس ذلك صعبا ولا مستحيلا.
والحق؛ إن الأخلاق على نوعين: فمنها ما هو غريزي فطري، ومنها ما يكتسب بالممارسة والمجاهدة، ولو كانت الأخلاق لا تتغير لبطلت الوصايا والمواعظ، ولما قال الله -عز وجل-قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [الأعلى:14]، ولما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما العلم بالتعليم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعْطَهْ، ومَن يتوق الشرَّ يوقه".
ومَن نظر إلى الحيوان وحاله قبل التدريب وبعده أدرك أن الأخلاق عند الإنسان سهلة التغيير لمن رزق الهمة والعزيمة، وحمل نفسه على مكارم الأخلاق وفضائلها.
يقول ابن حزم -رحمه الله- متحدثا عن تجربته مع نفسه، وعن محاولاته في التخلص من عيوبه، وعن النتائج التي حصل عليها من جراء ذلك، يقول: كانت فيّ عيوب فلم أزل بالرياضة والاطلاع على ما قالت الأنبياء –صلوات الله عليهم– والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وآداب النفس، أعاني مداواتها حتى أعان الله -عز وجل- على أكثر ذلك بتوفيقه ومنّه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق هو الإقرار بها –أي: الإقرار بالعيوب- ليتعظ بذلك متعظ يوما إن شاء الله.
ثم أخذ -رحمه الله- يعدد بعض العيوب في نفسه، لولا خشية الإطالة لذكرتها لعظيم الفائدة، من أرادها فلينظر في كتابه "الأخلاق والسير في مداواة النفوس".
ثم قال: ومنها -أي العيوب- حقد مفرط قدرت -بعون الله تعالى- على طيه وستره، وغلبته على إظهار جميع نتائجه، وأما قطعه البته فلم أقدر عليه وأعجزني أن أصادق من عاداني عداوة صحيحة أبدا… إلخ كلامه يرحمه الله.
ومثل هذا قول أحد الإخوة، حيث يقول: وقع في قلبي شيء عظيم على أحد إخواني لخير أعطاه الله إياه، فما زال الشيطان يوسوس بي ونفسي الضعيفة، وكنت أهتم وأغتم وأكثر التفكير والخواطر، خاصة وأنني كنت متهيئا لهذا الخير الذي آتاه الله أكثر منه.
يقول: فما زلت مع نفسي أدفع الخواطر والأفكار الرديئة تارة، وأؤنبها وألومها تارة، وأذكرها بفضل سلامة الصدر وتمني الخير للآخرين، وأني أحب لهم ما أحب لنفسي تارة أخرى، وتارة أذكرها بخطر الحسد أضراره، و ما زلت أستعين بالله وأدعوه حتى أعانني الله على نفسي واستطعت ترويضها.
وما زلت مع نفسي بكثير من هذه المواقف، حتى وجدت أنها اعتادت على سلامة الصدر وحسن الظن بالآخرين وتمني الخير لهم، عندها شعرت بسعادة ولذة عجيبة، وأقبلت على شؤوني وأعمالي بقلب سليم، وفتح الله على بأمور كثيرة فتحا عجيبا ولله الحمد والمنة، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ويقول ابن المقفع في الأدب الصغير هذه الجمل الجميلة: وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين وفي الأخلاق وفي الآداب، فيجمع ذلك كله في صدره أو في كتاب، ثم يكثر عرضه على نفسه، ويكلفها إصلاحه، ويوظف ذلك عليها توظيفا من إصلاح الخلة والخلتين والخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر، فكلما أصلح شيئا محاه، وكلما نظر إلى محو استبشر، وكلما نظر إلى ثابت اكتأب. اهـ.
إذا؛ فلا بد للعاقل من رياضة النفس وتدريبها وذلك المجاهدة والصبر، وقوة الملاحظة والنظر في عواقب الأمور قبل الإقدام، وطلب النصح من الآخرين، ونحو ذلك مما يعين على تغيير الأخلاق، والطبائع للأحسن.
ثم احذر أن تغتر بحسن أخلاقك في الرخاء، بل جرب نفسك في أوقات الشدة والغضب، وكل الأحوال التي يحتاج فيها للأخلاق فعلا، فالإيثار عند قلة الزاد، والحلم عند الغضب، والعفو عند المقدرة، أما في الرخاء فلا فخر ولا فضل.
وانظر للناس، فما كرهته فيهم من أخلاق فابتعد عنه، فإنهم يكرهون منك ما تكرهه منهم، وراقب نفسك دائما فلها فلتات، ومن أخطرها ألا ترى إلا العيوب! فهل أنت كالنحلة لا تقع إلا على الورود والأزهار، أم أنت كالذباب لا يقع إلا على الأوساخ والأقذار؟.

ثم لا بد أن نتنبه -ونحن نطالب الناس بمكارم الأخلاق- أنهم بشر، ومهما جهدوا فلا بد من الهنات والغفلات، فلا نطالب بالمثاليات، خاصة في مثل هذه الأوقات، ولكن انظر إلى نفسك، وعامل الناس كما تحب أن يعاملوك.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أصلح فساد قلوبنا، وارحم ضعفنا، وحسِّن أخلاقنا.
اللهم إنا لأنفسنا ظالمون، ومن كثرة ذنوبنا خائفون، ولا يغفر الذنوب إلا أنت يا أرحم الراحمين، فاغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.58 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.01%)]