وَاعْلَمْ أَنَّ للهِ خَصَائِصَ فِي خَلْقِهِ وَرَحْمَةً وَفَضْلًا يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَذَلِكَ مُوجِبُ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَحَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تُصْغِيَّ إِلَى وَسْوَسَةِ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالجِنِّ وَالنَّفْسِ الجَاهِلَةِ الظَّالِمَةِ، إِنَّهُ هَلَّا سَوَّى بَيْنَ عِبَادِهِ فِي تِلْكَ الخَصَائِصِ وَقَسَّمَهَا بَيْنَهُم عَلَى السَّوَاءِ، فَإِنَّ هَذَا عَيْنُ الجَهْلِ وَالسَّفَهِ مِنَ المُعْتَرِضِ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ حِكْمَتَهُ تَأَبَى ذَلِكَ وَتَمْنَعُ مِنْهُ، وَلَكِنِ اعْلَمْ أَنَّ الأَمْرَ قِسْمَةٌ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ، فَيَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَقْصِدُ بِعَذَابِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ المَحْمُودُ عَلَى هَذَا، فَالطَّيِّبُونَ مِنْ خَلْقِهِ مَخْصُوصُونَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالخَبِيثُونَ مَقْصُودُونَ بِعَذَابِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ قِسْطُهُ مِنَ الحِكْمَةِ وَالابْتِلَاءِ وَالامْتِحَانِ، وَكُلٌّ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا هُوَ لَهُ مَخْلُوقٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ وَنَفْعٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ لِلْخَيْرَاتِ فَهُمْ لَهَا عَامِلُونَ، وَاسْتَعْمَلَهُم فِيهَا فَلَمْ يُدْرِكُوا ذَلِكَ إِلَّا بِهِ وَلَا اسْتَحَقُّوهُ إِلَّا بِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنْ مَشِيئَتِهِ وَقِسْمَتِهِ، فَكَذَلِكَ لَا تَضُرُّهُم الأَدْوَاءُ وَلَا السُّمُومُ، بَلْ مَتَى وَسْوَسَ لَهُمْ العَدُوُّ وَاغْتَالَهُم بِشَيءٍ مِنْ كَيْدِهِ أَوْ مَسَّهُمْ بِشَيءٍ مِنْ طَيْفِهِ ﴿ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾، ﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ﴾:
وَإِذَا وَقَعُوا فِي مَعْصِيَةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ عَادَ ذَلِكَ عَلَيْهِم رَحْمَةً وَانْقَلَبَ فِي حَقِّهِم دَوَاءً وَبُدِّلَ حَسَنَةً بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالحَسَنَاتِ المَاحِيَةِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَرَّفَهُم بِنَفْسِهِ وَبَفَضْلِهِ وَبِأَنَّ قُلُوبَهُم بِيَدِهِ وَعِصْمَتَهُم إِلَيْهِ حَيْثُ نَقَضَ عَزَمَاتِهِم وَقَدْ عَزَمُوا أَلَّا يَعْصُوهُ، وَأَرَاهُم عِزَّتَهُ فِي قَضَائِهِ، وَبِرَّهُ وَإِحْسَانَهُ فِي عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَأَشْهَدَهُم نُفُوسَهُم وَمَا فِيهَا مِنَ النَّقْصِ وَالظُّلْمِ وَالجَهْلِ، وَأَشْهَدَهُم حَاجَتَهُم إِلَيْهِ وَافْتِقَارَهُم وَذُلَّهُمِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَعْفْ عَنْهُم وَيَغْفِرْ لَهُم فَلَيْسَ لَهُم سَبِيلٌ إِلَى النَّجَاةِ أَبَدًا.
فَإِنَّهُم لَمَّا أَعْطُوا مِنْ أَنْفُسِهِم العَزْمَ أَلَّا يَعْصُوهُ وَعَقَدُوا عَلَيْهِم قُلُوبَهُم ثُمَّ عَصَوْهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعَرِفُوا بِذَلِكَ عَظِيمَ اقْتِدَارِهِ، وَجَمِيلَ سَتْرِهِ إِيَّاهُم، وَكَرِيمَ حِلْمِهِ عَنْهُم، وَسِعَةَ مَغْفِرَتِهِ لَهُم بِرَدِّ عَفْوِهِ وَحَنَانِهِ وَعَطْفِهِ وَرَأْفَتِهِ، وَأَنَّهُ حَلِيمٌ ذُو أَنَاةٍ، وَرَحِيمٌ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، وَأَنَّهُم مَتَى رَجَعُوا إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَجَدُوهُ غَفُورًا رَحِيمًا حَلِيمًا كَرِيمًا، يَغْفِرُ لَهُم السَّيِّئَاتِ، وَيُقِيلُهُم العَثَرَاتِ، وَيَوُدُّهُم بَعْدَ التَّوْبَةِ وَيُحِبُّهُم، فَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ حِينَئِذٍ بِالدُّعَاءِ وَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بِحُسْنِ إِجَابَتِهِ وَجَمِيلِ عَطْفِهِ وَحُسْنِ امْتِنَانِهِ فِي أَنْ أَلْهَمَهُم دُعَاءَهُ وَيَسَّرَهُم لِلْتَّوبَةِ وَالإِنَابَةِ وَأَقْبَلُوا بِقُلُوبِهِم إِلَيْهِ إِعْرَاضًا عَنْهُ، وَلَمْ تَمْنَعْهُ مَعَاصِيهِم وَجِنَايَاتِهِم مِنْ عَطْفِهِ عَلَيْهِم وَبِرِّهِ لَهُم وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِم فَتَابَ عَلَيْهِم قَبْلَ أَنْ يَتُوبُوا إِلَيْهِ، وَأَعْطَاهُم قَبْلَ أَنْ يَسْأَلُوهُ.
فَلَمَّا تَابُوا إِلَيْهِ اسْتَغْفَرُوهُ وَأَنَابُوا إِلَيْهِ تَعَرَّفَ إِلَيْهِم تَعَرُّفًا آَخَرَ: فَعَرَّفَهُم رَحْمَتَهُ وَحُسْنَ عَائِدَتِهِ وَسِعَةَ مَغْفِرَتِهِ وَكَرِيمَ عَفْوِهِ وَجَمِيلَ صَفْحِهِ وَبِرِّهِ وَامْتِنَانِهِ وَكَرَمِهِ وَشَرْعِهِ، وَمُبَادَرَتِهِ قَبُولَهُم بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْهُم مَا كَانَ مِنْ طُولِ الشُّرُورِ وَشِدَّةِ النُّفُورِ وَالإِيضَاعِ فِي طَريقِ مَعَاصِيهِ، وَأَشْهَدَهُم مَعَ ذَلِكَ حَمْدَهُ العَظِيمَ وَبِرَّهُ العَمِيمَ، وَكَرَمَهُ فِي أَنْ خَلَّى بَيْنَهُم وَبَيْنَ المَعْصِيَةِ فَنَالُوهَا بِنِعَمِهِ وَإِعَانَتِهِ.
ثُمَّ لَمْ يُخَلِّ بَيْنَهُم وَبَيْنَ مَا تُوجِبُهُ مِنَ الهَلَاكِ وَالفَسَادِ الذِي لَا يُرْجَى مَعَهُ فَلَاحٌ، بَلْ تَدَارَكَهُم بِالدَّوَاءِ الثَّانِي الشَّافِي فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُم دَاءً لَوِ اسْتَمَرَّ مَعَهُم لأَفْضَى إِلَى الهَلَاكِ، ثُمَّ تَدَارَكَهُم بِرُوحِ الرَّجَاءِ فَقَذَفَهُ فِي قُلُوبِهِم، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ عِنْدَ ظُنُونِهِم بِهِ، وَلَوْ أَشْهَدَهُم عِظَمَ الجِنَايَةِ وَقُبْحَ المَعْصِيَةِ وَغَضبَهُ وَمَقْتَهُ عَلَى مَنْ عَصَاهُ فَقَطْ لأَوْرَثَهُم ذَلِكَ المَرَضَ القَاتِلَ أَوِ الدَّاءَ العُضَالَ مِنَ اليَأْسِ مِنْ رَوحِهِ وَالقُنُوطَ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَيْنُ هَلَاكِهِم، وَلَكِنْ رَحِمَهُمْ قَبْلَ البَلَاءِ، وَجَعَلَ تِلْكَ الآَثَارَ التِي تُوجِبُهَا المَعْصِيَةُ مِنَ المِحَنِ وَالبَلَاءِ وَالشَدَائِدِ رَحْمَةً لَهُم وَسَبَبًا إِلَى عُلُوِّ دَرَجَاتِهِم وَنَيْلِ الزُّلْفَى وَالكَرَامَةِ عِنْدَهُ، فَأَشْهَدَهُم بِالجِنَايَةِ عِزَّةَ الرُّبُوبِيَّةِ وَذُلَّ العُبُودِيَّةِ، وَرَقَّاهُم بَآثَارِهِم إِلَى مَنَازِلِ قُرْبِهِ وَنَيْلِ كَرَامَتِهِ، فَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ يَرْبَحُونَ عَلَيْهِ يَتَقَلَّبُونَ فِي كَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَكُلُّ قَضَاءٍ يَقْضِيهِ لِلْمُؤْمِنِ فَهُوَ خَيْرٌ بِهِ يَسُوقُهُ إِلَى كَرَامَتِهِ وَثَوَابِهِ.
وَكَذَلِكَ عَطَايَاهُ الدُّنْيَوِيَّةُ نِعَمٌ مِنْهُ عَلَيْهِم، فَإِذَا اسْتَرْجَعَهَا أَيْضًا وَسَلَبَهُم إِيَّاهَا انْقَلَبَتْ مِنْ عَطَايَا الآخِرَةِ مَا قِيلَ: إِنَّ اللهَ يُنْعِمُ عَلَى عِبَادِهِ بِالعَطَايَا الفَاخِرَةِ، فَإِذَا اسْتَرْجَعَهَا كَانَتِ الآَخِرَةُ، وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ قَدْ تَجَلَّى لِقُلُوبِ المُؤْمِنِينَ العَارِفِينَ وَظَهَرَ لَهَا بِقُدْرَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَمَضِيِّ مَشِيئَتَهُ وَعَظِيمَ سُلْطَانِهِ وَعُلُوَّ شَأْنِهِ وَكَرَمِهِ وَبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَسِعَةَ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَا أَلْقَاهُ فِي قُلُوبِهِم مِنَ الإِيمَانِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ إِلَى حَيْثُ احْتَمَلَتْهُ القُوَى البَشَرِيَّةُ وَوَرَاءَهُ مِمَّا لَمْ تَحْتَمِلْهُ قُوَاهُم وَلَا يَخْطُرُ بِبَالٍ وَلَا يَدْخُلُ فِي خَلَدٍ مِمَّا لَا نِسْبَةَ لِمَا عَرِفُوهُ إِلَيْهِ.
فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ كَانَ قَسْمَهُم أَنْواعُ المَعَاصِي وَالفُجُورِ، وَفُنُونُ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالتَّقَلُّبُ فِي غَضَبِهِ وَسُخْطِهِ وَقُلُوبُهُم وَأَرْوَاحُهُم شَاهِدَةٌ عَلَيْهِم بِالمَعَاصِي وَالكُفْرِ مُقِرَّةٌ بَأَنَّ لَهُ الحُجَّةَ عَلَيْهِم وَأَنَّ حَقَّهُ قبلَهُم، وَلَا يَذْكُرُ أَحَدٌ مِنْهُم النَّارَ إِلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ بِذَلِكَ مُقِرٌّ بَهِ مُعْتَرِفٌ اعْتِرَافَ طَائِعٍ لَا مُكَرَهٍ مُضْطَهَدٍ، فَهَذِهِ شَهَادَتُهُم عَلَى أَنْفُسِهِم وَشَهَادَةُ أَوْلِيَائِهِ عَلَيْهِم، وَالمُؤْمِنُونَ يَشْهَدُونَ فِيهِم بِشَهَادَةٍ أُخْرَى لَا يَشْهَدُ بِهَا أَعْدَاؤُهُ، وَلَوْ شَهِدُوا بِهَا وَبَاءُوا بِهَا لَكَانَتْ رَحَمَتُهُ أَقْرَبَ إِلَيهِم مِنْ عُقُوبَتِهِ، فَيَشْهَدُونَ أَنَّهُم عَبِيدُهُ وَمِلْكُهُ وَأَنَّهُ أوْجَدَهُم لِيُظْهِرَ بَهَم مَجْدَهُ، وَيُنْفِذَ فِيهِم حُكْمَهُ، وَيُمْضِيَ فِيهِم عَدْلَهُ، وَيُحِقَّ عَلَيْهِم كَلِمَتَهُ، وَيَصْدُقَ فِيهِم وَعِيدُهُ، وَيَبِينَ فِيهِم سَابِقُ عِلْمِهِ، وَيُعَمِّرَ بِهَا دِيَارَهُم وَمَسَاكِنَهُم التِي هِيَ مَحِلُّ عَدْلِهِ وَحْكْمَتِهِ، وَشَهِدَ أَوْلِيَاؤُهُ عَظِيمَ مُلْكِهِ وَعِزَّ سُلْطَانِهِ، وَصِدْقَ رُسُلِهِ وَكَمَالَ حِكْمَتِهِ، وَتَمَامَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِم، وَقَدْرَ مَا اخْتُصِمَ بِهِ وَمِنْ أَيِّ شَيءٍ حَمَاهُمْ وَصَانَهُم، وَأَيَّ شَيءٍ صَرَفَ عَنْهُم، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُم إِلَيْهِ وَسِيلَةٌ قَبْلَ وُجُودِهِم يَتَوَسَّلُونَ بِهَا إِلَيْهِ أَلَّا يَجْعَلَهُم مِنْ أصْحَابِ الشِّمَالِ وَأَنْ يَجْعَلَهُم مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ، وَشَهِدُوا لَهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ ما كَانَ مِنْهُ إِلَيْهِم وَفِيهِم مِمَّا يَقْتَضِيهِ إِتْمَامُ كَلْمَاتِهِ الصِّدْقَ وَالعَدْلَ قَوْلُهُ وَتَحَقَّقَ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ فَهُوَ مَحْضُ حَقِّهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ حَسَنٌ جَمِيلٌ لَهُ عَلَيْهِ أَتَمُّ الحَمْدِ وَأَكْمَلُهُ وَأَفْضَلُهُ، وَهُوَ حُكْمٌ عَدْلٌ وَقَضَاءٌ فَصْلٌ وَأَنَّهُ المَحْمُودُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا يَلْحَقُهُ مِنْهُ ظُلْمٌ وَلَا جَوْرٌ وَلَا عَبَثٌ بَلْ ذَلِكَ عَيْنُ الحِكْمَةِ، وَمَحْضُ الحَمْدِ، وَكَمَالٌ أَظْهَرَهُ فِي حَقِّهِ، وَعِزٌّ أَبْدَاهُ، وَمُلْكٌ أَعْلَنَهُ، وَمُرَادٌ لَهُ أَنْفَذَهُ، كَمَا فَعَلَ بِالبُدْنِ وَضُرُوبِ الأَنْعَامِ أَتَمَّ بِهَا مَنَاسِكَ أَوْلِيَائِهِ وَقَرَابِينَ عِبَادِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ إِلَى الأَنْعَامِ هَلَاكًا وَإِتْلَافًا، فَأَعْدَاؤُهُ الكُفَّارُ المُشْرِكُونَ بِهِ الجَاحِدُونَ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ دِمَاؤُهُم قَرَابِينَ أَوْلِيَائِهِ وَضَحَايَا المُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
يَتَطَهَّرُونَ يَرَوْنَهُ قُرْبَانَهُم ♦♦♦ بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الكُفَّارِ
وَكَذَلِكَ لَمَّا ضَحَّى خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ القَسْرِيُّ بِشَيْخِ المُعَطِّلَةِ الفِرْعُونِيَّةِ جَعْدِ بْنِ دِرْهَم؛ فَإِنَّهُ خَطَبَهُم فِي يَوْمِ أَضْحَى فَلَمَّا أَكْمَلَ خُطْبَتَهُ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللهُ ضَحَايَاكُم، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالجَعْدِ بْنِ دِرْهَم؛ إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَلَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا" ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ، فَكَانَ ضَحِيَّتَهُ.
وَذَكَرَ ذَلِكَ البُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ الأَفْعَالِ، فَهَذَا شُهُودُ أَوْلِيَائِهِ مِنْ شَأْنِ أَعْدَائِهِ، وَلَكْنَّ أَعْدَاءَهُ فِي غَفْلَةٍ عَنْ هَذَا لَا يَشْهَدُونَهُ وَلَا يُقِرُّونَ بِهِ، وَلَوْ شَهِدُوهُ وَأَقَرُّوا بِهِ لأَدْرَكَهُم حَنَانُهُ وَرَحْمَتُهُ، وَلَكِنْ لَمَّا حُجِبُوا عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَإِثْبَاتِ أَسْمَائِهِ الحُسْنِى وَصِفَاتِهِ العُلْيَا وَوَصْفِهِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ صَارُوا أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الأَنْعَامِ وَضُرِبُوا بِالحِجَابِ، وَأُبْعِدُوا عَنْهُ بِأَقْصَى البُعْدِ وَأُخْرِجُوا مِنْ نُورِهِ إِلَى الظُّلُمَاتِ، وَغُيِّبَتْ قُلُوبُهُم فِي الجَهْلِ بِهِ وَبِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ فِي غَابَاتٍ، لِيُتِمَّ عَلَيْهِم أَمْرَهُ وَيُنْفِذَ فِيهِم حُكْمَهُ، واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ أَعْلَمُ[40].
5- الحِكْمَةُ فِي التَّفَاوُتِ بِيْنَ العِبَادِ:
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَحَمْدُهُ أَنْ فَاوَتَ بَيْنَ عِبَادِهِ أَعْظَمَ تَفَاوُتٍ وَأَبْيَنَهُ لِيَشْكُرَهُ مِنْهُم مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ نِعْمَتُهُ وَفَضْلُهُ وَيَعْرِفُ أَنَّهُ قَدْ حُبِيَ بِالإِنْعَامِ وَخُصَّ دُونَ غَيْرِهِ بِالإِكْرَامِ، ولَوْ تَسَاوَوْا جَمِيعُهُم فِي النِّعْمَةِ وَالعَافِيَةِ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبُ النِّعْمَةِ قَدْرَهَا، وَلَمْ يَبْذُلْ شُكْرَهَا إِذْ لَا يَرَى أَحَدًا إِلَّا فِي مِثْلِ حَالِهِ، وَمِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الشُّكْرِ وَأَعْظَمِهَا اسْتِخْرَاجًا لَهُ مِنَ العَبْدِ أَنْ يَرَى غَيْرَهُ فِي ضِدِّ حَالِهِ التِي هُوَ عَلَيْهَا مِنَ الكَمَالِ وَالفَلَاحِ.
وَفِي الأَثَرِ المَشْهُورِ أَنَّ اللهِ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَرَى آدَمَ ذُرِّيَّتَهُ وَتَفَاوُتَ مَرَاتِبِهِمْ قَالَ: يَا رَبِّ، هَلَّا سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ؟ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُشْكَرَ، فَاقْتَضَتْ مَحَبَّتُهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْ يُشْكَرَ خَلْقَ الأَسْبَابِ التِي يَكُونُ شُكْرُ الشَّاكِرِينَ عِنْدَهَا أَعْظَمَ وَأَكْمَلَ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الحِكْمَةِ الصَّادِرَةِ عَنْ صِفَةِ الحَمْدِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا شَيءَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ العَبْدِ مِنْ تَذَللُّـه بَيْنَ يَدَيْهِ وَخُضُوعِهِ وَافْتِقَارِهِ وَانْكِسَارِهِ وَتَضرُّعِهِ إِلَيْهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا المَطْلُوبُ مِنَ العَبِيدِ إِنَّمَا يَتِمُّ بِأَسْبَابِهِ التِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا وَحُصُولُ هَذِهِ الأَسْبَابِ فِي دَارِ النَّعِيمِ المُطْلَقِ وَالعَافِيةِ الكَامِلَةِ يَمْتَنِعُ إِذْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ والأمرُ هُوَ شَرْعُهُ وَأَمْرُهُ وَدِينُهُ الذِي بَعَثَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَلَيْسَتِ الجَنَّةُ دَارَ تَكْلِيفٍ تَجْرِي عَلَيْهِم فِيهَا أَحْكَامُ التَّكْلِيفِ وَلَوَازِمُهَا وَإِنَّمَا هِيَ دَارُ نَعِيمٍ وَلَذَّةٍ[41].
6- الأَرْضُ دَارُ ابْتِلاَءٍ وَامْتِحَانٍ:
وَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ اسْتِخْرَاجَ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ إِلَى دَارٍ تَجْرِي عَلَيْهِم فِيهَا أَحْكَامُ دِينِهِ وَأَمْرِهِ؛ لِيُظْهِرَ فِيهِم مُقْتَضَى الأَمْرِ وَلَوَازِمِهِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنَّ أَفْعَالَهُ وَخَلْقَهُ مِنْ لَوَازِمِ كَمَالِ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى وَصِفَاتِهِ العُلَى فَكَذَلِكَ أَمْرُهُ وَشَرْعُهُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالعِقَابِ، وَقَدْ أَرْشَدَ سُبْحَانَهُ إِلَى هَذَا المَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ.
فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36]، أَيْ: مُهْمَلًا مُعَطَّلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى وَلَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مُنَافٍ لِكَمَالِ حِكْمَتِهِ، وَأَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ وَعِزَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ تَأْبَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا أَخْرَجَ الكَلَامَ مَخْرَجِ الإِنْكَارِ عَلَى مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُسْنَهُ مُسْتَقِرٌّ فِي الفِطَرِ وَالعُقُولِ، وَقُبْحَ تَرْكِهِ سَدٌّ مُعَطَّلٌ أَيْضًا مُسْتَقِرٌّ فِي الفِطَرِ، فَكَيْفَ يُنْسَبُ إِلَى الرَّبِّ مَا قُبْحُهُ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطْرَتِكُمْ وَعُقُولِكُم.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 115، 116]، وَنَزَّه نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذَا الحُسْبَانِ البَاطِلِ المُضَادِّ لِمُوجِبِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، وَنَظَائِرُ هَذَا فِي القُرْآنِ كَثِيرَةٌ[42].
[1] الأسماء الحسنى للرضواني (65 - 66).
[2] اشتقاق أسماء الله (ص: 62)، ولسان العرب (12/ 141).
[3] السابق (ص: 61)، وطبقات الشافعية (3/ 358).
[4] لسان العرب (12/ 143).
[5] مفردات ألفاظ القرآن (ص: 248)، وكتاب العين (3/ 67).
[6] الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد (60).
[7] طريق الهجرتين (161)، الصواعق (4/ 1565).
[8] الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (1/ 438).
[9] النهج الأسمى (1/ 241 - 258).
[10] جامع البيان (8/ 7).
[11] الجامع لأحكام القرآن (7/ 70).
[12] شأن الدعاء (ص: 61).
[13] تفسير ابن كثير (4/ 527).
[14] المنهاج (207)، وذكره في الأسماء التي تتبعُ إثباتَ التدبير له دون ما سِوَاه، وتبعَهُ البيهقيُّ في الأسماء (ص: 80).
[15] الجامع لأحكام القرآن (7/ 70).
[16] المفردات في غريب القرآن (ص: 127).
[17] تجده في آثار الإيمان بهذا الاسم.
[18] تفسير الأسماء (ص: 52)، وانظر: شأن الدعاء (ص: 73).
[19] جامع البيان (1/ 436)، (2/ 363).
[20] تفسير القرآن (1/ 184، 315، 459)، وانظر: روح المعاني (7/ 117)، والاعتقاد (ص: 60).
[21] المنهاج (1/ 191)، وذكره في الأسماء التي تتبعُ إثباتَ الابتداعِ والاختراعِ له، وتبعَهُ البيهقيُّ في الأسماء (ص: 22).
[22] النونية (2/ 218 - 219)، وانظر: تيسير الكريم (5/ 299، 302 - 303).
وحاصل ما ذكره ابنُ القيِّم في هذه الأبيات: أنَّ الحكيم مِن أوصافه، وأن حكمته نوعان: حكم، وأحكام، ثم بين أن الحكم نوعان: شرعي وكوني (قدري)، وأنهما لا يتلازمان، بل قد يوجد هذا دون هذا، وقد يجتمعان، وأن الله سبحانه يحبُّ الشرعيَّ منهما الذي هو ما أمر به الرسل وأتْباع الرسل، وأمر بالرضَى عنه وعدم الاعتراض والمنازعة: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65] ، أما ما حكم به قدرًا وشاء أن يكون، فلا يلزم مِن مشيئته أن يكون محبوبًا لديه، كمشيئته وجود إبليس وجنوده وكفر الكافر وفسق الفاسق، وهو لا يحبُّ ذلك كله ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الزمر: 7]، ولم يأمُر تعالى أن نحبَّ كلَّ ما خلَقه وشاءَهُ، هذا هو مذهب السلف، ومَن خالفهم فيه فقد ضلَّ وأضلَّ، (النجدي).
[23] الكتاب الأسنى (ورقة: 389أ).
[24] أضواء البيان (7/ 162).
[25] المقصود بأخسِّ خلْقه هم الكفَرة الفجَرة المشرِّعون للقوانين الوضعية، لا الإنسان عمومًا.
[26] راجع: أضواء البيان (7/ 163 - 173).
[27] باختصار من كتاب الهدى والبيان في أسماء القرآن للشيخ صالح بن إبراهيم البليهي (ص: 212).
[28] جامع البيان (3/ 60 - 61)، وانظر: تفسير ابن كثير (1/ 322).
[29] رواه البخاري (1409، 7141، 7316)، ومسلم (816) عن عبد الله بن مسعود.
[30] انظر: تفسير ابن كثير (4/ 396).
[31] شأن الدعاء (ص: 73 - 74).
[32] إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (4955)، والبيهقي عنه (10/ 145)، والنسائي (8/ 226) عن يزيد ابن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن جدِّه شريح، عن أبيه هانئٍ به. وهذا إسناد حسَن، يزيد بن المقدام صدوق، وبقية رجاله رجال مسلم.
وقد أخرج الحاكم (4/ 279) الحديث مختصرًا - دُون ذكْره سببَ التسمية وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللهُ هُوَ الحَكَمُ " - عن قيس بن الربيع، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن جدِّه به.
قال الحاكم: تفرَّد به قيس بن الربيع، وليس مِن شرْط الكتاب. قلتُ: قيس بن الربيع صدوق تغيَّر لما كبر أدخل عليه ابنُه ما ليس من حديثه فحدَّث به.
ملاحظة: وقع في إسناد النسائي حذف المقدام بن شريح، وقد عزاه الحافظ المزي في التحفة للنسائي دون حذف، فالظاهر أنه خطأ مطبعي.
[33] النهاية (1/ 419).
[34] طريق الهجرتين (ص: 66).
[35] طريق الهجرتين (ص: 66).
[36] يشير إلى الأشاعرةِ نُفَاةِ الحكمة، ومَن شابَهَهُم.
[37] صحيح: أخرجه مسلم (2577) في البِرِّ والصِّلة، باب: تحريم الظلم، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[38] طريق الهجرتين (ص: 196).
[39] شفاء العليل (ص: 336).
[40] طريق الهجرتين (ص: 225).
[41] مفتاح دار السعادة (ص: 25).
[42] مفتاح دار السعادة (ص: 26).