معنى اسم الرحمن الرحيم
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي
المعنى اللُّغويُّ:
الرَّحمةُ هي الرِّقَّةُ والتَّعطُّفُ، والاسمانِ مُشتقَّانِ من الرَّحمةِ على وَجْهِ المُبالغةِ.
و (رحمن) أشدُّ مبالغةً مِن (رحيم)؛ لأَنَّ بناءَ (فعلان) أشدُّ مبالغةً مِنْ (فعيل)، ونظيرُهما نديمٌ وندمَانُ.
وفي كلام ابنِ جريرٍ ما يُفهمُ منه حكايةُ الاتِّفاقِ على هذا[2].
واتَّفق أكثرُ العلماءِ على أَنَّ اسمَ (الرحمن) عربيٌّ لفظُه.
وقال ابنُ الحصارِ بَعْدَ سرْدِهِ للحديث القدسيِّ: "أَنَا الرَّحْمَنُ؛ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَها اسْمًا مِنِ اسْمِي...": "فقد دَلَّ هذا الحديثُ الصحيحُ على الاشتقاقِ، فلا معنى للمُخالفةِ والشِّقاقِ"[3].
وقال ثعلبٌ: "إِنَّه عِبْرانيُّ الأَصْلِ، وكان رخمانا بالخاءِ المُعجمة"[4].
أما إنكارُ كُفَّارِ قريشٍ يومَ الحُديبيةِ لما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه: "اكْتُبْ: بِسْمِ الِله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، فقال سُهيل: أَمّا (الرحمن) فواللهِ ما أدري ما هي، ولكن اكتُبْ: باسمِكَ اللهُمَّ، كما كنتَ تكتبُ[5]، وفي قولِه تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ﴾ [الفرقان: 60].
فالظاهرُ: أَنَّه إنكارُ جحودٍ وعنادٍ وتعنُّتٍ، ومما يدُلُّ على أنهم كانوا يعرفون هذا الاسم قوله تعالى حكاية عنهم: ﴿ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ﴾ [الزخرف: 20].
وقَدْ جاءَ في بعضِ أشعارِ الجاهليةِ، كقول سلامة بن جندب الطهوي:
عَجِلْتُمْ عَلَيْنَا إِذْ عَجِلْنَا عَلَيْكُمُ ♦♦♦ وَمَا يَشَأِ الرَّحْمَنُ يَعْقِدْ ويُطْلِقِ
وقد ردَّ ابنُ جريرٍ بشدَّةٍ على مَنْ قال: إِنَّ العربَ كانت لا تعرِفُ (الرَّحمنَ)، فقال: "وقد زعمَ أهلُ الغباءِ أَنَّ العَربَ كانت لا تَعرِفُ الرحمنَ" اهـ، وبَيَّنَ أَنَّ ذلك كان جحُودًا[6].
ورودُ الاسمَينِ في القرآنِ الكريمِ:
ذُكر (الرَّحمنُ) في القرآنِ سبعًا وخمسين مَرَّةً منها قولُه تعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 163].
وقوله سُبْحَانَهُ: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93].
وقوله: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5].
وقوله: ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ﴾ [الفرقان: 26].
وأما اسمُه (الرَّحيمُ) فقد ذُكِرَ مائةً وأربعَ عَشْرةَ مرّةً منها:
قولُه تعالى: ﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 54].
وقولُه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143].
وقولُه سُبْحَانَهُ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾، وهو كثيرٌ في الكتاب، انظرْ مثلًا [البقرة: 173] [البقرة: 182] [البقرة: 199].
وقولُهُ تعالى: ﴿ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 129]
وقولُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 39].
وقولُه تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ﴾ [هود: 90].
وقولُه: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ تردَّدَتْ مِرارًا في (الشعراء).
وقولُه: ﴿ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28].
وقولُه: ﴿ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [الإسراء: 66].
معنى الاسمَينِ في حقِّ اللهِ تعالى:
الاسمانِ كما قلنا مُشتقَّانِ مِنَ الرَّحمةِ و (الرَّحمنُ) أشدُّ مُبالغةً من (الرَّحيمِ)، ولكِنْ ما الفرقُ بينهما؟ هناك قولانِ في الفرقِ بين هذينِ الاسمينِ:
الأولُ: إِنَّ اسمَ (الرَّحمنِ): هو ذو الرَّحمةِ الشاملةِ لجميعِ الخلائقِ في الدُّنيا وللمؤمنينَ في الآخرةِ.
و(الرَّحيمُ): هو ذو الرحمةِ للمؤمنين يومَ القيامةِ، واستدلوا بقولِه تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ ﴾ [الفرقان: 59].
وقوله: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، فذكَرَ الاستواءَ باسمِهِ (الرَّحمنِ) ليعُمَّ جميعَ خلقِهِ برحمتِهِ.
وقال: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]، فخصَّ المؤمنين باسمه (الرَّحيم)[7].
ولكِنْ يَشْكُلُ عليه قولُه تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143].
القولُ الثاني: هو أَنَّ (الرَّحمَن) دالٌّ على صفةٍ ذاتيةٍ و (الرَّحيمَ) دالٌّ على صفةٍ فعليةٍ.
قال ابنُ القيِّم رحمه الله: "إِنَّ (الرَّحمَن) دالٌّ على الصفةِ القائمةِ به سُبْحَانَهُ، و (الرَّحيمَ) دالٌّ على تعلُّقِها بالمَرْحُومِ، فكان الأولُ للوصفِ والثاني للفعلِ.
فالأولُّ دَالٌّ على أَنَّ الرَّحمَةَ صِفَتُه، والثاني دَالٌّ على أَنَّه يرحَمُ خَلْقَهُ برحمَتِهِ.
وإِذا أَردْتَ فَهْمَ هذا فتأمَّلْ قولَهُ: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]، ﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 117]، ولم يَجِئْ قَطُّ "رحمنُ بهم" فعُلِمَ أَنَّ (رحمنَ) هو المَوصُوفُ بالرحمةِ و(رحيم) هو الرَّاحِمُ برحمتِه.
وهذه نُكتةٌ لا تكادُ تجدُها في كتابٍ وإِن تنفسْتَ عندها مرآةَ قَلبِك لم يَنْجَلِ لك صورتُها" اهـ[8].
و(الرَّحمنُ) من الأسماءِ التي مَنَعَ اللهُ من التسميةِ بها كما قال: ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الإسراء: 110]، فعادلَ به الاسمَ الذي لا يشركهُ فيه غيرُه وهو (الله).
وقال ابنُ أبي حاتمٍ: "حدَّثنا أبو سعيدٍ يحيى بنُ سعيد القطّانُ، حدثنا زيدُ بنُ الحُبابِ، حدثني أبو الأشهبِ، عن الحسن قال: (الرَّحمنُ) اسمٌ لا يستطيعُ الناسُ أن ينتحِلوه، تَسمَّى به تبارك وتعالى"[9]؛ ولذا فلا يجوزُ أَنْ يُصْرَفَ للخلقِ.
وأما (الرَّحيمُ) فإِنَّه تعالى وَصَفَ به نبيَّه صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قال: ﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، فيقالُ: رَجُلٌ رحيمٌ، ولا يقال: رَحْمَنُ.
قال ابنُ كثيرٍ: "والحاصِلُ أَنَّ مِنْ أسمائِهِ تعالى ما يُسمَّى به غيرُه، ومنها ما لا يُسمَّى به غيرُه، كاسمِ اللهِ والرَّحمنِ والخالقِ والرازقِ ونحو ذلك؛ فلهذا بدأ باسمِ اللهِ ووصفَهُ بالرَّحمنِ لأنه أخصُّ وأعرفُ من الرحيمِ؛ لأَنَّ التسميةَ أولًا تكونُ بأشرفِ الأسماءِ؛ فلهذا ابتدأَ بالأخصِّ فالأخص" اهـ[10].
إثباتُ صِفَةِ الرَّحمةِ للهِ ربِّ العالمين:
مِنْ صفاتِ الله الثابتةِ بالكتابِ والسُّنَّةِ "الرَّحمةُ"، وهي صفةُ كمالٍ لائقةٌ بذاتِهِ كسائرِ صفاتِهِ العُلى، لا يجوزُ لنا أَنْ ننْفِيَها أو نُعطِّلَها لأَنَّ ذلك مِنَ الإِلحادِ في أسمائِهِ.
وأمَّا قولُ الزَّمخْشريِّ وأصحابِه؛ أَنَّ الرَّحمةَ مجازٌ في حَقِّ اللهِ تعالى، وأَنَّها عِبارةٌ عن إِنعامِهِ على عبادِهِ[11]، فهي نَزْعَةٌ اعتزاليّةٌ قد حَفِظَ اللهُ تعالى منها سلفَ المسلمين وأئمةَ الدِّينِ؛ فإنهم أقرُّوا ما وَرَدَ على ما وَرَدَ، وأثبَتوا للهِ تعالى ما أثبتَهُ له نبيُّه صلى الله عليه وسلم مِنْ غيرِ تَصَرُّفٍ بكنايةٍ أو مجازٍ، وقالوا: لسنا أغيرَ على اللهِ مِن رسولِه[12].
وقد ردّ ابنُ القيِّم رحمه الله تعالى على القائلينَ بأَنَّ رحمةَ اللهِ مَجَازٌ ردًّا مُفصَّلًا، وأتى بما لا مزيدَ عليه في كتابِه "الصواعق المُرْسَلة على الجهميةِ المُعطِّلةِ".
ولعظيمِ فائدتِها فإنا نسوقُها إليكَ باختصارٍ:
الرَّدُّ الأول: إِنَّ الإلحادَ إما أَنْ يكونَ بإنكارِ لفظِ الاسمِ، أو بإِنكارِ معناه، فإِنْ كانَ إِنكارُ لفظِهِ إلحادًا فمَنِ ادَّعى أنَّ (الرَّحمن) مجازٌ لا حقيقةَ فإِنَّه يجوّزُ إطلاقَ القولِ بنفيها فلا يَستنْكِفُ أَنْ يقولَ ليس بالرَّحمنِ ولا الرَّحيمِ، كما يصحُّ أَنْ يُقالَ للرَّجُلِ الشُّجاعِ ليس بأسدٍ على الحقيقةِ، وإِنْ قالوا: نتأدبُ في إطلاقِ هذا النفي فالأدبُ لا يمنعُ صِحَّةَ الإطلاقِ، وإنَّ الإلحادَ هو إنكارُ معاني أسمائِهِ وحقائِقِهَا، فقد أنكرتُم معانيها التي تدل عليها بإطلاقِها، وما صَرَفتموها إليه من المجازِ فنقيضُ معناها، أو لازمٌ مِنْ لوازمِ معناها، وليس هو الحقيقةَ ولهذا يصرِّحُ غلاتُهم بإنكارِ معانيها بالكليّةِ ويقولون: هي ألفاظٌ لا معانيَ لها.
الرَّدُّ الثاني: إِنَّ هذا الحامِلَ لكم على دَعْوى المجازِ في اسمِ الرَّحمنِ هو بعينِه موجودٌ في اسم العليمِ والقديرِ والسَّميعِ والبَصيرِ وسائرِ الأسماءِ.
فإِنَّ المَعْقولَ من العِلمِ صفةٌ عَرضِيَّةٌ تقومُ بالقلبِ إما ضروريّةٌ وإما نظريةٌ، والمعقولُ مِنَ الإِرادةِ حَرَكةُ النَّفسِ الناطقَةِ لجلبِ ما ينفعُها ودفْعِ ما يضرُّها، أو ينفعُ غيرَها أو يضرُّه.
والمعقولُ من القُدْرةِ القوَّةُ القائِمَةُ بجسمٍ تتأتى به الأفعالُ الاختياريةُ، فهل تجعلونَ إطلاقَ هذِه الأسماءِ والصِّفاتِ على اللهِ حقيقةً أَمْ مجازًا؟
فإِنْ قُلتُم: حقيقةً تناقَضتُم أقبحَ التناقضِ، إِذْ عَمِدْتُّم إلى صفاتِه سُبْحَانَهُ فجعلْتُم بعضَها حقيقةً وبعضَها مجازًا، مع وجودِ المحذورِ فيما جعلتموه حقيقةً.
وإِنْ قُلتُم: لا يستلزمُ ذلك محذورًا، فمِنْ أين استلزمَ اسمُ الرَّحمنِ المحذورَ؟ وإن قلتم الكلُّ مجازٌ، لم تُمكَّنوا بعد ذلك من إثباتِ حقيقةٍ لِله الْبتَّةَ، لا في أسمائِهِ ولا في الإِخبارِ عنه بأفعالِهِ وصفاتِهِ، وهذا انسلاخٌ من العقلِ والإِنسانيَّةِ.
الرَّدُّ الثالِثُ: إِنَّ نُفاةَ الصِّفاتِ يلزمُهم نفيُ الأسماءِ من جهةٍ أخرى، فإن العليمَ والقديرَ والسَّميعَ والبصيرَ، أسماءٌ تتضمَّنُ ثبوتَ الصفاتِ في اللُّغةِ فيمَنْ وُصِفَ بها، فاستعمالُها لغيرِ مَنْ وُصِفَ بها، استعمالٌ للاسم في غيرِ ما وُضِعَ له، فكما انتفَتْ عنه حقائِقُها فإنَّهُ تنتفي عنه أسماؤُها، فإِنَّ الاسمَ المشتقَّ تابعٌ للمشتَقِّ منه في النفي والإِثباتِ، فإذا انتفَتْ حقيقةُ الرحمةِ والعلمِ والقُدْرةِ والسَّمعِ والبَصَرِ انتفَت الأسماءُ المُشتقَّةُ منها عقلًا ولُغةً، فيلزمُ من نفي الحقيقةِ أن تنفيَ الصفةَ والاسمَ جميعًا.
الرَّدُّ الرابعُ: إِنَّه كيف يكونُ أظهرُ الأسماءِ التي افتتحَ اللهُ بها كتابَهُ في أمِّ القرآنِ، وهي مِنْ أظهَرِ شعارِ التوحيدِ، والكلمةُ الجاريةُ على ألسنةِ أهلِ الإِسلامِ وهي: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ التي هي مِفْتاحُ الطُّهورِ والصَّلاةِ وجميعِ الأفعالِ، فكيف يكونُ مجازًا؟
الرَّدُّ الخامسُ: قولُهم الرَّحمَةُ رِقَّةُ القَلْبِ، تريدون رَحمةَ المَخْلوقِ أم رحمةَ الخالقِ؟ أم كلَّ ما سُمِّيَ رحمةً شاهدًا أو غائبًا؟
فإِنْ قُلتُم بالأَوَّلِ صدقتُم ولم ينفعْكُم ذلك شيئًا، وإِنْ قُلتم بالثاني والثالثِ كُنتم قائلين غيرَ الحقِّ، فإِنَّ الرَّحمةَ صفةُ الرَّحيمِ وهي في كلِّ موصوفٍ بحسَبِهِ، فإِنْ كان الموصوفُ حيوانًا له قلبٌ فرحمتُه من جنسِهِ رِقَّةٌ قائمةٌ بقلبِهِ، وإن كان مَلَكًا فرحمتُه تناسِبُ ذاتَهُ.
فإذا اتصفَ أرحمُ الراحمينَ بالرَّحمةِ حقيقةً لم يلزمْ أَنْ تكونَ رحمتُه مِنْ جنس رحمةِ المخلوقِ لمخلوقٍ.
وهذا يطَّرِدُ في سائِرِ الصِّفاتِ كالعِلمِ والقُدرةِ والسَّمعِ والبَصرِ والإرادةِ إلزامًا ووجوبًا، فكيف يكونُ رحمةُ أرحمِ الرَّاحمينَ مجازًا دون السَّميعِ العليمِ؟
الرَّدُّ السادسُ: إِنَّه مِنْ أعظمِ المُحالِ أَنْ تكونَ رحمةُ أرحمِ الراحمينَ التي وَسِعَتْ كلَّ شيْءٍ مجازًا، ورحمةُ العبدِ الضعيفةُ القاصرةُ المخلوقةُ المُستعارةُ من رَبِّه التي هي مِنْ آثارِ رحمتِهِ حقيقةً، وهل في قلبِ الحقائقِ أكثرُ من هذا؟
الرَّدُّ السابعُ: ما رواه أهلُ السُّنَنِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "يقولُ اللهُ تعالى: أنا الرَّحمنُ خلقتُ الرَّحِمَ، وشققتُ لها اسمًا من اسمي، فمَن وَصَلها وصلتُه، ومَنْ قطعَها قطعتُه"[13].
فهذا صريحٌ في أَنَّ اسمَ الرَّحمةِ مُشتَقٌّ مِن اسمِهِ (الرَّحمنِ) تعالى، فَدلَّ على أَنَّ رحمتَهُ لما كانت هي الأصلَ في المعنى كانت هي الأصلَ في اللفظِ، ومثلُ هذا قولُ حسَّانِ رضي الله عنه في النبي صلى الله عليه وسلم:
فَشَقَّ له مِن اسمِه لِيُجلَّهُ ♦♦♦ فذُو العَرْشِ مَحمودٌ وهذا مُحمَّدُ
فإذا كانت أسماءُ الخَلْقِ الممدوحةُ مُشتقَّةً مِن أسماءِ الله الحُسنى، كانت أسماؤه يقينًا سَابِقةً، فيجبُ أَنْ تكونَ حقيقةً، لأَنَّها لو كانتْ مجازًا، لكانتِ الحقيقةُ سابقةً لها، فإِنَّ المجَازَ هو اللَّفظُ المستعملُ في غَيْرِ ما وُضِعَ له، فيكونُ اللفظُ قد سُمِّي به المخلوقُ، ثُمَّ نُقِلَ إلى الخالقِ، وهذا باطلٌ قطعًا.
الرَّدُّ الثامِنُ: ما في الصحيحين عن أبي هُريرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ كِتابًا فهو مَوضوعٌ عنده فوقَ العَرشِ: إنَّ رحمتي سَبَقَت غَضَبي" وفي لفظ: "غلَبتْ".
وقال تعالى: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]، فوصَفَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بالرَّحمةِ، وتسمَّى بالرَّحمنِ قبل أَنْ يكونَ بنو آدمَ.
فادّعاءُ المدَّعِي أَنَّ وصفَهُ بالرَّحمنِ مجازٌ مِن أبطلِ الباطلِ.
الرَّدُّ التاسِعُ: إِنَّهُ مِن المعلومِ أَنَّ المعنى المُستعارَ يكونُ في المُستعارِ منه أكملَ في المستعارِ له، وأَنَّ المعنى الذي دَلَّ عليه اللفظُ بالحقيقةِ أكملُ من المعنى الذي دلَّ عليه بالمجازِ، وإنَّما يُستعارُ لتكميلِ المَعْنى المجازي تشبيهُهُ بالحقيقي، كما يُستعارُ الشمسُ والقمرُ والبحرُ للرَّجُلِ الشُّجاعِ والجميلِ والجَوادِ.
فإذا جُعِلَ الرَّحمنُ والرَّحيمُ والودودُ وغيرُهما مِن أسمائِهِ سُبْحَانَهُ حقيقةً في العبدِ، مجازًا في الرَّبِّ، لَزِمَ أَنْ تكونَ هذه الصفاتُ في العبد أكملَ منها في الربِّ تعالى.
الرَّدُّ العاشِرُ: إِنَّ اللهَ سبحانه وتعالى فرَّقَ بين رحمتِهِ ورضْوانِهِ وثَوابِهِ المُنفصلِ فقال تعالى: ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 21].
يتبع