عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 21-01-2021, 04:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,714
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التحذير من النفاق والمنافقين


وقد بين لنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أعظمَ أمارات النفاق فقال: (آيةُ المنافقِ ثلاثٌ: إذا حدّث كذب، وإذا اؤتُمن خان، وإذا وعد أخلف) [صحيح البخاري 2749 عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه]، وفي حديث آخر يبدي صفةً رابعةً ألا وهي الفجور عند الخصومة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقًا، أو كانت فيه خصلةٌ من أربعةٍ كانت فيه خصلةٌ من النفاقِ حتى يدعَها: إذا حدَّث كذب، وإذا وَعدَ أَخلفَ، وإذا عاهدَ غَدرَ، وإذا خاصمَ فَجرَ) [صحيح البخاري 2459].

وعلى هذا فإن المنافق كذابٌ على الدوام كلما فغر فاه بالكلام كان كاذباً، فمن كان الكذب طبعه وعليه تربى فإن لاشك من المنافقين، وقد حرمه الاسلام العظيم وجعل الكذابين في جملة الملعونين، قال الله تعالى: ﴿ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران: 61]، وقال الله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [الزمر: 60]، وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (... وإيَّاكم والكذِبَ. فإنَّ الكذِبَ يهدي إلى الفجورِ. وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النَّارِ. وما يزالُ الرَّجلُ يكذِبُ ويتحرَّى الكذِبَ حتَّى يُكتبَ عند اللهِ كذَّابًا) [صحيح مسلم 2607 عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه].

والمنافق كذلك دائم الخيانة للأمانات المنوطة به فلا يرعاها ولا يعمل لها أي حساب، وهو كذلك خلاف للوعود والعهود ولا يبالي بما وعد ولا عاهد، وذلك أمرٌ في غاية الأهمية في الشرع الحنيف، فقد أوفى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بعهوده التي تعاهد عليها ولو حتى مع المخالفين فكيف بالمسلمين؟، فعن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يحكيان في حديثٍ طويلٍ عن صلح الحديبية: (... قال سهيلُ بنُ عمرٍو: على أنَّه لا يأتيك منَّا رجُلٌ وإنْ كان على دِينِك أو يُريدُ دينَك إلَّا ردَدْتَه إلينا فقال المسلِمونَ: سُبحانَ اللهِ كيف يُرَدُّ إلى المشركينَ وقد جاء مسلِمًا فبينما هم على ذلك إذ جاء أبو جَنْدَلِ بنُ سُهيلِ بنِ عمرٍو يرسُفُ في قيودِه قد خرَج مِن أسفلِ مكَّةَ حتى رمى بنفسِه بيْنَ المسلمينَ فقال سُهيلُ بنُ عمرٍو: يا محمَّدُ هذا أوَّلُ مَن نُقاضيك عليه أنْ ترُدَّه إليَّ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّا لم نُمضِ الكتابَ بعدُ فقال: واللهِ لا أُصالِحُك على شيءٍ أبدًا فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ( فأَجِزْه لي ) فقال: ما أنا بمُجيزِه لك قال: فافعَلْ قال: ما أنا بفاعلٍ قال مِكرَزٌ: بل قد أجَزْناه لك فقال أبو جَنْدَلِ بنُ سُهيلِ بنِ عمرٍو: يا معشرَ المسلمينَ أُرَدُّ إلى المشركين وقد جِئْتُ مسلِمًا ألا ترَوْنَ إلى ما قد لقيتُ وكان قد عُذِّب عذابًا شديدًا في اللهِ - فقال عمرُ بنُ الخطَّابِ رضوانُ اللهِ عليه: واللهِ ما شكَكْتُ منذُ أسلَمْتُ إلَّا يومَئذٍ فأتَيْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقُلْتُ: ألَسْتَ رسولَ اللهِ حقًّا؟ قال: "بلى" قُلْتُ: ألَسْنا على الحقِّ وعدوُّنا على الباطلِ؟ قال: "بلى" قُلْتُ: فلِمَ نُعطي الدَّنيَّةَ في دِيننِا إذًا؟ قال: "إنِّي رسولُ اللهِ ولَسْتُ أعصي ربِّي وهو ناصري" قُلْتُ: أوليسَ كُنْتَ تُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ فنطوفُ به؟ قال "بلى فخبَّرْتُك أنَّك تأتيه العامَ؟" قال: لا قال: فإنَّك تأتيه فتطوفُ به قال: فأتَيْتُ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ رضوانُ اللهِ عليه فقُلْتُ: يا أبا بكرٍ أليس هذا نبيَّ اللهِ حقًّا؟ قال: بلى قُلْتُ: أو لَسْنا على الحقِّ وعدوُّنا على الباطلِ؟ قال: بلى قُلْتُ: فلِمَ نُعطي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: أيُّها الرَّجلُ إنَّه رسولُ اللهِ وليس يعصي ربَّه وهو ناصرُه فاستمسِكْ بغَرْزِه حتَّى تموتَ فو اللهِ إنَّه على الحقِّ...) [صحيح ابن حبان 4372]، وهكذا فقد حاول النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم أن يُجيرَ أبا جندلٍ من الكافرين دون جدوى، فالتزم بما تعاهد عليه مع سهيل بن عمرو في رده له بعد أن جاء مسلماً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلف في وعده.

وابن عباس رضي الله تعالى عنهما يستدعي رجلاً وهو على فراش الموت ويزوجه ابنته ويقول: أعطيت هذا الرجل شبه وعدٍ على ذلك وأخشى أن ألقى الله تعال بثلث نفاق.

مواعيد عرقوب:
ومواعيدُ عُرْقُوبٍ صورةٌ جليةٌ للنفاقِ الصَّريحِ بإحْدى تجليَّاته البَخْسَةِ في عدم الوفاء بالوعود حتى صار للناس مثلاً في الإخلاف [وكان عرقوبُ يَعِدُ النَّاسَ و يُخْلِفُ الوعدَ، و لا يفي بوعده.

لقد كان له أخٌ ذهب إليه يطلب منه شيئاً. فقال عرقوب: إذا اطلعت هذه النخلة فلك حملها. فلما أخرجت " طلعها " أتاه، فقال له: دعها حتى تصير " بلحاً ". فلما أبلحت أتاه فقال له: دعها حتى تصير " زهواً ". فلما أزهت قال له: دعها حتى تصير "رُطباً ". فلما أرطبت قال له: دعها حتى تصير "تمراً ". فلما أتمرت، قام عرقوب بجذّها بالليل قبل أن يأتي أخوه في الصباح. فلما جاء أخوه في الصباح ليأخذ التمر لم يجد شيئاً، و لهذا قالوا فيه: مواعيد عرقوب. فأصبح عرقوب – ولا يزال - مَضرِبَ المثل بالمطل وعدم الوفاء: أمطلُ من عرقوب"، "وأخلفُ من عرقوب"، "مواعيدُ عرقوب أخاه بيثرب".

ولم يكن ذلك فحسبُ، فقد جادتْ قرائحُ الشُّعراء في وصْفِ الواقعة، وذكر القصةَ الشاعرُ كعبُ بن زهير في قصيدته الشهيرة في مدح النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والتي قال فيها:
وَلاَ تَمَسَّكُ بِالْعَهْدِ الَّذِي زَعَمَتْ
إِلاَّ كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ

فَلاَ يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ
إِنَّ الْأَمَانِيَّ والْأَحْلامَ تَضْلِيلُ

كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلاً
وَمَا مَوَاعِيدُهَا إِلاَّ الْأَبَاطِيلُ


وفيه يقول الأشجعي:
وَعَدْت وَكاَنَ الخُلْفُ مِنْك سَجِيَّةً ♦♦♦ مَوَاعِيدَ عُرْقُوبٍ أخَاهُ بِيَثْربِ

ويُقال مواعيد عرقوب: بمعنى عَلَم لكل ما لا يصح من المواعيد] (مقال على موقع ويكيبيديا تحت عنوان: عرقوب).

والمنافقون لهم أجسامٌ تُعجب النواظر ولهم رغاءٌ وإعادةٌ وإجادةٌ قد تشنف الأسماع من بريقها، قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المنافقون: 4].

ومن سمات المنافقين الفجور في الخصومة وقد زادت هذه الأيام بين الأخلاء الذين لم يتصادقوا على البر والتقوى وإنما جمعتهم الشهوات والشبهات والأوزار، وعندما يختلفون يظهرون القبائح والفضائح وينشرون ما لا يليق من الأقوال ويهتكون الأستار فيما بينهم، وقد أمر الله تعالى عند الفراق أو الهجر وجوب مراعاة الستر والكتمان وعدم الفجور بإطلاق البهتان، قال الله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10]، وعلى ما يدور في واقع الناس اليوم يجب الحذر الشديد من مصاحبة من لا مروءة له بنفاقه وإرجافه، ورد عن سيدنا على بن أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه قوله: "احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة فربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة".

وكما أنهم متثاقلون عن حضور الجماعات أو إقامة الصلوات فهم على هذه السخيمة في جل مناشطهم، قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ [التوبة: 86]، ويتعللون بأعذار غير مقنعةٍ ولا مقبولةٍ على الإطلاق، قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ [التوبة: 49]، فعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس: (يا جَدُّ هل لكَ في جلادِ بني الأصفرِ قال جدٌّ أوْ تأذنْ لي يا رسولَ اللهِ فإني رجلٌ أُحِبُّ النساءَ وإني أخشى إن أنى رأيتُ بناتِ بني الأصفرِ أن أُفتَنَ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهو مُعرضٌ عنهُ قد أَذِنْتُ لك فعند ذلك أنزل اللهُ: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ") [الألباني في السلسلة الصحيحة 6 /1225 وقال: إسناده حسنٌ].

وقعدوا في المدينة يأكلون ويشربون ولم يذهبوا مع المجاهدين، قال الله تعالى: ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [التوبة: 81، 82].

ومع ذلك فهم الطامعون أن يفوزوا بأخوةٍ صافيةٍ مع الصادقين من المؤمنين ويُقْسِمونَ على مشاعر الحب والموالاة، قال الله تعالى: ﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾ [التوبة: 56 - 58].

والمنافقون وصوليون هَمُّهم مصلحتهم ولا بد أن يدركوها حتى لو تخلوا عن دينهم ويدفعهم النفاق غالباً إلى أن يأمروا بالمنكر وينهوا عن المعروف، قال الله تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67].

مواقفٌ معَبِّرَةٌ عن النِّفاقِ وأَهْلِهِ:
وأشهر المنافقين في مواقفه ضد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والمسلمين هو عبد الله بن أبي بن سلول، ذلك الرجل الذي لم يترك فرصةً لنشر الفتنة أو إشاعة البهتان إلا واقتنصها، وقد تقَوَّلَ على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز قوله، قال الله تعالى: ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 7، 8]، وعن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال: (كنتُ معَ عمِّي، فسمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيِّ ابنِ سَلولٍ يقولُ: لا تُنفِقوا على مَن عِندَ رسولِ اللهِ حتى يَنفَضُّوا. وقال أيضًا: لئِنْ رجَعنا إلى المدينةِ ليُخرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذَلَّ، فذكَرتُ ذلك لعمِّي، فذكَر عمِّي لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأرسَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وأصحابِه، فحلَفوا ما قالوا، فصدَّقَهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكذَّبَني، فأصابَني هَمٌّ لم يُصِبْني مثلُه، فجلَستُ في بَيتِي، فأنزَل اللهُ عز وجل: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ - إلى قولِه - هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- إلى قولِه - لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ). فأرسَل إليَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقرَأها عليَّ، ثم قال:: إنَّ اللهَ قد صدَّقَك) [صحيح البخاري 4901].

وذكر الإمام ابن كثيرٍ رحمه الله في التفسير: [ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة - يعني مَرْجعَه من أحد - وكان عبد الله بن أبي بن سلول - كما حدثني ابن شهاب الزهري - له مقام يَقُومه كل جُمُعة لا ينُكر، شرفًا له من نفسه ومن قومه، وكان فيهم شريفا، إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام، فقال: أيها الناس، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله به، وأعزكم به، فانصروه وعَزّروه، واسمعوا له وأطيعوا. ثم جلس، حتى إذا صنع يوم أُحد ما صَنَع - يعني مرجعه بثلث الجيش - ورجع الناس قام يفعل ذلك كما كان يفعله، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا: اجلس، أي عدو الله، لست لذلك بأهل، وقد صنعتَ ما صنعتَ. فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بَجْرًا؛ أن قُمت أشدد أمره. فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك. ما لك؟ قال: قمتُ أشدد أمره، فوثب علي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني، لكأنما قلت بَجْرًا، أن قمت أشدد أمره. قالوا: ويلك. ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي] (الإمام ابن كثير / تفسير القرآن العظيم ص 127 ج4 ط2 1999م بتحقيق سامي محمد سلامة / دار طيبة).

وهو الذي انفرد بثلث الجيش عن جيش المسلمين في أحد، وكان يسئ في القول للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم إذا مر النبي من أمامه، فعن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قال: (أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ركِب على حمارٍ، عليه قَطيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وأسامةُ وَراءَه، يعودُ سعدَ بنَ عُبادَةَ في بني حارثِ بنِ الخَزرَجِ، قبلَ وَقعةِ بدرٍ، فسارا حتى مرَّا بمجلسٍ فيه عبدُ اللهِ بنُ أُبَيِّ ابنِ سَلولٍ، وذلك قبلَ أن يُسلِمَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ، فإذا المجلسُ أخلاطٌ منَ المسلمينَ والمشركينَ عبَدَةِ الأوثانِ واليهودِ، وفي المسلمينَ عبدُ اللهِ بنُ رَواحَةَ، فلما غَشِيَتِ المجلسُ عُجاجَةُ الدابَّةِ، خمَّر ابنُ أُبَيٍّ أنفَه برِدائِه وقال: لا تُغَبِّروا علينا، فسلَّم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليهم ثم وقَف، فنزَل فدعاهم إلى اللهِ وقرَأ عليهمُ القرآنَ، فقال له عبدُ اللهِ بنُ أُبَيِّ ابنِ سَلولٍ: أيُّها المرءُ، لا أحسَنَ مما تقولُ إن كان حقًّا، فلا تؤذِنا به في مجالسِنا، فمَن جاءك فاقصُصْ عليه...) [صحيح البخاري 6207].

ومن طابور المنافقين هؤلاء الذين كانوا يلتمسون المعاذير الواهية هرباً من الجهاد في سبيل الله تعالى، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: (أن رجالًا مِن المنافقين على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كان إذا خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى الغَزْوِ تَخَلَّفُوا عنه، وفَرِحُوا بمقعدِهم خلافَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اعتَذَرُوا إليه وحَلِفُوا، وأَحَبُّوا أن يًحْمَدُوا بما لا يَفْعَلوا، فنزَلَتْ: "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا..." (آل عمران جزء الآية 188 )) [صحيح البخاري 4567].

ومنهم الذين أقاموا مسجد الضرار في حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ليشقوا المجتمع ويفرقوا بين المؤمنين، قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 107 - 110]، وعن عبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمرو وأبي قتادة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين: (أقبل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يعني من تبوكَ حتى نزل بذي أوانٍ بلدٍ بينه وبين المدينةِ ساعةٌ من نهارٍ وكان أصحابُ مسجدِ الضِّرارِ قد كانوا أتَوه وهو يتجهَّز إلى تبوكَ فقالوا يا رسولَ اللهِ إنا قد بنينا مسجدًا لذي العِلَّةِ والحاجةِ والليلةِ المَطيرة والليلةِ الشاتيةِ وإنا نحبُّ أن تأتيَنا فتصلِّي لنا فيه فقال إني على جناحِ سفرٍ وحال شغلٍ أو كما قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ولو قدِمْنا إن شاء اللهُ تعالى أتَيناكُم فصلَّينا لكم فيه فلما نزل بذي أوانٍ أتاه خبرُ المسجدِ فدعا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مالكَ بنَ الدُّخشمِ أخا بني سالمِ بنِ عوفٍ ومعنِ بن عديٍّ أو أخاه عامرُ بنُ عديٍّ أخا بلْعَجْلانِ فقال انطلِقا إلى هذا المسجدِ الظالمِ أهلُه فاهدِماه وحرِّقاهُ فخرجا سريعَينِ حتى أتيا بني سالمِ بنِ عوفٍ وهم رهطُ مالكِ بنِ الدُّخشُمِ فقال مالكٌ لمعنٍ أَنظِرْني حتى أخرجَ إليك بنارٍ من أهلي فدخل أهلُه فأخذ سَعفًا من النخلِ فأشعل فيه نارًا ثم خرجا يشتدَّانِ حتى دخلا المسجدَ وفيه أهلُه فحرَّقاه وهدماه وتفرَّقوا عنه ونزل فيهم من القرآنِ ما نزل: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارَا وَكُفْرًا" إلى آخر القصة) [الألباني في إرواء الغليل 5/370 وقال: حديثٌ مرسلٌ].

جزاءُ المُنَافِقينَ:
وقد بين لنا القرآن الكريم والسنة المطهرة أن عذاباً أليما ينتظر المنافقين والمنافقات، ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء 138]، وقال الله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 68].

وقد شبَّهَ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم المنافق في صورةٍ سيئة فقال: (مثَلُ المؤمنِ كمثلِ الخامَةِ منَ الزَّرعِ تُفيئُها الرِّياحُ تصرعُها مرَّةً وتعدِلُها حتَّى يأتيَه أجلُهُ ومثلُ المنافقِ مثلُ الأَرْزةِ المُجذِيةِ الَّتي لا يصيبُها شيءٌ حتَّى يَكونَ انجِعافُها مرَّةً واحدةً) [صحيح مسلم 2810 عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه].

ولهذا؛ فقد جاء أسلوب القرآن الكريم مع المنافقين عنيفاً ماحقاً لأباطيلهم، قال الله تعالى:﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ﴾ [الأحزاب 60: 61]، وأمر الله تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بالغلظة على المنافقين ليذوقوا وبال أعمالهم فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [التوبة 73].

وفي الختام:
قد زاد البلاء وطاولت الأرضُ السماءَ سفاهةً بكثرة المنافقين هذه الأيام حيث انزوى الحياء ولفحت الألسنةُ الجامحةُ أسماعَ أهل التقوى والأدب فما بقي من المعروف إلا النذر اليسير، وهكذا بدأت الفتن بعد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، يقول حُذَيفَةَ بنِ اليَمانِ رضي الله عنه: (إنَّ المنافقينَ اليومَ شرٌّ منهم على عهدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كانوا يومَئذٍ يُسِرُّونَ واليومَ يَجهَرونَ) [صحيح البخاري 7113 عن شقيق بن سلمة رضي الله تعالى عنه].

واليوم لهم طوابيرُ طوَّافةً باسم التدين تارةً وباسم الوطنية تارةً أخرى، قد أُتْخِمُوا من المال والوجاهة والظهور والإكرام المتبادل بين أهل المصالح على طريقة النفاق التي لا يخطؤها من باع دينه أو وطنيته في ربوع أوطان الأمة.

ألا وإن للنفاق رائحةٌ تَزْكمُ الأنوفَ كما أن للإخلاص رائحةٌ تُسْعِد الوجدان وتزيد الإيمان وتلمح فيها عطر المعاني الحسان، وكلمات المنافقين كالماءِ الحارِّ في اليوم الصائف لا تروي ولا تشفي الغُلة، وفي جملة منطقهم سرابٌ خداعٌ يزيد الطين بِلَّةً والمريضَ عِلَّةً.

فاعرفوهم كما وصفهم القرآن ولا تصدقوهم ولا تمنحوهم أكثر مما يستحقون فهم سوس المجتمع وقوارض المحبة والاحترام بين الناس، وكلما زادوا وتوغلوا آذنت الدنيا بضيق الأنفاس ومفارقة القيم والمعاني الرائعة التي تحفظ ما تبقى فينا من النضارة والوقار.


نسأل الله تعالى أن يقينا من النفاق وأهله وأن يحفظ الأمة من مكرهم وكيدهم، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
والحمد لله في المبدأ والختام.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.62 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 35.99 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.71%)]