الخطبة الآخرة
الحمد لله حمد الشاكرين الصابرين، ولا عدوان إلا على الظالمين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
نهينا عن هَجْرِ الْمُسْلِمِ، وَمُقَاطَعَتِهُ، ونهينا عن التجسس والتحسس، والتقاطع والتدابر، ونهينا عن أشياء كثيرة فخالف المخالفون، والكثير منا -إلا من رحم الله سبحانه-، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("لَا تَجَسَّسُوا")، وهو نقل أخبار المسلمين إلى العدو، ("وَلَا تَحَسَّسُوا") -أَيْ: لَا تَبْحَثُوا عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، وَلَا تَتَّبِعُوهَا، [25]- ("وَلَا تَبَاغَضُوا")، ("وَلَا تَحَاسَدُوا")، -الْحَسَد: تَمَنِّي الشَّخْصِ زَوَالَ النِّعْمَة عَنْ مُسْتَحِقٍّ لَهَا، فَإِنْ سَعَى فِي ذَلِكَ، كَانَ بَاغِيًا[26].
("وَلَا تَنَافَسُوا") -الْمُنَافَسَة وَالتَّنَافُس: الرَّغْبَةُ فِي الشَّيْءِ، وَفِي الِانْفِرَاد بِهِ، وَنَافَسْتُه مُنَافَسَةً، إِذَا رَغِبْتُ فِيمَا رَغِبَ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْحَدِيث: التَّبَارِي فِي الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَأَسْبَابهَا وَحُظُوظهَا[27].
("وَلَا تَقَاطَعُوا")، ("وَلَا تَدَابَرُوا")، -قَالَ مَالِك -رحمه الله-: لَا أَحْسِبُ التَّدَابُرَ إِلَّا الْإِعْرَاضَ عن أَخِيكَ الْمُسْلِمِ، فَتُدْبِرَ عَنْهُ بِوَجْهِكَ[28].
واليوم لم يدبر عن أخيه المسلم، بل استحل ماله ودمه، فنجد بعضهم أقبل على بعض، لكن بالقتل والعياذ بالله، ليس بالمقاطعة فقط.
("وَلَا تَنَاجَشُوا")، -أي في البيوع- -(النَّجْش) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُون الْجِيمِ: أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ وَهُوَ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا، لِيَقَعَ غَيْرُهُ فِيهَا[29].
("وَكُونُوا إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمْ اللهُ")[30].
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، وخالف الناس قوله عليه الصلاة والسلام: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»[31].
وقد وقع في الأمة ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: ("لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ"). [32]، النَّصِيف: مِكيالٌ دونَ الـمُدِّ.
واليوم فضائيات كاملة لسبِّ الصحابة رضي الله عنهم، ومن المسلمين من يسبّ كثيرا من الصحابة، ومن أهل السنة أيضا من يتطاول على كثير من الصحابة! ولا حول ولا قوة إلا بالله، أين قوله سبحانه: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ [المائدة: 92]؟ أين طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي"، ورغم ذلك يستمرون في المخالفات.
وسبَّ بعضهم أموات المسلمين، حتى الميت ما سلم من المسلمين، رغم قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا»[33].
فآذوا الأحياء بسب الأموات، مخالفين قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ، فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ»)[34].
منا من آذى المسلمين بسبِّهم وشتمهم، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("لَا تُؤْذُوا مُسْلِمًا بِشَتْمِ كَافِرٍ")[35].
لا تؤذوا مسلما بشتم كافر، ربما يكون هذا الكافر أبا لهذا المسلم، فلا تسب هذا الكافر فتؤذي هذا المسلم، كيف؟ فإذا كان كذلك فكيف بسب المسلم، فشتم الكافر لا يجوز إذا كان يؤذي مسلما!!
وكثير من المسلمين فعلوا أفعالا لم ترُقْ لهم، وعملوا أعمالا لم تعجبْهم، فسبُّوا الزمن والتاريخ، مخالفين بذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ"[36].
كذلك ما كان مخالفة لطاعته صلى الله عليه وسلم الدعاء على الأنفس والأموال والأهل والعشيرة وما شابه ذلك، مخالفين بذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ("لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، [وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ]، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ")[37].
الأموات إذا ذكرناهم لا نذكرهم إلا بخير، لماذا؟ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَالِكٌ بِسُوءٍ)، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("إِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ، وَلَا تَقَعُوا فِيهِ")، ("لَا تَذْكُرُوا هَلْكَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ")[38].
هَلْكَاكُمْ أي موتاكم، لا تذكروهم إِلَّا بِخَيْرٍ.
كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ("لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ"،...)[39].
وكم من زوجة تصف لزوجها محاسن امرأة أخرى، مخالفة بذلك قوله صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تُبَاشِرُ المَرْأَةُالمَرْأَةَ، فَتَنْعَتَهَا") -أي تصفها- ("لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا»)[40].
ووقع في هذه الأمة ما حذر منه صلى الله عليه وسلم، حيث قال: ("لَا تَذْهَبُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ حَتَّى تَشْرَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ، يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا")[41].
لم يطع الرسول صلى الله عليه وسلم من اغتصب شيئا ليس من حقه، فهو عاص لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا، فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»[42].
وأخيرا وليس آخرا، استعمال المزاح الثقيل بين الأصحاب، والأهل والأحباب، وما شابه ذلك، فلا ينبغي ذلك يا عباد الله! وأحيانا ذاك المزاح الذي فيه إرهاب وترويع للمسلم، فإذا كان الترويع بأخذ العصا، وتخبئتها عن أخيك المسلم، وأخذ المتاع، أو أخذ حذاء أخيك محظور شرعا، وما يسمى اليوم الكاميرا الخفية، وما شابه ذلك، فكيف بترويعه بما هو أكبر من ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ صَاحِبِهِ جَادًّا وَلَا لَاعِبًا، وَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ عَصَا صَاحِبِهِ فَلْيَرْدُدْهَا عَلَيْهِ»[43].
كل هذه النواهي النبوية ونحوها خالفها كثير من المسلمين هذا الزمان، فكيف بالأوامر التي خالفها كثير من الناس، الرسول دلنا على الخير، والناس يبتعدون عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى حال الأمة في هذا الزمان، انظر إلى حالها، النبي صلى الله عليه وسلم يستحق كلَّ حقٍّ له، وواجب علينا أن نذكره، وكلَّما ذكرناه علينا أن نصلي عليه.
فصلوا عليه كما صلى عليه الله فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة يا رب العالمين، وارض عنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وفقنا لكل خير يا رب العالمين، واجعل عملنا في رضاك خالصا لوجهك الكريم يا مجيب السائلين.
اللهم فكّ أسر المأسورين وسجن المسجونين، واقضِ الدين عن المدينين، اللهم نفِّس كرب المكروبين، اللهم نفِّس كرب المكروبين، اللهم نفِّس كرب المكروبين، وأغن فقراءنا أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
[1] (ت) (2676)، (د) (4607)، (جة) (42)، وقال الترمذي: (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).
[2](خ) (7288) وغيره.
[3] (حب) (354)، (الإرواء) (3/ 10- 11).
[4] (حب) (65).
[5] (خ) (7280).
[6] (خ) (1884)، (م) 148- (1144)، (ت) (743)، (د) (2420)، (حم) (8012)، (9116)، (10903)، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن. (طل) (2595)، انظر صَحِيح الْجَامِع (7356)، الصَّحِيحَة (981).
[7] (ش) (9244)، وانظر (الإرواء) تحت حديث: (959).
[8] (طب) (ج11/ ص: 376/ ح: 12051)، انظر صَحِيح الْجَامِع (7348)، و(الصَّحِيحَة) (1016).
[9] (د) (1278)، (ت) (419)، (حم) (5811).
[10] (طس) (816)، (صَحِيح الْجَامِع) (678)، و(الإرواء) (478).
[11] (حم) (4653)، (خ) (422) (م) 208- (777)، (د) (1043)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
[12] (ت) (451) (س) (1598)، (د) (1448)، (حم) (17085).
[13] الحديث بزياداته: (خ) (4658)، (م) 49- (2855)، (ت) (3343)، (طس) (9433)، صحيح الجامع (6896).
[14] تحفة الأحوذي (ج8/ ص226).
[15] شرح النووي (9/ 237).
[16] (حم) (2818) (ت) (1888)، (د) (3728)، (جة) (3428) انظر (صحيح الجامع) (6913)، الإرواء (1977).
[17] (خ) (543)، (م) 237- (647)، (ت) (168)، (س) (495).
[18] (س) (5111)، (5112)، انظر غاية المرام ص: (75).
[19] عون المعبود (9/ 72).
[20] الحديث بزياداته: (م) 61- (1416)، (س) (3338) (جة) (1884)، (حم) (9665)، (هق) (13916) (الإرواء) تحت حديث (1895).
[21] (حم) (6412)، الإرواء تحت حديث (820)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح. (صحيح الجامع) (6869)، ورمز له (ت) عن عمران بن حصين.
[22] الحديث بزوائده: (حم) (13594) (حب) (4028)، (طس) (5099)، (هق) (13235)، (13254)، (الروياني) (1188)، انظر صَحِيح الْجَامِع (2941)، والصحيحة (1782)، آداب الزفاف (ص: 55)، (الإرواء)، تحت حديث (1784).
[23] (د) (90)، (جة) (619)، (ك) (598).
[24] (خ) (2965)، (2966).
[25] فتح الباري.
[26] فتح الباري.
[27] النووي: (8/ 357).
[28] الموطأ: (1411).
[29] فتح الباري.
[30] الحديث بزوائده: (خ) (4849)، (5717)، (5719)، (6345)، (م) 24- (2559) 28، 30- (2563)، (ت) (1935)، (د) (4910)، (خد) (1287).
[31] (خ) (1741).
[32] (م) 221- (2540)، (خ) (3470)، (ت) (3861)، (حم) (11094).
[33] (خ) (1393).
[34] (حم) (18235)، (ت) (1982)، (حب) (3022) صَحِيح الْجَامِع (7312)، والصحيحة تحت حديث (2397).
[35] (ك) (1420)، (هق) (6980)، انظر صَحِيح الْجَامِع (7191).
[36] (م) 5- (2246).
[37] (م) 74- (3006)، (د) (1532)، وانظر صحيح الجامع (7267) وصحيح الترغيب (1654).
[38] الحديث بزوائده: (س) (1935)، (د) (4899)، (ت) (3895)، صَحِيح الْجَامِع (794)، الصَّحِيحَة (1174)، انظر صحيح الجامع (7271).
[39] (م) 7- (920).
[40] (خ) (5240).
[41] (جة) (3384)، (د) (3688).
[42] (خ) (3198)، (م) 140- (1610).
[43] (حم) (17940)، انظر صحيح الجامع (2712)، (د) (5003)، (ت) (2160)، المشكاة (2948)، الإرواء (1518).