الموضوع: العبودية
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 23-01-2021, 09:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,167
الدولة : Egypt
افتراضي العبودية

العبودية


الشيخ عبدالرحمن الباني



الحمدُ لله ربِّ العالَمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمَّد وعلى سائرِ إخوانه المرسَلين، وعلى آله وصحْبه، ومَن دعا بدعوتِه وتمسَّك بسُنته وجاهَد في سبيل الله إلى يَومِ الدِّين.
وبعدُ:
فإنَّ الناسَ اليوم إذا ذُكِرت (العبودية) نفرَت نفوسُهم، واشمأزَّتْ قلوبهم؛ وذلك لِمَا ذاقوا مِن شرور (العبودية) التي عرَفوها وألِفوها، وأعني بها: عبوديةَ الناس للناس، وخضوعَ بعضِهم لبعض.
ولكنَّ ابنَ تيمية في هذه الرسالة يُحدِّثنا عن (العبودية) المحبَّبة إلينا، تلك العبودية التي تُرادِف التحرُّرَ من الوثنيَّات أيًّا كان نوعُها، والتي تُخلِّصنا من الطواغيت المتكاثِرة التي تُريد أن تغتالَ جوهرَ إنسانيتنا.
تلك العبودية التي تُقارِنها الفضيلةُ والسعادة، والتي تردُّ على الإنسان كرامتَه، وترفع منزلتَه.
إنَّها عبوديتنا لله الذي خَلَقَ الإنسانَ مِن العدم، ونفَخ فيه من رُوحه، وأسجد له ملائكتَه، وأسكَنه جَنَّته، تلك العبودية التي نَنحني بها لله، ثم ترتفع بها جباهُنا فلا نذلُّ لجبَّارٍ في الأرض أبدًا، مهما علاَ، ونسير في الطريقِ إلى الخير في الدُّنيا والآخِرة، فلا تقِف أمامنا عقبة أبدًا، حتى نظفرَ بإحدى الحُسنَيينِ: النصر أو الشهادة.
تلك (العبودية) التي تَرْجم القاضي عياضٌ (476-544هـ)[2] عن شُعورِ كلِّ مؤمنٍ نحوَها حين تغنَّى بها فقال:
وَمِمَّا زَادِنِي شَرَفًا وَتِيهًا
وَكِدْتُ بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا

دُخُولِيَ تَحْتَ قَولِكَ: يَا عِبَادِي
وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا


ولو أنَّ الناسَ استجابوا للدعوة الكريمة التي أعْلَنها بأمر ربِّه، رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبل بِضعة عشرَ قرنًا، بهذا القول الخالِد: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]، ولو أنَّ الناسَ استجابوا لهذه الدعوةِ، لعاشوا جميعًا في حريَّةٍ وفضيلة، وسعادةٍ وسلام.
وهذه.
رسالة العبودية

مِن أمتعِ وأنفعِ ما قرأتُ مِن الرسائل، ولقدْ قرأتُها منذُ سنوات، فوجدتُ علمًا غزيرًا، وتحقيقًا دقيقًا، وتوجيهاتٍ نافعةً.
وقد لاحظتُ أنَّ ابن تيمية - رحمه الله - يعرِض لنا فيها نظريةً كاملةً عن معنى (العبودية) في الإسلام.
وعى نظريةً غنيةً بالأفكار المترابِطة التي يشتقُّها مِن النصوص الشرعيَّة، والدلالة اللُّغوية، ويُؤيِّدها بالمسلَّمات العلميَّة النفْسيَّة والاجتماعيَّة، وهذا جانبٌ من جوانبِ الطرافةِ في نظريته.
ونحن سنعرِض باختصارٍ نظريتَه ونذكُر مزاياها ومنهجَه فيها، مشيرين إلى بعض النتائج التي نَنتهي إليها من ذلك كله:
1- يقول ابن تيمية: "المخلوقون كلُّهم عبادُ الله: الأبرار منهم والفجَّار، والمؤمنون والكفَّار، وأهل الجنَّة وأهل النار؛ إذ هو ربُّهم كلهم ومليكُهم، لا يخرجون عن مشيئتِه وقدرته... فهو سبحانه ربُّ العالمين وخالقُهم ورازقُهم، ومُحييهم ومميتُهم... سواء اعترَفوا بذلك أو أنْكروه، وسواء علِموا ذلك أو جهلوه.
لكنَّ أهلَ الإيمان منهم عرَفوا ذلك وآمَنوا به؛ بخلافِ مَن كان جاهلاً بذلك؛ أو جاحدًا له مستكبرًا على ربِّه...) (انظر ص: 50 - 51، وانظر أيضًا ص: 104).
وكأنَّ ابنَ تيمية يُريد أن ينبِّه إلى أنَّ العبودية لله نوعان:
عبوديةٌ قسريَّة، تتمثَّل في كونِ اللهِ ربَّنا ومالكَنا، وكونِنا خاضعين للقوانين التي جرَى عليها الكونُ والسُّنن التي نظَّم بها الخليقة، فنَحنُ عِباد الله - بهذا المعنى - شِئنا أم أبَيْنا.
وهناك نوعٌ آخرُ مِن العبودية، نستطيع أن نُسمِّيَه (الخضوع الإرادي) أو الانقياد الشرعي، هو الإقرارُ لله وحْدَه بالعبادة والطاعة فيما شرَعه لنا من قوانين، لا تُصبح نافذة وجارية في الواقِع إلا بتدخُّل مِن إرادتنا.
وهو ما يُعبِّر عنه ابنُ تيمية بـ(عبودية الإلهيَّة).
هذه هي الخُطوة الأولى مِن نظريته.
2- وأمَّا الخُطوة الثانية فيُعبِّر عنها قولُه: "وكلُّ مَن استكبر عن عبادةِ الله، لا بدَّ أن يَعبُدَ غيره، [ويذل له]" (ص: 100).
ويسوق الحُجَّة عليه بقوله: "فإنَّ الإنسانَ حسَّاسٌ يتحرَّك بالإرادة، وقد ثبَت في "الصحيح" عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((أصدقُ الأسماء: حارثٌ وهماَّم))، فالحارث: الكاسِب الفاعِل، والهمَّام: فعَّال مِن الهم، والهمُّ أوَّل الإرادة، فالإنسان له إرادةٌ دائمًا، وكلُّ إرادة فلا بدَّ لها مِن مُراد تنتهي إليه، فلا بدَّ لكلِّ عبدٍ مِن مرادٍ محبوب، هو منتهى حبِّه وإرادته، فمَن لم يكن الله معبودَه ومنتهى حبِّه وإرادتِه، بل استكبر عن ذلك، فلا بدَّ أن يكونَ له مرادٌ محبوب يستعبده غيرُ الله، فيكون عبدًا لذلك المرادِ المحبوب: إمَّا المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتَّخذه إلهًا مِن دون الله؛ كالشمس والقمَر، والكواكب والأوثان، وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتَّخذهم أربابًا، أو غير ذلك ممَّا عُبِد مِن دون الله" (ص: 100 - 101).
وهنا يُبيِّن لنا ابنُ تيمية أنَّ الإنسان على مفترَق طريقين لا ثالثَ لهما، فإمَّا أن يختارَ العبودية لله، وإمَّا أن يرفُضَ هذه العبودية، فيَقع - لا محالةَ - في عبوديةٍ لغير الله.
3- وهو - كما رأيت - يُقِيم هذا الجزء مِن نظريته على الأُسس النفْسيَّة، والتحليل الدقيق للطبيعة البشريَّة.
فالإنسانُ لا ينفكُّ عن وصفِ العبودية؛ لأنَّه كائنٌ حيٌّ ذو حاجاتٍ ومطامعَ، ولأنَّ له قلبًا؛ فإما أن يكون عبدًا لله، وإلاَّ فهو عبدٌ لغيره، وبتعبيرٍ آخَر: إنْ لم يَرْضَ أن يكون عبدًا لله استعبدتْه حاجاتُه ومطامعُه، وأهواؤه وشهواته، وطواغيتُ الجنِّ والإنس، وما يُزيِّنون لبني آدم من معبودات.
ومِن هذا يتَّضح أنَّ العبودية لله تُحرِّرهم من كل عبودية أخرى، شعرُوا بها أو لم يشعروا، رَضُوا بها أو سخِطوا:
"فالعبدُ لا بدَّ له مِن رِزق وهو محتاجٌ إلى ذلك، فإذا طلب رِزقَه مِن الله صار عبدًا لله فقيرًا إليه، وإذا طلبَه مِن مخلوقٍ صار عبدًا لذلك المخلوق فقيرًا إليه" (ص: 82).
"والإنسانُ لا بدَّ له مِن حصولِ ما يحتاج إليه مِن الرِّزق ونحوه، ودفْع ما يضرُّه..." (ص: 85).
"وكلُّ مَن علَّق قلبه بالمخلوقين أن يَنصروه أو يرزقوه أو أن يَهدوه، خضَع قلبه لهم، وصارَ فيه مِن العبوديةِ لهم بقدْر ذلك، وإنْ كان في الظاهر أميرًا لهم مُدبِّرًا لأمورِهم متصرفًا بهم، فالعاقلُ ينظُر إلى الحقائق لا إلى الظواهر" (ص: 87).
وهنا يبلغ ابنُ تيمية أعماقَ الحقيقة النفسيَّة حين يقول:
"فالحريَّةُ حريَّةُ القلْب، والعبودية عبودية القلْب، كما أنَّ الغِنى غِنى النفْس" (ص: 88).
ويقول: "الرِّقُّ والعبوديةُ في الحقيقةِ هو رِقُّ القلْب وعبوديته، فما استرقَّ القلبَ واستعبده فهو عبدُه" (ص: 81).
ولا يلْبَث أن يبلغ الآفاقَ الاجتماعيَّة والسياسيَّة حين يتحدَّث عن بعضِ مظاهر العبوديَّة لغيرِ الله، تلك التي تَبدو ظاهرًا بعيدةً كلَّ البُعد عن أن يكون صاحبها عبدًا، فيقول: "... وكذلك طالِب الرئاسة والعلوِّ في الأرْض قلبُه رقيقٌ لمن يُعينه عليها، ولو كان في الظاهر مُقدَّمَهم والمطاعَ فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموالَ والولايات، ويعفو عما يَجترحونه؛ ليطيعوه ويعينوه، فهو في الظاهرِ رئيسٌ مطاعٌ، وفي الحقيقة عبدٌ مطيع لهم.
والتحقيق أنَّ كِليهما فيه عبوديةٌ للآخَر، وكِليهما تاركٌ لحقيقةِ عبادةِ الله" (ص: 91).
وهو يُبيِّن أنَّ سبيلَ التحرُّر إنَّما هو كمالُ العبودية لله: "ولن يستغنيَ القلبُ عن جميعِ المخلوقات إلاَّ بأنْ يكونَ الله هو مولاه الذي لا يَعبُد إلا إيَّاه، ولا يستعين إلاَّ به، ولا يتوكَّل إلا عليه، ولا يفرَح إلا بما يحبُّه ويرضاه... فكلَّما قوِيَ إخلاصُ دِينه لله، كَمُلتْ عبوديتُه لله واستغناؤه عنِ المخلوقات" (ص: 102).
و"كلَّما ازدادَ القلب حبًّا لله، ازداد له عبوديةً، وكلَّما ازداد له عبوديةً، ازدادَ له حبًّا، وفضَّله عمَّا سواه" (97).
4- ونظريةُ ابنِ تيمية في (العبودية) هي - في الوقت نفْسه - نظرية في الأخلاق والفَضيلة:
"وقد بيَّن [الله][3] أنَّ عبادَه المخلِصين، هم الذين يَنجُون مِن السيِّئات التي زيَّنها الشيطان.." (ص: 78).
"قال تعالى في حقِّ يوسف: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24]، فالله يصرِف عن عبدِه ما يَسوءُه مِن الميل إلى الصُّوَر والتعلُّق بها ويَصرِف عنه الفحشاءَ بإخلاصه لله" (ص: 90).
ومَن كانت عبوديتُه لله وجهادُه في سبيله، فعمَلُه كلُّه فضيلة، وهو لا ينحرف في أيِّ شأنٍ مِن الشؤون؛ إلاَّ عندما يَزيغ عن هذه العبودية.
5- وهي أيضًا نظريةٌ في السعادة، فلا أسعدَ ممَّن كان عبدًا لله، ولا أشقَى ممَّن عبَدَ غير الله.
"إنَّ القلْب - كما يقول ابن تيمية - إذا ذاق طعمَ عِبادة الله والإخلاص له، لم يكُن عنده شيءٌ قطُّ أحلى مِن ذلك، ولا ألذّ ولا أمتَع ولا أطيب" (ص: 90).
ومَن كان عبدًا لغيرِ الله كيف يَكون عزيزًا؟! وكيف يكون سعيدًا؟! سواء في دُنياه أمْ في أخراه؟!
يقول ابنُ تيمية في عرْض هذا الجانب مِن نظريته: "القلْبُ فقيرٌ بالذات إلى الله مِن وجهين: مِن جِهة العبادة وهي العِلَّة الغائيَّة، ومِن جِهة الاستعانة والتوكُّل وهي العلَّة الفاعلة، فالقلب لا يَصلحُ ولا يُفلح، ولا يَنعَم ولا يُسرُّ، ولا يلتذُّ ولا يطيبُ، ولا يسكُن ولا يطمئنُّ إلاَّ بعبادة ربِّه وحبِّه والإنابة إليه، ولو حصَل له كل ما يلتذُّ به مِن المخلوقات لم يطمئنَّ ولم يسكُنْ؛ إذ فيه فقرٌ ذاتي إلى ربِّه مِن حيث هو معبودُه ومحبوبُه ومطلوبُه، وبذلك يحصُل له الفرحُ والسرور، واللذة والنِّعمة، والسكون والطُّمأنينة.
وهذا لا يَحصُل له إلا بإعانةِ الله له؛ فإنَّه لا يقدِر على تحصيلِ ذلك له إلاَّ الله فهو دائمًا مفتقرٌ إلى حقيقة ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، فإنَّه لو أُعين على حصولِه كل ما يحبُّه ويطلبه ويشتهيه ويُريده ولم يحصلْ له عبادة لله، فلنْ يحصُل إلاَّ على الألَم والحَسْرة والعَذاب، ولن يَخلُصَ مِن آلام الدُّنيا ونكَدِ عيشِها إلاَّ بإخلاص الحبِّ لله؛ بحيث يكونُ الله هو غايةَ مرادِه ونهايةَ مقصوده، وهو المحبوبُ له بالقَصدِ الأوَّل، وكلُّ ما سِواه إنَّما يحبُّه لأجْله، فلا يحبُّ شيئًا لذاتِه إلا الله، ومتى لم يحصُلْ له هذا لم يكُن قد حقَّق حقيقة (لا إله إلا الله) ولا حقَّق التوحيدَ والعبودية والمحبَّة لله، وكان فيه مِن نقْص التوحيد والإيمان، بلْ مِن الألم والحسرةِ والعذاب بحسبِ ذلك..." (ص: 97 - 98).
ويُمكن أن نتبيَّن هذه الحقيقة، وهي حُصول السعادة بالعبوديَّة لله دون غيرِه، وذلك باستقراء أحوال عِباد غيرِ الله صنفًا صنفًا، هل نجِد فيهم سعيدًا؟ "فالرَّجُل إذا تعلَّق قلبه بامرأةٍ - ولو كانت مباحةً له - يبقَى قلبُه أسيرًا لها تتحكَّم فيه...
تتحكَّم فيه تحكُّمَ السيِّد القاهر الظالم في عبدِه المقهور الذي لا يستطيع الخلاصَ منه، بل أعظم؛ فإنَّ أسْر القلبِ أعظمُ مِن أسْر البدن، واستعباد القلب أعظمُ مِن استعباد البَدن؛ فإنَّ مَن استُعبِد بدنه واسترقَّ وأُسِر لا يُبالي إذا كان قلبُه مستريحًا مِن ذلك مطمئنًّا، بل يُمكنه الاحتيالُ في الخَلاص.
وأمَّا إذا كان القلبُ - الذي هو مَلِك الجِسم - رقيقًا مستعبدًا متيمًا لغيرِ الله، فهذا هو الذلُّ والأَسْر المحْض والعبودية الذليلة لما استُعبِد القلْب" (ص: 87-88).
"... وهؤلاء عُشَّاق الصور، مِن أعظمِ الناس عذابًا وأقلِّهم ثوابًا..." (ص: 89).
و"هكَذا أيضًا طالِب المال؛ فإنَّ ذلك المالَ يَستعبده ويسترقُّه..." (ص: 92).
ومَن كانتْ عبوديته لله فإنَّه "يطلبُه مِن الله ويرغَب إليه فيه فيكون المالُ عندَه - يستعمله في حاجتِه - بمنزلةِ حِمارِه الذي يركبه وبِساطِه الذي يجلس عليه... مِن غير أن يستعبده فيكون ﴿ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 19 - 21]..." (ص: 92).
وإذا علَّق العبدُ قلبَه بما لا يحتاج إليه: "صار مُستعبَدًا له، وربَّما صار مُعتمِدًا على غير الله، فلا يبقَى معه حقيقةُ العبادة لله ولا حقيقةُ التوكُّل عليه، بل فيه شُعبةٌ من العبادة لغيرِ الله، وشُعبة مِن التوكُّل على غيرِ الله، وهذا مِن أحقِّ الناس بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((تَعِس عبْدُ الدِّرهمِ، تَعِسَ عبْدُ الدينار، تَعِس عبْدُ القطيفة، تَعِس عبْدُ الخميصة))" (ص: 92).
تلك هي النظريةُ في أساسِها العام وخُطوطِها العريضة، ويَحسُن أن نتبيَّن الآن أهمَّ خصائصها ومزاياها:
1- فهي أولاً: لا تُهمِل الجانب الانفعالي (العاطفي) في الحياة الدينيَّة، بل تُعنَى به، وتعتبره مقوِّمًا أساسيًّا من الدِّين، وركنًا هامًّا مِن مفهوم العبودية، خلافًا للعرْض الجاف، الخالي مِن العنصر العاطفي، الذي ألِفْناه لدَى علماء الكلام:
"فأهلُ الإيمان لهم مِن الذَّوق والوَجْد مِثل ما بيَّنه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله في الحديث الصحيح: ((ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَد حلاوةَ الإيمان: مَن كان اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما، ومَن كان يحبُّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، ومَن كان يَكره أن يَرجِع في الكفرِ بعد إذ أنْقذَه الله منه كما يَكره أن يُلقَى في النار))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ذاق طَعمَ الإيمان مَن رضِي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا))" (ص: 67-68، وانظر ص93-94).
وهو لا يُقيم نظريتَه على أساسٍ عاطفيّ، إلا بعدَ أن ينقِّيَه من الشوائب والانحرافات (ص: 111-131).
وهو - إذْ يعنى بالجانبِ العاطفيِّ الانفعاليِّ - يبرز في نظريتِه الدِّينيَّة، وفي تفسير (العبودية) جانب الحبِّ، ويؤيِّد مذهبَه باللُّغة وبالآيات الكثيرة التي جاءَ في بعضها مكانةُ الحبِّ ومنزلته حتى لدَى المشركين، "ومِن المعلوم أنَّ المؤمنَ أشدُّ حبًّا لله؛ ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 165]" (ص: 96).
وهو يُقدِّم لنا تحليلاً نفسيًّا رائعًا لأثر (المحبَّة) في السلوك الإنساني وكونها دافعًا من أهمِّ الدوافع، ويُطبِّق ذلك في مجال محبَّة المؤمن لربِّه ومعبوده، وذلك حيث يقول: "ومعلومٌ أنَّ الحبَّ يحرِّك إرادة القلْب، فكلَّما قويتِ المحبَّةُ في القلْب طلَب القلب فعلَ المحبوبات، فإذا كانت المحبَّة تامَّةً، استلزمت إرادةً جازمةً في حصولِ المحبوبات، فإذا كان العبد قادرًا عليها حصَّلها، وإن كان عاجزًا عنها ففعل ما يقدِر عليه من ذلك كان له أجرٌ كأجر الفاعل" (ص: 95).
ويقول: "لا يستحقُّ المحبة ولا الخضوعَ التامَّ إلا الله" (ص: 49).
"وكلُّ محبَّة لا تكون لله فهي باطِلة" (ص: 120).
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.65 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.95%)]