الموضوع: العبودية
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 23-01-2021, 09:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,842
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العبودية

العبودية


الشيخ عبدالرحمن الباني




فالمحبَّةُ عنصرٌ أساسي في العبودية، ولا عبودية بدون محبَّة؛ قال: "والمقصود هو: أنَّ الخُلَّة والمحبَّة لله تحقيق عبوديته، وإنَّما يَغلَط مَن يَغلَط في هذه من حيثُ يتوهَّمون أنَّ العبودية مجرَّد ذُلٍّ وخضوع فقط لا محبَّة معه، وأنَّ المحبة فيها انبساطٌ في الأهواء أو إدْلال لا تحتمله الربوبيَّة" (ص: 111-112).



فهو كما ترَى يربط بيْن المحبَّة لله وبيْن العبوديَّة وهما لا ينفكَّان،وهو يذكُر ما يترتَّب على هذا التصوُّر الخاطِئ للعبودية مجرَّدة مِن المحبَّة، وللمحبَّة مُجرَّدة من الخضوع، فيتوهَّم بعضُهم العبودية مجرَّد ذلٍّ لا محبَّة معه، ويتوهَّمون المحبة انبساطًا في الأهواء وإدلالاً؛ ولذا نفر قوم من ذكر المحبة إذلالاً بلا خشية، وطلَب بعضهم الإمساكَ عن الكلام في المحبَّة...

فأساسُ العبوديَّة الحبُّ لا الخوف، هذا مع العلم أنَّه يُقرِّر أنَّ الخوفَ جزءٌ من الدِّين، وأنَّه داخل في الإيمان وأنَّه ممَّا يناسب العبودية الحقَّة؛ (ص: 44، ثم ص111-112).

وابنُ تيميةَ يُعنَى بعرْض هذه الناحية والدِّفاع عنها عناية كبيرة، ثم ينقُل قول بعض السَّلف: "مَن عبَد الله بالحبِّ وحْدَه فهو زِنديقٌ، ومَن عبَدَه بالرجاء وحدَه فهو مرجِئ، ومَن عبَده بالخوف وحده فهو حَروريٌّ، ومَن عبَدَه بالحبِّ والخوف والرجاء فهو مؤمنٌ موحِّد" (ص: 112).

وبعد؛ فهذا الحبُّ ليس شيئًا شكليًّا، ولا هو دعوى عريضة لا يُصدِّقها العمل، ولا هو محلَّة معها فِعل المخالَفات والمعاصي، بل هذا الحبُّ وثيقُ الرِّباط بالعملِ والجِهاد في سبيلِ الله: (ومعلومٌ أنَّ المحبوبات لا تُنال غالبًا إلا باحتمال المكروهات، سواء كانت محبَّةً صالحة أو فاسدة" (ص: 96).

"وقدْ جعَل اللهُ لأهل محبَّته علامتين: اتِّباع الرسول والجهاد في سبيله؛ وذلك لأنَّ الجهادَ حقيقةُ الاجتهاد في حصولِ ما يحبُّه الله مِن الإيمانِ والعمل الصالح، ومِن دفْع ما يبغضه الله من ﴿ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾ [الحجرات: 7]" (ص: 94. وانظر ص: 113-116).

2- ومِن خصائص نظرية ابنِ تيمية في (العبودية) فَهمُه لها بمفهومِها الواسعِ الآفاق، الشامِل لجميع مناحي الدِّين والحياة؛ خلافًا لما عليه أكثرُ الناس حتى المتديِّنون اليوم، فهو يقول: "العبادةُ هي اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله ويرْضاه مِن الأقوال والأعمال، الباطِنة والظاهِرة..." (ص: 44).

ويقول: "فالدِّين داخلٌ كلُّه في العبادة..." (ص: 47)، وهو يذكر أنَّ مِن عبادة الله وطاعته: "الأمْر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، بحسبِ الإمكان، والجهاد في سبيله لأهلِ الكفر والنِّفاق..." (ص: 61).

ثم يقول: "وكلُّ ذلك مِن العبادة" (ص: 62).

ومِن العبادة الأخذُ بالأسباب: "فكلُّ ما أمَر الله به عبادَه مِن الأسبابِ فهو عبادة" (ص: 70).

3- ونظريتُه تتضمَّن القولَ بوَحدةِ أصولِ الأديان المنزلَة مِن الله، وذلك على وجهٍ صحيحٍ شرْعيٍّ وعقليّ: فقد تبيَّن أنَّ الأنبياء جميعًا بُعِثوا بأمر واحد هو الدعوة إلى عبادة الله وحده:
يقول عن العبودية: "وبها أَرْسل [الله] جميع الرُّسل... وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]..." (ص: 44 - 45).

ويقول: "وهذا هو حقيقةُ دِين الإسلام الذي أرْسل الله به رُسلَه، وأنزل به كُتبه وهو أن يستسلمَ العبدُ لله لا لغيرِه، فالمستسلم له ولغيرِه مشرِك والممتنع عن الاستسلام له مستكبر..." (ص: 99).

"ولَمَّا كان الكِبر مستلزمًا للشرك والشرك ضدُّ الإسلام، وهو الذنب الذي لا يغفِره الله... كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدِين الإسلام فهو الدِّين الذي لا يقبل الله غيره لا مِن الأوَّلين ولا مِن الآخرين...

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلاَمُ ﴾ [آل عمران: 19]... وقال تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾ [آل عمران: 83]..." (ص: 103-104).

ويقول خلالَ كلامِه على الإخلاص لله واتِّباع شريعته: "وهذا هو أصلُ الدِّين... وبه أرْسل الله الرُّسل، وأنْزَل به الكتُب، وإليه دعَا الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعليه جاهَد..." (ص: 121).

4- وهي نظريةٌ إصلاحيَّة - أعْني ذات أثَر إصلاحي - بما حوتْ مِن التحقيق والتوجيه؛ فقد دَفَع ابنُ تيمية - خاصَّة في الجانبِ النقدي مِن نظريته، وهو الجانب الذي لا يتَّسع المجال لعرْضه - ألوانًا مِن الضلال الذي وقَع فيه المسلمون ﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 104]، وأنَّهم يَزدادون توغلاً في الإسلامِ ورُقيًّا في درجاتِ الخاصَّة، وخاصَّة الخاصَّة، مع أنَّهم يزدادون عنه بُعدًا، كشأنِ مستدبرِ الهدف كلَّما سار خُطوةً أو شوطًا ابتعَد عنِ الهدف بقدْر سيره!!

فابنُ تيمية - حين بيَّن المفاهيمَ المنحرِفة للعبودية، والشوائب المضلَّة عنها - قد قدَّم للمسلمين خيرًا كثيرًا بما أصلَح مِن حالهم الفكريَّة والسلوكيَّة.

وهو قدْ أغلق بالعِلم والحُجة على المسلمين بابًا، بل أبوابًا مِن الشرِّ جاءَهم من قِبل الأهواء المنحرِفة والفلسفات الضالَّة، والتخليط، وفوضى المنهج، ووضْع الشيء في غيرِ موضعه، بل تحريف الكَلِم عن مواضعه؛ (انظر مثلاً: ص: 59).

أ- فمِن ألوان الضلال والانحراف القولُ بالشهود - ما سموها (الحقيقة) - المؤدِّي إلى الجبر، وتعطيل التكاليف الشرعيَّة، والمُفضِي في الحقيقة إلى الرِّضا بالمعصية والقُعود عن إنكار المنكَر وتغيير الفساد، والاحتجاج للذُّنوب وللشرك!!

ب- ومنها (القول بوَحْدةِ الوجود)[4] المتضمِّن كفرًا هو شرٌّ مِن كفر أهل الكتاب والمشركين الذين بُعِث فيهم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وظلَّ في خصومتهم وحربِهم - حتى هدَى الله مَن هدَى - بضعةً وعشرين عامًا، هي مدة حياته المبارَكة - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد البعثة.

وهو يكشِف عن مفهومِ العبودية المعكوسِ عند القائلين بهذه الضلالة، بل يُبيِّن انمِحاءَ حقيقة العبودية ومعناها لديهم - وهي رُوح الدِّين وقِوامه - وذلك (أعني الانمحاء) تحتَ سلطان وَحْدةِ الوجود.

ج- وقد أبان ابنُ تيمية مدَى ضِيق النظر عندَ المعتزلة (القدرية) الذين لم يَسعْهمبعد إثبات الأمر والنهي (الحُكم التكليفي) أن يُقرُّوا بالقدَرِ (الذي هو الحُكم التكويني)، كما ضاقَ نِطاق الجبرية الذين - حين أثبتوا الحُكم التكوينيَّ - عجَزوا عن إثبات الحُكم التكليفي؛ (انظر: ص: 63-64).

د- وهو يُبيِّن أنَّ التحقُّق بالعبودية لا يُسلَكُ إليه الطريقُ المخالف للشرع، مِن الغناء وآلات اللهو التي تهيج محبة مطلقة، بل إنَّما يُسلَك إليه السبيل الشرعي، فكما لا يُعبَد إلا الله، فإنَّه لا يُعبَد الله إلاَّ بالطريق التي شرَعها ورَضِيها.

ومِن أجملِ ما في هذه النظرية بيانُه هذين الأصلين، ورَبْطُهما ربطًا طوعيًّا بالشهادتين:

فشهادتُنا "أن لا إله إلا الله" تَقتضي ألاَّ نَعبُدَ غيره.
وشهادتُنا "أنَّ محمدًا رسولُ الله" تَقتضي أنَّ مهمَّةَ الرسالة تبيانُ الطريقة المرضية لله في عبادته، وأنَّ الخروج عن هذه الطريقة يَتنافَى مع هذه الشهادة بل يَنقُضها.

وقدْ أكَّد هذا المعنى بآياتٍ بيَّنت أنه يُشترَط شرطانِ في العمَل؛ ليكون مقبولاً:
1- أن يكونَ صالحًا، ولا يكون صالحًا إلاَّ ما كان مُوافِقًا لشَرْع الله الذي جاء به نبيُّه ورسولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم.

2- أن يكون لا يُرادُ به إلاَّ الله؛ ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]؛ (تراجع الصفحات: 71، 120و148).

يقول ابنُ تيمية في نقْد الطرق المنحرفة: "ولهذا يَميل هؤلاءِ ويُغرَمون بسماع الشِّعر والأصوات [والآلات الموسيقيَّة] التي تُهيِّج المحبَّة المطلَقة التي لا تختصُّ بأهلِ الإيمان، وهؤلاء الذين يَتَّبعون أذواقَهم ومواجيدَهم مِن غيرِ اعتبار لذلك بالكتاب والسنَّة، وما كان عليه سَلَفُ الأمَّة" (ص: 68-69).

ويقول: "وطريقُ الحقيقةِ عندهم: هو السلوكُ الذي لا يتقيَّد صاحبُه بأمرِ الشارع ونهيه، ولكن بما يراه ويذوقه ويَجِده في قلبِه مع ما فيه مِن غفلة عنِ الله - جلَّ وعلا - ونحو ذلك" (ص: 66-67).

هـ- وهو يرَى أنَّ الاختيارَ مِن الدِّين - بأخْذ بعضه وترْك بعضه - من الضلال، فيقول خلالَ كلامه على الذين يرَوْن إسقاطَ التدبير: "ومِن هؤلاء طائفةٌ - هم أعلاهم عندَهم قدْرًا - وهو مُستمسِكون بما اختاروا بهواهم مِن الدِّين في أداء الفرائِض المشهورة واجتناب المحرَّمات المشهورة، لكن يضلون بترْك ما أُمِروا به مِن الأسباب التي هي عبادة، ظانِّين أنَّ العارف إذا شهِد القدَر أعْرَض عن ذلك مِثل مَن يجعل التوكُّلَ منهم أو الدعاء منهم، ونحو ذلك مِن مقامات العامَّة دون الخاصَّة، بناءً على أنَّ مَن شهِد القدَر عَلِم أنَّ ما قُدِّر سيكون، فلا حاجةَ إلى ذلك، وهذا ضلالٌ مبين..." (ص: 69-70).

وقد ذكَر ابنُ تيمية ناصحًا باتِّباع أسلوب القرآن، والأخْذ بالعِلم للوصولِ إلى الحقائقِ الشرعيَّة والوقوف عندها، وذلك حين كلامِه على المفاهيم المختلفة لِمَا يُسمَّى (الفَناء)، فقال:
(بل الكُمَّل [مِن المؤمنين الذين لا يَهتدون إلا بهَديِ الكتاب والسنَّة] تكون قلوبهم ليس فيها سِوى محبَّةِ اللهِ وإرادته وعبادته، وعندهم مِن سَعة العلم والتمييز ما يشهدون الأمورَ على ما هي عليه، بل يشهدون المخلوقاتِ قائمةً بأمر الله مُدبَّرةً بمشيئته، بل مستجيبة له، قانِتة له، فيكون لهم فيها تبصرةٌ وذِكرى، ويكون ما يشهدونه مِن ذلك مؤيِّدًا وممدًّا لما في قلوبِهم مِن إخلاص الدِّين وتجريد التوحيد له، والعبادة له وحْدَه لا شريكَ له.

وهذه هي الحقيقةُ التي دَعا إليها القرآنُ وقام بها أهلُ تحقيق الإيمان، والكُمَّل من أهل العرفان، ونبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - إمام هؤلاء وأكملُهم" (ص: 131).

و- وقد بيَّن الطريقة الصحيحة في ذِكر الله، وهي ذِكرُه في جُمَل تامَّة، وأورد حديثَ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((أفضلُ الذِّكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدُّعاء: الحمدُ لله))" (ص: 136).

وناقَش طريقة الذِّكر بالاسم المفرَد وحْدَه مناقشةً علميَّةً رصينة، ونبَّه إلى أنَّه "قدْ وقَع بعضُ مَن واظب على هذا الذِّكر بالاسمِ المفرَد وبـ(هو) في فنون مِن الإلحاد وأنواع مِن الاتِّحاد" (ص: 138).

5- وابنُ تيميَّة في هذه النظرية - عدا كونه مُصلحًا دينيًّا أو مصلحًا للعقيدة الدينيَّة - هو مصلحٌ أخلاقي واجتماعي؛ إذ يُقدِّم معالجةً ناجعة لبعضِ المشكلات النفْسيَّة والانحرافات الجنسيَّة.

وما أحوجَ الأُمَّةَ التي تملأ أغانيها وإذاعتها بالحبِّ الجنسي، وهي غافلةٌ عن خطرِه وضرره في أبنائها وبناتِها وكيانها العام، ما أحوجَها إلى أن تَعِي مِثل هذا الكلام الطيِّب الذي يقدِّمه (ص: 88 -90) خاصَّة، والعدو محيطٌ بها مِن كلِّ جانبٍ، والخطر محدِق بها مِن كلِّ جِهة[5].

وما أحوجها أيضًا وهي مِن جهة أخرى على أبواب خطرٍ آخَر، وهو معالجة أمراضها النفسيَّة والاجتماعيَّة بطرائقِ الغرب في العِلاج النفْسي القائم على الإلحاد والتنكُّر لهداية الله وحِكمة النبوَّة، ما أحوجَها إلى الحذَر من أن تنصرفَ - عن ذلك الهدي إلى تلك (العيادات السيكولوجيَّة) التي يتولاَّها أحيانًا الدجَّالون، وأحيانًا المنحرفون الذين يحتاجون هم أنفُسهم للمعالجة، وجدير بها أنَّ تنصرِف عن هذه الأساليب الملتوية إلى علاجِ النبوَّة المستمد مِن الخالق، وإلى الحِكمة المستمدة مِن النبوة:
﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36].
﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].

أليس مِن الواجب أن نُفيدَ مَن توجيه الذي: ﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [طه: 7]، ﴿ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18]، ﴿ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 119].

6- وتبدو قيمةُ نظرية ابنِ تيمية مِن النواحي الآتية:
أ- فهي نظريةٌ قائمةٌ على الملاحظات والحقائق النفسيَّة، وقد مرَّتْ أمثلة لهذا الجانب، ومِن ذلك قوله: "...فظنوا أنَّ كمال المحبَّة أن يحبَّ العبدُ كلَّ شيء حتى الكُفر والفسوق والعِصيان، ولا يُمكن لأحدٍ أن يحبَّ كلَّ موجود، بل يحب ما يُلائِمه وينفعه، ويبغض ما ينافيه ويضرُّه" (ص: 116).

وهو هنا يردُّ المنحرفين إلى الأوضاعِ النفْسيَّة السليمة، والحالات الطبيعيَّة السويَّة.

ب- وهي تتضمَّن توجيهاتٍ تربويةً قيِّمة، ومِن ذلك ما يُمكن أن يُعتبَر قاعدةً أخلاقيةً وتربويةً عامَّة على أساس حبِّ الله: "والإنسان لا يَترُك محبوبًا إلا بمحبوبٍ آخَرَ يكون أحبَّ إليه منه، أو خوفًا مِن مكروه، فالحبُّ الفاسد إنَّما ينصرِف القلب عنه بالحبِّ الصالح، أو بالخوف مِن الضرر..." (ص: 90).

جـ- وهذه النظريةُ لها - عدَا عن جانبها النفْسي والتربوي - مداها الاجتماعي والسِّياسي: وقد مرَّ وصفُه للمسيطر المتسلِّط وهو مِن أحكمِ وأدقِّ ما يُوصَف به، حيث قال: إنَّه مُستعبَد لمن دونه، وعبدٌ لمن يُعينونه على مقاصدِه، يطلب رِضاهم بما يبذل لهم مِن المال ويُغضي عن مظالمهم أو مطالبِهم للناس، وهو بذلك يمدُّ لهم في البغي والطُّغيان، وقد بيَّن أنَّ كلَّ مَن ترك عبودية الله، فهو مستعبد لغيرِه مِن المخلوقاتِ شاءَ أم أبَى.

7- ومِن أهمِّ خصائص نظرية ابنِ تيمية في (العبودية) كونُها موفِّقةً - على هدى وبصيرة - بين العقل والنقل، بين الدِّين والفلسفة، وبتعبيرٍ آخَر - هو لابن تيميَّة - بين العقل الصريح[6] والنقْل الصحيح، كما هو الاتِّجاه العام للفِكر التَّيمي، أو للفلسفة التيميَّة إنْ صحَّ هذا التعبير.

وهذا التوفيقُ بيْن العقل والنقل مبثوثٌ في الرِّسالة كلها، بل هو منهجُها ورُوحها، ومع ذلك يُراجَع على سبيل المثال مناقشتُه للقائلين بالاتِّحاد (ص: 127-129).

فهو يُبيِّن أنَّ دعوى (الاتحاد) إنْ صدَق فيها أحد، فليستْ أكثر مِن اضطراب عقلي، أو اضطراب في التمييز - على حدِّ تعبيره.

أمَّا أنْ يكون اتحاد في واقِع الأمْر وحقيقته فهذا محال؛ قال: "...وظنُّوا أنَّه اتحادٌ في واقع الأمر، وأنَّ المحبَّ يتحد بالمحبوب حتى لا يكون بينهما فرقٌ في نفْس وجودهما! وهذا غلَط؛ فإنَّ الخالق لا يتَّحد به شيءٌ أصلاً، بل لا يُمكِن أن يتَّحد شيءٌ بشيءٍ إلا إذا استحالاَ وفسدتْ حقيقة كلٍّ منهما وحصَل مِن اتحادهما أمرٌ ثالث لا هو هذا ولا هذا..." (ص: 128).

8- وهو في عرْضِه للنظرية والدِّفاع عن الحقِّ الذي تضمنته معتدلٌ لا يُغالي، يقبل ما كان صوابًا ممَّا عند الآخرين ويردُّ الخطأ، ويلتمس السببَ لوقوعِ مَن وقع فيه حتى، ولو كان كُفرًا صريحًا، فيقول مثلاً في نوعٍ مِن الفناء وهو ألاَّ يحب العبدُ إلاَّ ما يحبه الله، ولا يَرْضى إلا ما يُرضِي الله: (وهذا المعنى - إن سُمِّي فناءً أو لم يسمَّ - هو أوَّل الإسلام وآخِره، وباطِن الدِّين وظاهره" (ص: 127).

ويقول فيمَن يُسقِطون التكاليف: "وقولُ هؤلاء كفرٌ صريح، وإنْ وقَع فيه طوائفُ لم يعلموا أنه كفرٌ" (ص: 64)، ثم يلتمس العلاجَ الشرعيَّ لهم، وهو ما أوجبه اللهُ على العلماء مِن البيان والإقناع بالحُجَّة، ثم يُبيِّن متى يؤخذون بالجزاء وأنَّه يكون بعدَ البيان مِن أهل العلم والإصرار والعناد على مخالفةِ الحقِّ مِن جِهة الأخْذ بالضلال، فيقول: "فمَن لم يعرفْ ذلك عرَّفه... فإنْ أصرَّ على اعتقاد سقوط الأمْر والنهي، فإنه يُقتَل..." (ص: 65).

وهو في كثيرٍ من الأحيان يشخِّص الداء بذِكْر مظاهره، ثم يبيِّن أسباب الوقوع فيه، ثم يَذكُر العلاج.

9- وابنُ تيمية يَنزِع نزعةً مثالية في نظريته، نزعةً تردُّ على الإنسانية كرامتَها، وتحتفظ للإنسان بمنزلتِه العُليا فوقَ عالَم الكائنات الحيَّة التي لا تطاوله في منزلته ولا تنازعه في قِمَّته التي وضَعَه الله فيها بِما وضَع فيه مِن عنصر العقل والإدراك، وابتغاء الحقِّ والخير، وأهلية التكليف؛ يقول ابن تيمية: "والقَلبُ خُلِق يحبُّ الحقَّ ويُريده ويطلبه، فلما عرَضتْ له إرادةُ الشرِّ طلَب دفْع ذلك، فإنَّها تُفسِد القلب كما يفسد الزرعُ بما ينبُت فيه من الدَّغَل" (ص: 90-91).
يتبع






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.34 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.70%)]