إن الدين عند الله الإسلام
د. عدنان علي رضا النحوي
بسم الله الرحمن الرحيم
انتشر في وقتنا الحاضر مصطلحات تُنسَب إلى الدين وهي بعيدة عن التصور الإسلامي، ولكنها تستخدم ملتصقة بالإسلام. وقد يستخدمها العامة والمثقفون وبعض الدعاة وبعض العلماء.
من بين هذه المصطلحات الغريبة العجيبة "الديانات السماوية التوحيدية الثلاث"، ويقصدون بها الإسلام والنصرانية واليهودية، فكان من الواجب التنبيه إلى هذا الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون، وهو خطأ مخالف لنصوص كتاب الله - القرآن الكريم، ومخالف لحقيقة الرسالات السماوية التي بعث الله بها عباده المرسلين.
ولقد أشرنا في أكثر من كتاب إلى أن هذا المصطلح خاطئ ومخالف لنصوص الرسالة الخاتمة كما أُنْزِلَت على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم. وجوهر ذلك أن الدين عند الله هو الإسلام، دين واحد دين جميع الأنبياء والمرسلين، بعثهم الله جميعاً بهذا الدين السماوي التوحيدي الواحد على مرّ العصور والأجيال: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [ آل عمران:19].
ونرى الحقيقة جليّة في هذه الآية الكريمة وما تدلّ عليه. فهي تقررِّ أَن الدين عند الله دينٌ واحد هو الإِسلام، وأن اختلاف أهل الكتاب لم يحدث إلا من بعد ما جاءهم العلم الحق من عند الله بغياً بينهم، ظلماً وعدواناً وانحرافاً عن الحق، ومن لا يؤمن بأن الدين عند الله واحد هو الإسلام فإنه بميزان الله كافر بآيات الله، وإِنَّ الله سريع الحساب.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [ آل عمران:83].
وإنه لمن غير المعقول أن يبعث الله رسله بأديان مختلفة يتصارع الناس عليها، ثم يحاسبهم يوم القيامة. فالله حقٌّ واحد ودينه حقٌّ واحد هو الإسلام كما بيّنه الله سبحانه وتعالى لنا وأكَّده في آيات بيّنات، وأكَّد لنا الله سبحانه وتعالى في رسالته الخاتمة وكتابه المبين أنه بَعَث كل رسول بدين واحد هو الإسلام. فلننظر في بعض آيات الله البينات في هذا الصدد:
فهذا نوحٌ عليه السلام: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ يونس:71-72].
نعم! ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾! دين واحد هو الإسلام، وأمة واحدة هي الأمة المسلمة وكذلك مع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ما جاءا إلا بالإسلام دين الله الواحد: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [ البقرة: 127 - 132].
نعم! وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ،
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ،
فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ! "،
تأكيد بعد تأكيد، ورسول بعد رسول، لتثبيت هذه الحقيقة الأساسية بأن الدين عند الله هو الإسلام دين واحد لا ثاني له.
وكذلك مع يعقوب وبنيه تأكيد بعد تأكيد: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [ البقرة:133].
ومع هذا التأكيد بعد التأكيد يأتي تأكيد جديد للحقيقة نفسها حتى لا يبقى أيُّ مجال للشك أو للغموض، ولا يبقى عذر لأحد في أن لا يعي هذه الحقيقة.
﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ البقرة:135].
وكذلك تأكيد آخر على هذه الحقيقة الكونيّة الأساسية: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [ البقرة:136].
ثم يقرّر الله سبحانه وتعالى أن الدين عند الله هو الإسلام، دينٌ واحدٌ، دينُ جميع الأنبياء والمرسلين، فمن ابتغى ديناً آخر فلن يُقبل منه وسيكون في الآخرة من الخاسرين: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [ آل عمران:85].
وقد أجمع العلماء على أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الثقلين، وأن من لم يؤمن به ويتبع ما جاء به فهو من أهل النار، ومن الكفار سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو هندوكياً أو بوذياً أو شيوعياً أو غير ذلك.
لذا كان الواجب على جميع الثقلين من الجن والإنس أن يؤمنوا بالله ورسوله، وأن يعبدوا الله حق عبادة وأن يتبعوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم حتى يلقوا الله. وبذلك تحصل لهم السعادة والنجاة والفوز في الدنيا والآخرة كما تقدم ذلك في الآيات السابقة والحديث الشريف.
عن أي هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) [ أخرجه أحمد ومسلم][1].
فأيُّ تأكيد وتوضيح يمكن أن يكون أكثر من هذا؟! وإذا كان نوح عليه السلام أعلن عن نفسه أنه من المسلمين، فإن سائر الأنبياء والمرسلين أعلنوا ذلك بصورة جليّة واضحة، أعلنوا أن دينهم الإسلام، ورسالتهم الإسلام: فهذا إبراهيم عليه السلام يقول عنه سبحانه وتعالى:
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ آل عمران:65-68].
وكذلك موسى عليه السلام: ﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ. فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [ يونس:84 -86].
فهذا موسى عليه السلام بلّغ قومه من بني إسرائيل رسالة الإسلام، رسالة الله. ونرى شدة ارتباط الإيمان بالإسلام في قوله: ﴿ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ... ﴾أي آمنتم بإله واحد هو الله سبحانه وتعالى، ثم قال: ﴿ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾. وكان بلاغ موسى عليه السلام لفرعون وقومه، قويّاً بيِّناً، حتى إن فرعون أقرّ بالإله الواحد الذي آمنت به بنو إسرائيل وهو يغرق ويموت:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [ يونس:90-92].
نعم! ﴿ ... وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾! فقد كان يعلم إذن أن رسالة موسى عليه السلام هي الإسلام، وأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكان بنو إسرائيل يعلمون هذه الحقيقة الرئيسة كما بلَّغهم إياها رسول الله موسى عليه السلام، فكيف وقع الانحراف بعد ذلك عند طائفة من بني إسرائيل ؟! ما وقع هذه الانحراف إلا من بعد أن جاءهم العلم جليّاً قوياً. وما كان ذلك إلا بسبب البغي والظلم: ﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [ يونس:93].
وكذلك: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ۖ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [ آل عمران 18-20].
فقد بلّغ موسى عليه السلام رسالة ربّه إلى قومه بني إسرائيل. فمنهم من آمن ومنهم من كفر. فلما زاغوا وضلّوا أزاغ الله قلوبهم لأنهم كانوا قوماً فاسقين، والله لا يهدي القوم الفاسقين. وجاء في سورة المائدة:
﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ المائدة:23].
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ... ﴾ أي يخافون الله بإيمانهم به وطاعتهم له، وخشيتهم منه، فتلك خصائص الإيمان الصادق وصفات المؤمنين الصادقين. وأما الذين لم يخافوا كما خاف هذان الرجلان لم يستقرَّ الإيمان في قلوبهم، فقالوا لموسى عليه السلام: ﴿ .... ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [ المائدة:24].
وعيسى عليه السلام جاء قومه من بني إسرائيل بالإسلام يدعوهم إليه ويبشرهم برسول يأتي من بعده أسمه أحمد، وهو النبيّ الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم:
﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [ الصف:6].
وكذلك قوله سبحانه وتعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [ الصف:14].
أما الذين آمنوا بعيسى رسولاً من عند الله وبرسالته الإسلام فهؤلاء كانوا مسلمين، كما يتضح من الآية التالية أيضاً:
﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [ آل عمران:52-53].
فهذه الطائفة من بني إسرائيل آمنت بالله ورسوله عيسى عليه السلام، وبما أُنْزِل الله عليه ديناً هو دين الإسلام. حتى قالوا: ﴿ ... وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾!
أما الطائفة الثانية من بني إسرائيل فهي التي كفرت بعيسى عليه السلام وبالله. وهذه الطائفة لعنها الله كما ورد في سورة المائدة، وهم اليهود:
﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. تَرَىٰ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ. وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [ آل عمران:81].
لقد أصبحت هذه الطائفة الثانية من بني إسرائيل، الطائفة التي كفرت بعيسى عليه السلام وبرسالته، أصبحت موالية للكافرين والمشركين ويعملون المنكر ولا يتناهون عنه. ثم تأتي الآية التي تحدّد هذه الطائفة من بني إسرائيل بأنهم اليهود وأنهم أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا شأنهم بذلك شأن الكافرين:
﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ... ﴾ [ المائدة:82].
فيتَّضِح إذن أن بني إسرائيل انقسموا فريقين: فريق آمن فكان من المسلمين وكان دينهم الإسلام، وفريق كفر فكان من الكافرين وهم اليهود كما سمّاهم القرآن الكريم، وهم والمشركون أشدّ الناس عداوة للمؤمنين على مدى الدهر.
ولكن الانحراف عن دين الله الحق وقع، حتى قالت اليهود إن دينهم هو اليهودية، وقالت النصارى، إن دينهم هو النصرانية وأصبحت اليهودية والنصرانية بما تحملان من انحراف رئيس أساسي لا تمثلان رسالة موسى وعيسى عليهما السلام، الرسالة التي كانت تحمل ديناًُ واحداً هو الإسلام. ومن خلال نصوص الآيات الكريمة تبرز حقيقة التحريف كما سنعرضه بتفصيله في صفحات مقبلّة.
ولقد بالغ اليهود والنصارى بعد تحريفهم لدين الله الإسلام، وادعاء اليهود بأن ديانتهم اليهودية، وادعاء النصارى بأن ديانتهم النصرانية، لقد بالغوا بعد ذلك حتى قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً أو نصرانياً، كما تثبت لنا الآية الكريمة وهي تردّ عليهم وتثبت باطلهم، ثمّ يدور الخلاف بين اليهود والنصارى:
﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [ البقرة:111-113].
وامتدت الضلالة حتى أخذوا يدعون إلى اليهودية والنصرانية وما فيهما من تحريف لكلام الله:
﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [ البقرة:135- 136].
قول فصل: ﴿ ... بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ... ﴾، لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون!
يتبع