خدمات ما بعد البيع وأحكامها في الفقه الإسلامي (1-5)
[1]
بدر بن عبد الله الجدوع
مناقشة التخريج :
يناقش هذا التخريج من وجهين هما:
أ- بأن البائع حين يضمن أداء المبيع وصلاحيته، فإنه يتعهد بهذا الضمان لمدة معينة، وهذه المدة تكون في الغالب أطول من مدة استناد العيب إلى سبب سابق على القبض، وعلى هذا فلا يصح تخريج ضمان أداء المبيع وصلاحيته على ضمان العيب الحادث المستند إلى سبب سابق على القبض.
ب- لو فرض أن مدة ضمان البائع لأداء المبيع، مساوية لمدة استناد العيب إلى سبب سابق على القبض، فإنه لا حاجة للنص على هذا الضمان ولا يكون ضماناً ترغيباً؛ لأن العيب المستند إلى سبب سابق على القبض يعتبر داخلاً في خيار العيب، وهو ثابت بأصل العقد من غير حاجة إلى التنصيص عليه، وعلى هذا فإن البائع يعتبر مسؤولاً عن العيب المستند إلى سبب سابق على القبض حتى وإن لم يتعهد بضمان أداء المبيع وصلاحيته .
التخريج الثاني:
أن ضمان أداء المبيع وصلاحيته يخرج على ضمان العيب الذي لا يُطلع على وجوده إلا بتغيير في المبيع يحصل به استعلام واستكشاف العيب، ومن أمثلة ذلك: بيع ما مأكوله في جوفه كالبيض والرمان والجوز .
وقد اختلف الفقهاء في العيب الذي لا يعلم إلا بالاستعلام والاستكشاف هل هو من ضمان البائع أو من ضمان المشتري ؟ اختلفوا في ذلك على قولين :
القول الأول: أنه من ضمان البائع وهذا هو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة . جاء في شرح فتح القدير ومن اشترى بيضاً أو بطيخاً أو قثاءً أو خياراً أو جوزاً فوجده فاسداً، فإن لم ينتفع به رجع بالثمن كله ... وإن كان ينتفع به مع فساده لم يرده ويرجع بنقصان العيب" [41].
وجاء في تحفة المحتاج: " لو ظهر تغير لحم الحيوان بعد ذبحه، فإن أمكن معرفة تغييره بدون ذبحه كما في الجلالة امتنع الرد بعد ذبحه، وإن تعين ذبحه طريقاً لمعرفة تغيره فله الرد "[42].
وجاء في الإنصاف: " وإن اشترى ما مأكوله في جوفه، فكسره فوجده فاسداً فإن لم يكن له مكسوراً قيمةٌ كبيض دجاج رجع بالثمن كله، وإن كان له مكسوراً قيمةٌ كبيض النعام، وجوز الهند وكذا البطيخ الذي فيه نفع ونحوه، فله أرشه "[43].
أدلة هذا القول :
1- أن المشتري معذورٌ في استعلام المبيع واستكشافه فلم يكن عليه ضمان ما نتج عن ذلك، وهذا مثل اختبار المصراة بحلبها[44].
2- أن البيع لا بد فيه من الرضا قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[45].
والرضا لا يكون إلا بعد المعرفة لما يرضى به[46]، وبناءً على هذا فما تبين من عيب بالاستعلام، فإنه لا يكون من ضمان المشتري؛ لأنه قبل ذلك لم تكن له معرفة بالمبيع .
القول الثاني: أنه من ضمان المشتري، وهذا هو المشهور عند المالكية.
جاء في شرح مختصر خليل للخرشي " أن ما لا يطلع على وجوده إلا بتغير في ذات المبيع فإنه لا يكون عيباً على المشهور "[47].
الترجيح:
الذي يظهر – والله أعلم – أن القول الأول أرجح، لقوة أدلته وسلامتها من المناقشة.
مناقشة التخريج :
يمكن مناقشة هذا التخريج من ثلاثة أوجه :
1- أن ضمان أداء المبيع وصلاحيته مدته في العادة أطول من المدة التي تكفي لاستعلام واستكشاف المبيع، ومع ذلك يلتزم البائع بضمان السلعة خلال المدة التي حددها حتى وإن زادت على مدة الاستعلام والتجربة .
2- أن ضمان أداء المبيع وصلاحيته يُعد ضماناً ترغيبياً يقدمه بعض الباعة.
أما في ضمان العيب الذي لا يطلع على وجوده إلا بتغيير في المبيع فهو ضمان يجب بأصل العقد ويلزم به البائع حتى وإن لم يتعهد بضمانه .
3- أن ضمان العيب الذي لا يطلع على وجوده إلا بتغيير في المبيع يعد من ضمان العيب فهو يبطل إذا علم المشتري به ثم تصرف بالمبيع فتصرفه يدل على الرِضا.[48]
أما ضمان أداء المبيع وصلاحيته فإن البائع يكون مسؤولاً عن الضمان حتى وإن علم المشتري بالعيب ثم تصرف بالمبيع .
الترجيح بين التخريجين :
بعد ذكر التخريجين وما ورد عليها من مناقشة يتبين أنه لا يصح إطلاق القول على أن ضمان أداء المبيع وصلاحيته يخرج فقيهاً على أحدهما، وإنما يقال : إن العيب الذي يوجد خلال مدة ضمان أداء المبيع وصلاحيته لا يخلو من حالات :
الحالة الأولى:
أن يكون هذا العيب ناشئاً من عدم إتقان صنع المبيع، فهذا يخرج على ضمان العيب المستند إلى سبب سابق على القبض .
الحالة الثانية:
أن يكون العيب موجوداً في المبيع لكن لا يعلم إلا بالاستكشاف والتجربة فهذا يخرج على ضمان العيب الذي لا يطلع على وجوده إلا بتغيير في المبيع.
الحالة الثالثة:
أن يكون العيب حادثاً عند المشتري من غير استناد إلى سبب سابق على القبض، وإنما البائع قد تعهد بضمانه، فهذا يدخل في ضمان العيوب المستقبلية، والكلام عن حكم هذه الحالة سيأتي بيانه.
ومما تجدر الإشارة إليه أن ضمان أداء المبيع وصلاحيته في الحالتين الأولى والثانية لا يعتبر ضماناً ترغيبياً، وإنما هو ضمان يُلزم به البائع بأصل العقد حتى ولو لم يتعهد البائع بضمان أداء المبيع وصلاحيته .
المطلب الثالث: ضمان العيوب المستقبلية
هذا هو النوع الثاني من أنواع ضمان المبيع، ويستعمل غالباً في الآلات والأجهزة الحديثة [49].
ويقدم البائع هذا الضمان حتى يتأكد المشتري من أن البائع سيتحمل المسؤولية تجاه السلعة في حالة ظهور عيب فيها، أو في أحد أجزائها الرئيسية[50].
ويراد من ضمان العيوب المستقبلية أن البائع يلتزم بإصلاح العيب الحادث عند المشتري لمدة أو مسافة معينة تختلف بحسب السلعة المضمونة[51].
ولا يلزم المشتري عند وجود عيب على إقامة الدليل على سبق العيب على التسليم، وإنما يكون البائع ملزماً بإصلاح العيب حتى لو كان حادثاً عند المشتري ما دامت مدة الضمان باقية [52].
الحكم الشرعي لضمان العيوب المستقبلية :
الأصل في أن المبيع إذا وجد معه القبض أن يكون من ضمان المشتري وهذا بإجماع العلماء إلا في الرقيق [53].
فإن المالكية جعلوا عهدته على البائع ثلاثة أيام يضمن فيها كل عيب حادث، وعهدة سنة يضمن فيها ثلاثة أدواء هي: الجنون، والجذام، والبرص[54].
وبهذا يتبين أن البائع في الأصل لا يضمن العيوب المستقبلية، وإنما يضمن العيب القديم، لكن لو أن البائع تعهد بضمان العيوب المستقبلية فهل يعتبر هذا الضمان جائزاً شرعاً أو لا ؟
للكلام عن الحكم الشرعي لا بد من معرفة أن ضمان العيوب المستقبلية قد يكون له مبلغ مالي مستقل عن سعر السلعة يُنص عليه في العقد، وقد يكون داخلاً في عقد البيع دون تخصيص بثمن معين، وسأورد الكلام عن الحكم على نحو هذا التفصيل .
الفرع الأول: الضمان بثمن مستقل عن المبيع .
مثال هذا الضمان : أن يتفق المشتري مع البائع على شراء سيارة بخمسين ألف ريال على أن يزيد المشتري مبلغ خمسمائة ريال إذا أراد أن يضمنها البائع مدة سنة.
ويختلف مبلغ الضمان في العادة على حسب المدة.
وهذا النوع من الضمان يشبه عقد التأمين إذ أن التأمين: عقد يلزم فيه المستأمن
( طالب التأمين ) بدفع مبلغ معين، مقابل التزام المؤمن بدفع تعويض عن الضرر الذي قد يلحق بالمستأمن إذا وقع الخطر المؤمن ضده خلال فترة زمنية محددة.[55] وهذا النوع من الضمان يلتزم المشتري فيه بدفع مبلغ معين مقابل التزام البائع بإصلاح العطل، وتبديل القطع التالفة حيثما لزم ذلك[56].
وبناءً على هذا فإن الكلام عن حكم هذا النوع ينبني على حكم عقد التأمين التجاري، وقد اختلف الفقهاء المعاصرون فيه على قولين :
القول الأول: جواز التأمين التجاري[57].
الأدلة :
أولاً: الأدلة الواردة في أن الأصل في العقود والشروط الإباحة[58]، ومنها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}[59].
وجه الدلالة :
أن الله سبحانه خلق كل شيء على وجه الإباحة لخلقه، إلا ما استثناه الدليل بالتحريم، ومن هذا المباحات العقود، وعقد التأمين واحد منها، ولم يأت دليل على تحريمه [60].
المناقشة:
نوقش بأنه جاء الدليل على تحريم التأمين إذ أنه يحتوي على الربا والغرر وهما محرمان في الشريعة كما سيأتي بيانه[61].
ثانياً: قياس التأمين على العقود المشروعة في الفقه الإسلامي. ومنها:
1- قياس التأمين على ضمان خطر الطريق .
القول بضمان الطريق هو مذهب الحنفية، وحقيقته أن يقول إنسان آخر : أسلك هذا الطريق فإنه آمن، فإن كان مخوفاً وأُخذ مالك فأنا ضامن، فإذا سلكه وأُخذ ماله، فإنه يضمن عند الحنفية[62].
فالتزام ضامن خطر الطريق هو عين التزام شركة التأمين بضمان المؤمن عليه عند وقوع الخطر، وبما أن ضمان خطر الطريق جائز شرعاً فكذلك التأمين[63].
المناقشة:
نوقش من وجهين:
أ- بأن علة ضمان خطر الطريق – عند من يقول به من الفقهاء – هي التغرير المتسبب في الإتلاف، وهذه العلة غير موجودة في التأمين إذ أن شركة التأمين لم تغرر بالمؤمن لهم ليسلكوا طريق الخطر المتلف لأموالهم المؤمن عليها[64].
ب- أن ضمان خطر الطريق نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض، بخلاف التأمين فإنه عقد معاوضة تجارية[65].
2- قياس التأمين على إجارة الحارس.
فهو يحقق الأمان والاطمئنان لمن استأجره، والتأمين يحقق الأمان والاطمئنان كذلك للمؤمن لهم، وبما أن استئجار الحارس لتحقيق هذه الغاية جائز شرعاً، فكذلك التأمين [66].
المناقشة:
نوقش هذا القياس من وجهين :
أ- أن أجرة الحارس هي مقابل ما يقوم به من عمل، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس، وهذا بخلاف شركة التأمين فهي لا تباشر عملاً في المؤمن عليه[67].
ب- إذا طبقنا شروط الإجارة الصحيحة وجدنا أن بينهما فرقاً، فمثلاً يشترط في الإجارة :
- أن يكون المعقود عليه منفعة، وفي التأمين المعقود عليه عين.
- أن تعلم المنفعة قدراً ومدة، ومبلغ التأمين مجهول القدر والمدة.
- أن تكون المنفعة مباحة، والتأمين يقوم على أمور محرمة كالربا والغرر والرهان[68].
3- قياس التأمين على الإيداع، فكما أن المودع إليه يستفيد من أجرة حفظ الوديعة، فكذلك الشركة المؤمنة لها أن تستفيد مقابل ضمانها المؤمَّن عليه[69].
المناقشة:
نوقش بأن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه، بخلاف التأمين فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن يعود إلى المستأمن بمنفعة إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة، وشرط العوض عن الضمان لا يصح.
وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جهل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف عن عقد الإيداع بأجر[70].
4- قياس التأمين على المضاربة
فكما أنه في المضاربة يدفع صاحب رأس مال المضاربة إلى المضارب ليتاجر بها، ويكون الربح بينهما حسب اتفاقهما.
وفي التأمين يدفع المؤمن لهم أقساط التأمين ليتاجر بها المؤمن، ويكون مبلغ التأمين الذي يدفعه المؤمَّن عند وقوع الخطر هو ربح المؤمَّن لهم، وتكون أقساط التأمين التي يدفعها المؤمن لهم هي ربح المؤمن، وبما أن المضاربة جائزة شرعاً، فكذلك يجوز التأمين [71].
المناقشة:
نوقش هذا القياس من وجهين :
أ- أن رأس المال في المضاربة حق خالص لصاحب المال ولا حق فيه للعامل، أما أقساط التأمين التي تقابل رأس المال في المضاربة هي حق خالص لشركة التأمين إذا لم يقع الحادث، وهو عكس ما في المضاربة تماماً [72].
ب- أن المال في عقد المضاربة يكون من جانب المالك، ويبقى في ملكه، والعمل من المضارب، والربح بينهما حسب اشتراطهما، أما عقد التأمين فتملك الشركة المال الذي تأخذه، وربحه لها وحدها، ونصيب المؤّمن لهم معلق على خطر قد يقع وقد لا يقع، وهذا فاسد لأنه من القمار[73].
5- قياس التأمين على عقد المولاة – عند من أجازه من العلماء – فالمؤمِّن يتحمل عن المؤَّمن له مسؤوليات الحوادث المؤَّمن ضدها مقابل الأقساط، كتحمل العربي المسلم جنايات حليفه مقابل إرثه إياه، وفي كل من العقدين جهالة وخطر، فلا يعلم أيهما يموت قبل صاحبه [74].
يتبع