حكم فحص المحتوى الوراثي للمقبلين على الزواج (2-3)
د. محمد بن هائل المدحجي
إن فحص المحتوى الوراثي قبل الزواج هو إجراء طبي يساعد - بإذن الله تعالى - على الحد من انتشار الأمراض الوراثية، بأخذ عينة لإجراء تحاليل طبية للتأكد من الحالة الصحية للزوجين وسلامتهما من الأمراض الوراثية.
ويؤكد كثير من الأطباء ضرورة إجراء هذا الفحص؛ وذلك من أجل اكتشاف أمراض وراثية قد تؤثر على الأسرة فيما بعد، كمرض الأنيميا المنجلية، وأنيميا البحر المتوسط.
ومن المصالح المترتبة على إجراء فحص المحتوى الوراثي قبل الزواج:
1- الوقاية من الأمراض الوراثية المنتشرة في المجتمع، وذلك بتقليل حالات الزواج بين حاملي المورثات المعتلة نفسها، للحصول على ذرية سليمة من الأمراض الوراثية، فمثلاً في دولة قبرص بعد الإلزام بتطبيق الفحص الطبي لم يولد خلال عشرين عاماً أي طفل مصاب بمرض الأنيميا المنجلية الحادة بتوفيق من الله تعالى.
2- التقليل بشكل كبير من التكاليف المالية الناتجة عن علاج المصابين بالأمراض الوراثية، والناتجة عن غلاء الأدوية، والتكلفة المالية العالية للعناية بهم، وعدم توصل الطب إلى علاج بعض تلك الأمراض، مما يستلزم معه استمرار العلاج والعناية طوال العمر، وكلفة الفحص الجيني قليلة جداً ولا تقارن بالمبالغ الخيالية التي تصرف في علاج الأمراض الوراثية.
3- التقليل من الضغط على المستشفيات، وتخفيف الازدحام فيها، وكذا التخفيف على دُور الرعاية والعناية بالمصابين بمثل هذه الأمراض الوراثية.
4- حماية الأسرة من القلق والمعاناة المالية والنفسية بسبب إصابة أحد أفراد الأسرة بالمرض الوراثي.
لكن ذكر البعض مفاسد لفحص المحتوى الوراثي لمصلحة الإنجاب، ومنها:
1- إيهام الناس أن إجراء فحص المحتوى الوراثي سيجنب ذريتهم الأمراض الوراثية, وهذا غير صحيح؛ لأن هذه الأمراض تزيد عن ثمانية آلاف مرضٍ، والفحص لا يكون شاملاً لجميعها، بل يكون لما هو منتشر في المجتمع، فإذا أثبت الفحص سلامة الراغبين في الزواج، فإن هذا يوهم إنجاب ذرية سليمة من الأمراض الوراثية، ثم يفاجأ الأبوان عند الإنجاب بذرية مصابة بأمراض وراثية أخرى.
2- إذا أخبر الطبيب الخاطب أو المخطوبة بنتائج الفحص، وأن أحدهما مصاب بمرض وراثي، فقد يصاب الشخص - ولا سيما المرأة - بالضرر النفسي والاجتماعي إذا علم أن الآخرين قد اطّلعوا على نتيجة الفحص، وقد تنتشر نتيجة الفحص بين الناس، مما يتسبب في امتناع الناس من تزويج الشخص السليم إن كان رجلا ً، أو التزوج منها إن كانت امرأة.
3- أن تكلفة فحص المحتوى الوراثي قد تكون على الراغبين في الزواج مما يسبب إرهاقهم مادياً، وقد يؤدي هذا إلى عزوف الشباب عن الزواج.
4- سهولة الحصول على الشهادة الطبية التي تثبت سلامة الشخص من العيوب الوراثية دون إجرائه، وذلك برشوة تدفع لبعض القائمين عليه، وهذا يهدم الغرض من إجراء الفحص الجيني قبل الزواج.
لكننا إذا تأملنا في المفاسد المذكورة وجدنا أنها لا ترجع إلى فحص المحتوى الوراثي نفسه، وإنما هي متعلقة بالفهم الخاطئ له، أو الإجراءات المتخذة عند تطبيقه، وأيضاً فإن من قواعد الشريعة قاعدة: " إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما " وبالنظر في فحص المحتوى الوراثي وما قد يترتب عليه من مفاسد كإفشاء نتائجه، أو إحجام الراغبين عن الزواج، أو تكلفته المادية، فإننا نجد أن مفسدة عدم إجرائه أعظم؛ وذلك لما قد يترتب عليها من إصابة النسل ببعض الأمراض الوراثية، وهذه المفسدة راجعة إلى النسل الذي يعد حفظه من مقاصد الشريعة الضرورية، ومن ثم فإن المتعين تقديم درء هذه المفسدة، وعدم النظر إلى ما قد يترتب على هذا التقديم من مفاسد.
والفحص الاختياري للمحتوى الوراثي للمقبلين على الزواج جائز شرعاً، ولا أعلم في ذلك خلافاً، بل نص بعضهم على استحبابه، ومن الأدلة على ذلك:
1- أن أنبياء الله وعباد الله الصالحين طلبوا من الله الذرية الطيبة، كما في قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء }(آل عمران38)، وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }(الفرقان74)، والذرية لا تكون طيبة وقرة عين على الكمال إذا كانت مشوهة الخَلْق، ناقصة الأعضاء، متخلفة العقل فدل ذلك على مشروعية فحص المحتوى الوراثي قبل الزواج تحقيقا لكمال الذرية من جهة الصحة.
2- حث الشارع على حسن اختيار المرأة التي يراد الزواج منها، فقال صلى الله عليه وسلم: " تخيروا لنطفكم، وَانْكِحُوا الأكْفَاء، وأَنْكِحُوا إليهم" ( رواه ابن ماجه ) ، وهذا يشمل الصفـات الخِلْقية والخُلُقية، وبعض هذه الصفات الخِلْقية لا تتبين إلا بإجراء فحص المحتوى الوراثي قبل الزواج.
3- أحاديث النظر إلى المخطوبة كقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه لما خطب امرأة: " انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤْدم بينكما" (رواه الترمذي والنسائي ) فيمكن الاستدلال بهذه الأحاديث على ضرورة معرفة العيوب في المخطوبة، ومن ذلك العيوب الوراثية.
4- أن الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء الأمة, ولكي يكون بناؤها قوياً فلابد أن يكون أفرادها أصحاء, و فحص المحتوى الوراثي قبل الزواج فيه حماية للأسرة من الأمراض الوراثية.
5- أن الغرض المقصود من الزواج هو السكن والمـودة والرحمة وإيجـاد النسل السليم, ولا يتحقق هذا الأمر إذا كانت الذرية مصابة بأمراض يستعصي علاجها أو يستحيل, وفحص المحتوى الوراثي قبل الزواج هو طريق لتجنب الزواج الذي يؤدي إلى إيجاد نسل مريض، والوسائل تأخذ أحكام الغايات.
6- أن فحص المحتوى الوراثي قبل الزواج يحقق مصالح شرعية راجحة، ويدفع مفاسد اجتماعية ومالية متوقعة، وهو من قضاء الله وقدره، ولا يضاده.
7- أن عدم إجراء فحص المحتوى الوراثي فيه ضرر بالذرية في حالة كون الوالدين حاملين للجينات المعتلة؛ لأن ذلك يؤدي إلى احتمال انتقال هذه الجينات إلى الذرية، ومن ثم إصابة بعضها بهذا المرض الوراثي الذي يسببه هذا الجين المعتل، و فحص المحتوى الوراثي يحصل به معرفة سلامة الراغبين في الزواج من الأمراض الوراثية الشائعة، فيكون مشروعاً، درءاً لهذا الضرر، عملاً بالقاعدة الشرعية " الضرر يزال ".
9- إن الأصل في الأشياء الإباحة، وفي هذا الفحص محافظة على صحة الأسرة المسلمة، وضمان لقوتها وعطائها، ومن ثم قوة المجتمع المسلم، كما أن فيه إعمالاً للقاعدة الشرعية " الدفع أولى من الرفع " فالغرض من فحص المحتوى الوراثي قبل الزواج هو الحد من الزواج بين حاملي المورثات المعتلة، وهذا يؤدي إلى تقليل المواليد المصابين بالأمراض الوراثية، وفي ذلك تحقيق لدفع الضرر قبل وقوعه الذي هو أسهل من رفعه بعد وقوعه.
ويتأكد إجراء هذا الفحص في الحالات التي تقوى فيها مظنة إصابة الذرية بمرض وراثي: كما في حالة انتشار أمراض وراثية معينة في المجتمع، أو عند وجود صلة قرابة بين الخطيبين من العائلات التي لها تاريخ وراثي لبعض الأمراض.
وقد، جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي ما يلي: " يوصي المجلس الحكومات والمؤسسات الإسلامية بنشر الوعي بأهمية الفحوص الطبية قبل الزواج والتشجيع على إجرائها، وتيسير تلك الفحوص للراغبين فيها، وجعلها سرية لا تفشى إلا لأصحابها المباشرين ".
ويمكن للدول توعية وتشجيع المجتمع على فحص المحتوى الوراثي قبل الزواج بما يلي:
1- نشر الوعي بأهمية فحص المحتوى الوراثي قبل الزواج عبر وسائل الإعلام، وعن طريق الندوات، والمحاضرات، والدعاية.
2- تشجيع أبناء المجتمع على فحص المحتوى الوراثي قبل الزواج بتوفيره مجاناً.
4- توعية الشباب في المرحلة الثانوية بأهمية فحص المحتوى الوراثي قبل الزواج لتكوين أسرة سليمة صحياً واجتماعياً، وحينئذ يتم إجراء هذا الفحص في المرحلة الثانوية أو بعدها أو قبلها بقليل، ويعطي الطالب شهادة طبية تبين حالته الصحية، ومن ثمّ يطالب بها مأذون النكاح أو القاضي عند عقد الزواج.
وبعد بيان المصالح المترتبة على فحص المحتوى الوراثي لمصلحة الإنجاب، وبيان أن إجراءه جائز من حيث الأصل ، نأتي إلى بيان حكم الإلزام بهذا الفحص سواء عن طريق سلطة ولي الأمر، أو باشتراط المرأة أو وليها ذلك على الخاطب :
أولاً: اختلف الفقهاء والباحثون المعاصرون في مدى جواز إجبار ولي الأمر (الحاكم أو السلطان) المقبلين على الزواج على فحص المحتوى الوراثي، فقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة 19-23/10/1424هـ الموافق 13-17/12/2003م بشأن موضوع: أمراض الدم الوراثية:
أولاً: إن عقـد النكـاح مـن العقود التي تولى الشارع الحكيم وضـع شروطهـا، ورتب عليها آثارها الشرعية، وفَتْحُ الباب للزيادة على ما جاء به الشرع - كالإلــزام بالفحوص الطبية قبل الزواج، وربط توثيق العقد بها - أمر غير جائز.اهـ
ومع احترامنا الشديد لقرار المجمع الفقهي إلا أن ما ذكر في القرار يمكن أن يناقش: بأن القول بجواز إلزام ولي الأمر بفحص المحتوى الوراثي لا يعني عدم صحة النكاح عند مخالفة أمره، بل النكاح صحيح لاستيفاء شروطه وأركانه، وإنما يجوز الإلزام نظرا للمصلحة الشرعية المترتبة على ذلك، ومن مهام ولي الأمر القيام على الرعية بما يصلح أمور دينهم ودنياهم، وقد يستدعي الأمر الإلزام بفحص المحتوى الوراثي في بعض الأحوال.
فالصحيح أنه يجوز لولي الأمر إجبار المقبلين على الزواج على فحص المحتوى الوراثي إذا كان هناك حاجة لهذا الفحص ؛ كانتشار أمراض وراثية معينة ، وهذا يعد من باب السياسة الشرعية، فالسياسة الشرعية تقتضي الإلزام بهذا الفحص إذا دعت الحاجة إليه.
وجواز هذا الإلزام تؤيده القواعد الفقهية التي تأمر بدفع الضرر، فقاعدة " الدفع أقوى من الرفع " تدل على أنه إذا أمكن دفع الضرر قبل وقوعه فهذا أولى وأسهل من رفعه بعد الوقوع، وقاعدة " لا ضرر ولا ضرار" و" الضرر يزال " و" الضرر يدفع بقدر الإمكان " تدل على منعِ كل ما يلحق الضرر بالناس ودفعه بما يمكن، وبفحص المحتوى الوراثي قبل الزواج يحصل دفع الضرر بإذن الله، ولو حصل بسبب إجراء الفحص ضرر فلا شك أنه أقل وأهون من الضرر المتحقق عند عدم الفحص وهو الإصابة بالمرض الذي لا علاج له، والمصالح المترتبة على الفحص أعظم من أي ضرر محتمل لإجرائه، فإجراء الفحص قبل الزواج لكلا الزوجين موافق لقواعد الشريعة.والمصالح المترتبة على فحص المحتوى الوراثي قبل الزواج وما يشتمل عليه من المحافظة على الصحة والحد من انتشار الأمراض أعظم من المفاسد المذكورة، ومن المقرر أن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، وأما عن التكاليف المادية، فإنه بالإمكان أن تتولى الدولة بنفسها قيمة تهيئة أماكن الفحص وتيسيرها لسائر الناس.
لكن لابد من ضبط هذا الفحص ببعض الضوابط: كالتزام السرية في الكشف وعدم إخبار غير صاحب العلاقة بنتائج الفحص، واتصاف القائمين على تلك الفحوص في المستشفيات بالعدالة والأمانة والخبرة؛ وذلك كي يحقق هذا الفحص المصالح المرجوة منه.
والذي يظهر لي - والله أعلم - أنه حتى في حالة الإلزام بإجراء فحص المحتوى الوراثي للمقبلين على الزواج، فإنه لا ينبغي الإلزام بنتيجة الفحص، بل يترك الخيار للخطيبين، فإما أن يقدما على هذا الزواج أو يتركانه، ولكنهما ينصحان في حال الرغبة في الإقدام على إتمام هذا الزواج أن يقوما - في حال الرغبة في الإنجاب - بعمل فحص المحتوى الوراثي على البويضة الملقحة؛ وذلك للتأكد من خلوها من المرض الوراثي قبل نقلها للرحم - كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى-.
ونأتي الآن لبيان مسألة أخرى وهي : حكم اشتراط فحص المحتوى الوراثي على الخاطب:ولبيان ذلك أقول : إن ولي المرأة مؤتمن على موليته يختار لها الكفء الصالح، فهو راعٍ ومسؤول عن رعيته، فليس له أن يزوجها بشخص معيب بغير رضاها، كما أن لها ولوليها اشتراطَ ما لا يخالف مقتضى العقد، ومن تلك الشروط اشتراط فحص المحتوى الوراثي قبل الزواج، وذلك للأدلة الآتية:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً " (رواه الترمذي) ، واشتراط فحص المحتوى الوراثي على الخاطب لا يتضمن أحد الأمرين، فلا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، بل فيه مصلحة ظاهرة للمرأة والرجل.
2- قوله صلى الله عليه وسلم: " إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج "(رواه البخاري ومسلم ) ، ويدخل في هذا اشتراط فحص المحتوى الوراثي على الخاطب؛ وذلك لأنه لا ينافي عقد النكاح، ويحقق مصلحة للمخطوبة.
3- أن الأب ومن في حكمه مسؤول عن موليته، وله اشتراط ما يضمن سلامتها وسعادتها، وقد قال صلى الله عليو وسلم: " ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم" (رواه البخاري ومسلم ).
5- أن اشتراط فحص المحتوى الوراثي على الخاطب يحقق مصالح كثيرة ظاهرة، ويندفع بسببه - بإذن الله- مفاسد كثيرة، فهو من مصلحة المرأة، ولا ينافي مقتضى العقد.
وقد جاء في فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دورته الرابعة عشرة بدبلن في المدة من 14-18/1/1426هـ الموافق 23-27/2/2005م: " لا مانع من اشتراط أحد الخاطبين على الآخر إجراء الفحص الجيني قبل الزواج ".
إلا أنه في حالة عدم وجود مظنة للإصابة بالمرض الوراثي فالأولى عدم الاشتراط وإحسان الظن بالله سبحانه وتعالى، وكذلك إحسان الظن بالناس ومشاعرهم؛ إذ الأصل السلامة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.