عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 17-02-2021, 11:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,816
الدولة : Egypt
افتراضي لا إيمان لمن لا أمانة له

لا إيمان لمن لا أمانة له


الشيخ د. : إبراهيم بن صالح العجلان




عناصر الخطبة
1/ فضائل الأمانة وعلو منزلة أصحابها 2/ ضياع الأمانة من علامات الفساد 3/ النزاهة والأمانة في تاريخ خير جيل 4/ رمز الأمانة ودرة النزاهة وأمين من في السماء 5/ بعض أخبار الخلفاء الراشدين والسلف الصالح مع الأمانة 6/ مفاسد تضييع الأمانة في المجتمع.


اقتباس

شأن الأمانة يا أهل الإيمان عظيم وكبير، فهي إن ضاعت حلت الخيانة، وإذا حلت الخيانة عشعش النفاق. إذا ضُيِّعت الأمانة خربت الديار، وفسدت الأمصار، وساد الخلاف وعمَّ التشاحن والتدابر. ضياع الأمانة سيئات تبقى آثامها في عنق كل خائن حتى بعد مماته، بحجم ضرره على الناس، ودعائهم عليه. فما أحوجنا أن نتذكر ونذكّر من شأن الأمانة، وأن نحاسب أنفسنا مليَّاً على التقصير فيها، وأن نربي أبناءنا وشبابنا على استشعار شأن الأمانة، فبها تصلح المجتمعات، وتحفظ الحقوق، ويرسى العدل، ويستقيم العيش، وبها يصلح أمر الدين…






الخطبة الأولى:


إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: مَا أَجْمَلَ الْحَدِيثَ حِينَمَا يَكُونُ عَنِ النَّزَاهَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَمَا أَرْوَعَ الْكَلِمَاتِ حِينَ تُدَبَّجُ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الِاخْتِلَاسِ وَالْخِيَانَةِ، وَلَكِنْ أَجْمَلُ مِنْ ذَلِكَ وَأَرْوَعُ أَنْ نَرَى الْأَمَانَةَ رِجَالًا، وَالنَّزَاهَةَ فِعَالًا.

نَرَاهَةً فِي شَخْصِيَّاتِ رِجَالٍ عَاشُوا فِي دُنْيَا النَّاسِ، رَأَوْا طَنِينَ الْمَالِ وَرَنِينَهُ، وَكَانَتْ لَهُمْ نُفُوسٌ كَغَيْرِهِمْ تُحِبُّ الْمَالَ، وَتَأْمُرُهُمْ بِالسُّوءِ، بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ كَانَتْ مَلْأَى بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، الَّتِي تُلْجِمُ صَاحِبَهَا عَنْ كُلِّ كَسْبٍ خَبِيثٍ.

كَانَتْ لَهُمْ أَخْلَاقٌ عَالِيَةٌ سَامِيَةٌ، تَرَفَّعُوا بَعْدَهَا أَنْ يُوصَفُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْخِيَانَةِ.

كَانَ بَيْنَ جَوَانِحِهِمْ خَوْفُ اللَّهِ وَمُرَاقَبَتُهُ، وَاسْتِشْعَارُ الْحِسَابِ يَوْمَ الْحِسَابِ عَلَى الْفَتِيلِ وَالْقِطْمِيرِ قَبْلَ الْكَثِيرِ وَالْكَبِيرِ.

إِنَّ الْحَدِيثَ عَنِ الْأَمَانَةِ لَيْسَ حَدِيثًا عَنِ الْأَخْلَاقِ وَحَسْبَ، وَلَا عَنْ ضَبْطِ أُمُورِ الدُّنْيَا، إِنَّ الْحَدِيثَ عَنِ الْأَمَانَةِ حَدِيثٌ عَنِ الْإِيمَانِ، فَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ قَالَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمِنْ عَلَامَاتِ الْفَسَادِ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ تُضَيَّعَ الْأَمَانَةُ، وَأَنْ يُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنَ الْأَمِينُ.

فَتَعَالَوْا نُقَلِّبْ صَفْحَةَ النَّزَاهَةِ وَالْأَمَانَةِ فِي تَارِيخِ خَيْرِ جِيلٍ، وَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَهَا، فَتَرَاجِمُ هَؤُلَاءِ مَوَاعِظُ صَامِتَةٌ، وَحَيَاتُهُمْ وَأَخْبَارُهُمْ مَثَلٌ وَسَلَفٌ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَحَسْبُ، بَلْ وَلِلْأَجْيَالِ وَالْبَشَرِيَّةِ جَمِيعًا.

– وَمَعَ رَمْزِ الْأَمَانَةِ، وَدُرَّةِ النَّزَاهَةِ، وَأَمِينِ مَنْ فِي السَّمَاءِ، مَعَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي تَحَلَّى بِالْأَمَانَةِ وَلَازَمَهَا فِي صِبَاهُ وَشَبَابِهِ، فَعَرَفَتْهُ مَكَّةُ، وَأَسْوَاقُهَا، وَجِبَالُهَا، وَسُهُولُهَا، فَعَرَفَتْ فِيهِ النَّزَاهَةَ وَالصِّدْقَ، حَتَّى لُقِّبَ بِالصَّادِقِ الْأَمِينِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْوَحْيُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

هَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَضَوَّرُ ذَاتَ لَيْلَةٍ عَلَى فِرَاشِهِ، قَدْ طَارَ النَّوْمُ عَنْ أَجْفَانِهِ مِنْ أَمْرٍ أَهَمَّهُ -وَالْمَهْمُومُ لَا يَنَامُ- فَيُسْأَلُ: مَا أَسَهَرَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ مَا أَسَهَرَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟

مَا الَّذِي جَعَلَ الْأَرَقَ يُلَازِمُكَ؟ فَلَمْ تَغْمَضْ لَكَ عَيْنٌ؟ مَا الْأَمْرُ؟ مَا الْخَبَرُ؟

إِنَّهَا تَمْرَةٌ، نَعَمْ تَمْرَةٌ وَجَدَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَحْتَ جَنْبِهِ فَأَكَلَهَا، فَتَذَكَّرَ أَنَّ عِنْدَهُ تَمْرًا مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ قَدْ أَوْدَعَهُ عِنْدَهُ، وَهِيَ لَا تَحِلُّ لَهُ، فَخَشِيَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ تَكُونَ تَمْرَةً مِنْ عَرَضِ هَذَا التَّمْرِ.

لَقَدْ خَافَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَكُونَ أَكَلَ شَيْئًا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَهُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ.

كَمْ هُوَ زَهِيدٌ أَمْرُ التَّمْرَةِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهَا فِي أَعْيُنِ الْأُمَنَاءِ الْعُظَمَاءِ لَيْسَتْ بِيَسِيرٍ.

إِنَّهَا تَمْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ أُكِلَتْ لَمْ تَضُرَّ أَحَدًا، فَكَيْفَ تَكُونُ حَالُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَوْ كَانَ هَذَا الشَّيْءُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَذًى لِلنَّاسِ، أَوْ أَكْلٌ لِحُقُوقِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ.

نَعَمْ لَقَدِ اسْتَعْظَمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمْرَ التَّمْرَةِ؛ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ قَضِيَّةُ أَمَانَةٍ، فَمَنْ هَوَّنَ شَأْنَ التَّمْرَةِ رَقَّ فِي قَلْبِهِ مَا هُوَ فِي مِثْلِهَا، أَوْ أَعْلَى مِنْهَا، وَهَكَذَا تَهُونُ الْأَمَانَةُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ حَتَّى يُطْبَعَ عَلَى الْخِيَانَةِ.

– وَمَعَ شَامَةٍ أُخْرَى فِي تَارِيخِ الْأُمَنَاءِ، مَعَ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الصِّدِّيقِ-.

كَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- صَاحِبَ تِجَارَةٍ قَبْلَ الْخِلَافَةِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ خَرَجَ كَعَادَتِهِ حَامِلًا عَلَى كَتِفَيْهِ لِفَافَةً كَبِيرَةً مِنَ الثِّيَابِ، وَفِي الطَّرِيقِ يَلْقَاهُ عُمَرُ، فَيَسْأَلُهُ: إِلَى أَيْنَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: إِلَى السُّوقِ، فَقَالَ عُمَرُ: إِلَى السُّوقِ وَقَدْ وَلِيتَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ!!

لَقَدْ فَقِهَ عُمَرُ أَنَّ الْإِمَارَةَ وَالتِّجَارَةَ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَنْ أَيْنَ أُطْعِمُ عِيَالِي؟ فَقَالَ عُمَرُ: انْطَلِقْ مَعَنَا لِنَفْرِضْ لَكَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَبَعْدَ مُشَاوَرَاتٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ اتَّفَقُوا أَنْ يُفْرَضَ لِلْخَلِيفَةِ بَعْضُ شَاةٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِينَارًا فِي الْعَامِ، فِي مُقَابِلِ تَفَرُّغِهِ لِأَمْرِ النَّاسِ.

وَلَمْ يَزَلِ الصِّدِّيقُ عَلَى هَذَا الْمُرَتَّبِ وَتِلْكَ النَّفَقَةِ، يَأْخُذُ مِنْهَا قَدْرَ حَاجَتِهِ بِلَا سَرَفٍ، فَأَنْفَقَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي مُدَّةِ خِلَافَتِهِ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ، فَخُذُوا مِنْ مَالِي ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَرُدُّوهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَلَمَّا مَاتَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، جَاءَ الرَّسُولُ إِلَى عُمَرَ بِهَذِهِ الْأَمْوَالِ، فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: “رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ! لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ“.

– وَمَعَ الْخَلِيفَةِ الثَّانِي الَّذِي كَانَ أُعْجُوبَةً فِي أَمَانَتِهِ وَدِيَانَتِهِ، مَعَ الْفَارُوقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، الَّذِي جَاءَتْهُ كُنُوزُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ صَاغِرَةً مُطَأْطِئَةً حَتَّى وُضِعَتْ تَحْتَ قَدَمِهِ.

فُتِحَتِ الْمَدَائِنُ عَاصِمَةُ الْفُرْسِ وَجُمِعَتْ غَنَائِمُهَا، فَإِذَا هِيَ تَزِيدُ عَلَى الثَّمَانِينَ مِلْيُونًا، وَهَذِهِ مِنَ الْمَدَائِنِ فَقَطْ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ الْكُنُوزُ وَالْمُجَوْهَرَاتُ الْمُرَصَّعَةُ بِالذَّهَبِ فِي رَوَاحِلَ كَثِيرَةٍ، فَلَمَّا وَصَلَتِ الْمَدِينَةَ، وَرَآهَا عُمَرُ، وَقَفَ مُتَعَجِّبًا مِنْهَا، وَمُعْجَبًا بِأَمَانَةِ مَنْ جَاءُوا بِهَا، فَقَالَ: “إِنَّ قَوْمًا أَدَّوْا هَذَا لَأُمَنَاءُ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: “عَفَفْتَ فَعَفَّتْ رَعِيَّتُكَ، وَلَوْ رَتَعْتَ لَرَتَعَتْ“.

لَقَدْ كَانَ الْفَارُوقُ حَرِيصًا عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِينَ أَشَدَّ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَشْعَرَ أَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ، فَكَانَ كَثِيرًا مَا يُرَاقِبُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ، وَيَنْظُرُ فِيهَا، بَلْ رُبَّمَا نَدَّ بَعْضُ الْإِبِلِ، فَتَرَى عُمَرَ يَرْكُضُ خَلْفَهَا لِيُرْجِعَهَا إِلَى مَعَاطِنِهَا حَتَّى لَا تَضِيعَ.

عَيَّنَ عُمَرُ رَجُلًا اسْمُهُ مُعَيْقِيبٌ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَنَسَ بَيْتَ الْمَالِ يَوْمًا فَوَجَدَ فِيهِ دِرْهَمًا، فَدَفَعَهُ إِلَى ابْنٍ لِعُمَرَ، قَالَ مُعَيْقِيبٌ: فَانْصَرَفْتُ إِلَى بَيْتِي، فَإِذَا رَسُولُ عُمَرَ يَدْعُونِي، فَجِئْتُ، فَإِذَا الدِّرْهَمُ فِي يَدِ عُمَرَ، فَقَالَ: “وَيْحَكَ يَا مُعَيْقِيبُ! أَرَدْتَ أَنَّ تُخَاصِمَنِي أُمَّةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هَذَا الدِّرْهَمِ“.

نَعَمْ رَدَّ عُمَرُ الْفَارُوقُ الدِّرْهَمَ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا مِنْ أَمَانَتِهِ وَخَوْفِ مُحَاسَبَتِهِ عَلَى مَالٍ لَا يَحِلُّ، رَدَّهُ وَأَغْلَقَ بَابَ كَلِّ تَأْوِيلٍ فِي وَقْتٍ كَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ يَسْأَلُهُ الْمَالَ لِتَشْتَرِيَ الْحَلْوَى، فَيَعْتَذِرُ مِنْهَا، لَيْسَ بُخْلًا، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ قِيمَتَهَا.

جَاعَ الْخَلِيفَةُ وَالدُّنْيَا بِقَبْضَتِهِ *** فِي الزُّهْدِ مَنْزِلَةٌ سُبْحَانَ مُولِيهَا!

لَمَّا اشْتَهَتْ زَوْجُهُ الْحَلْوَى فَقَالَ لَهَا *** مِنْ أَيْنَ لِي ثَمَنُ الْحَلْوَى فَأَشْرِيهَا؟

حَسْبِي وَحَسْبُ الْقَوَافِي حِينَ أَرْوِيهَا *** أَنِّي إِلَى سَاحَةِ الْفَارُوقِ أُهْدِيهَا

وَحِينَ طُعِنَ عُمَرُ، وَأَحَسَّ بِالْأَجَلِ، نَادَى ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ وَقَالَ لَهُ: “انْظُرْ مَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ، فَحَسَبُوهُ فَوَجَدُوهُ سِتَّةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا أَوْ نَحْوَهُ، قَالَ: فَأَدِّ عَنِّي هَذَا الْمَالَ“.

– وَمَعَ رَجُلٍ أَدْهَشَ أَهْلَ التَّارِيخِ فِي أَمَانَتِهِ وَنَزَاهَتِهِ، مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَّذِي بَدَأَ خِلَافَتَهُ بِتَطْبِيقِ مَبْدَأِ الْأَمَانَةِ، فَنَظَرَ إِلَى ثَرْوَتِهِ، فَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ ثَرَاءٌ حَصَّلَهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَبَاعَ مَا يَمْلِكُ، وَرَدَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ غَدَا عَلَى زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ابْنَةِ الْخَلِيفَةِ وَزَوْجَةِ الْخَلِيفَةِ وَأُخْتِ الْخَلِيفَةِ وَالَّتِي قَالَ فِيهَا الشَّاعِرُ:
بِنْتُ الْخَلِيفَةِ وَالْخَلِيفَةُ جَدُّهَا *** أُخْتُ الْخَلَائِفِ وَالْخَلِيفَةُ زَوْجُهَا

غَدَا إِلَيْهَا فَخَيَّرَهَا بَيْنَ ثَرَائِهَا وَحُلِيِّهَا، وَبَيْنَ أَنْ تَبْقَى مَعَهُ، فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا، وَتَخَلَّتْ عَنْ كُلِّ حُلِيِّهَا وَأَمْوَالِهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى بَنِي عُمُومَتِهِ مِنْ أُمَرَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ فَوَعَظَهُمْ، وَذَكَّرَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الْأَمْوَالَ إِلَى خَزَائِنِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ قَطَعَ عَنْهُمْ كُلَّ صِلَاتٍ كَانُوا يَأْخُذُونَهَا، وَهَدَايَا كَانُوا يَسْتَلِمُونَهَا.

نَعَمْ، لَقَدِ اسْتَشْعَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِظَمَ شَأْنِ الْأَمَانَةِ، فَخَافَ، فَعَفَّ، فَعَدَلَ.

وَقَفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا يُقَسِّمُ تُفَّاحَ الْفَيْءِ، فَتَنَاوَلَ ابْنٌ لَهُ صَغِيرٌ تُفَّاحَةً، فَانْتَزَعَهَا مِنْ فِيهِ فَأَوْجَعَهُ، فَسَعَى إِلَى أُمِّهِ مُسْتَعْبِرًا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى السُّوقِ فَاشْتَرَتْ لَهُ تُفَّاحًا، فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ وَجَدَ رِيحَ التُّفَّاحِ فَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ! هَلْ أَتَيْتِ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْفَيْءِ؟ قَالَتْ: لَا، وَقَصَّتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ: “وَاللَّهِ لَقَدِ انْتَزَعْتُهَا مِنَ ابْنِي، وَكَأَنَّمَا نَزْعَتُهَا عَنْ قَلْبِي، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أَنْ أُضَيِّعَ نَصِيبِي مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بِتُفَّاحَةٍ مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ“.

وَأَسَّسَ عُمَرُ مَبْدَأً: أَنَّ أَمْلَاكَ الدَّوْلَةِ لَا تُسْتَخْدَمُ فِي الْمَصَالِحِ الشَّخْصِيَّةِ، كَتَبَ إِلَى عَامِلٍ لَهُ يَشْتَرِي لَهُ عَسَلًا، وَأَمَرَهُ أَلَّا يَرْكَبَ دَابَّةً وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ سَيَشْتَرِي شَيْئًا خَاصًّا لَهُ، فَمَا كَانَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ رَكِبَ دَابَّةً مِنْ دَوَابِّ الْبَرِيدِ، فَلَمَّا أَتَى قَالَ: عَلَى أَيِّ دَابَّةٍ رَكِبَ؟ فَقَالُوا: عَلَى الْبَرِيدِ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الْعَسَلِ فَبِيعَ، وَجَعَلَ ثَمَنَهُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ: أَفْسَدْتَ عَلَيْنَا عَسَلَنَا!

أَتَتْ إِلَى عُمَرَ امْرَأَةٌ مِنَ الْعِرَاقِ؛ تَشْكُو ضَعْفَهَا، وَكَثْرَةَ بَنَاتِهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ دَارَهُ قَلَّبَتْ طَرْفَهَا فِيهِ، فَإِذَا هِيَ تَرَى دَارًا وَضِيعَةً، وَهَيْئَةً مُتَوَاضِعَةً، فَجَعَلَتْ تَتَعَجَّبُ مِمَّا تَرَى.

فَقَالَتْ لَهَا فَاطِمَةُ زَوْجَةُ عُمَرَ: مَا لَكِ؟ قَالَتْ: لَا أَرَانِي إِلَّا جِئْتُ لِأُعَمِّرَ بَيْتِي مِنْ هَذَا الْبَيْتِ الْخَرَابِ، فَقَالَتْ لَهَا فَاطِمَةُ: “إِنَّمَا خَرَّبَ هَذَا الْبَيْتَ عِمَارَةُ بُيُوتِ أَمْثَالِكِ”.

نَعَمْ لَقَدْ حَفِظَ عُمَرُ أَمْرَ الْأَمَانَةِ فِي أَشْهُرٍ مَعْدُودَاتٍ، حَتَّى عَمَّتِ الْبَرَكَةُ، وَفَاضَ الْمَالُ، وَاسْتَغْنَى النَّاسُ، فَكَانَ عُمَّالُ الْخَلِيفَةِ يَسِيحُونَ فِي الْأَمْصَارِ: أَيْنَ الْغَارِمُونَ؟ أَيْنَ النَّاكِحُونَ؟ أَيْنَ الْمَسَاكِينُ؟ أَيْنَ الْيَتَامَى؟ حَتَّى أَغْنَى كُلَّ هَؤُلَاءِ، بَلْ بَلَغَ أَنَّ عُمَّالَهُ كَانُوا يَحْمِلُونَ الزَّكَاةَ فَلَا يَجِدُونَ مَنْ يَأْخُذُهَا، وَفِي تِلْكَ السَّنَةِ دُفِعَتْ زَكَاةُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ.

تِلْكَ -عِبَادَ اللَّهِ- طُرَفٌ يَسِيرَةٌ مِنْ مَوَاقِفَ كَثِيرَةٍ مَعَ الْأَمَانَةِ، وَاسْتِشْعَارُ السَّلَفِ لَهَا، لَا يَسَعُ النَّفْسَ بَعْدَهَا إِلَّا أَنْ تَقِفَ خَاشِعَةً، مُتَرَضِّيَةً عَنْهُمْ، رَاجِيَةً مِنْ رَبِّهَا الْكَرِيمِ أَنْ تَلْقَاهُمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، فَالْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.


بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ…

الخطبة الثانية:


أَمَّا بَعْدُ: فَهَذِهِ بَعْضُ أَخْبَارِ سَلَفِنَا مَعَ الْأَمَانَةِ، فَمَا خَبَرُنَا نَحْنُ مَعَ هَذِهِ الْأَمَانَةِ الَّتِي عَجَزَتْ عَنْ حَمْلِهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.

مَا خَبَرُنَا نَحْنُ مَعَ حُقُوقِ النَّاسِ؟! وَالَّتِي تَسَاهَلَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي.

مَا خَبَرُنَا مَعَ وَظَائِفِنَا الَّتِي نَكْتَسِبُ مِنْهَا مَالًا، وَهَلْ أَدَّيْنَاهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ؟!

مَا عَرَفَ حَقَّ الْأَمَانَةِ كُلُّ مُوَظَّفٍ مُسْتَهْتِرٍ بِأَمْرِ الْمُرَاجِعِينَ، أَخَّرَ مُعَامَلَاتِهِمْ، وَتَشَاغَلَ عَنْهَا بِكَلَامٍ، أَوْ طَعَامٍ، أَوِ اسْتِئْذَانٍ.

مَا أَدَّى الْأَمَانَةَ ذَلِكَ التَّاجِرُ الَّذِي جَعَلَ الْأَيْمَانَ الْكَاذِبَةَ وَسِيلَتَهُ فِي التَّرْوِيجِ لِسِلْعَتِهِ، أَوِ اسْتَخْدَمَ الْغِشَّ التِّجَارِيَّ فِي تَزْيِينِ بِضَاعَتِهِ.

مَا عَرَفَ الْأَمَانَةَ ذَلِكَ الْمَسْئُولُ الَّذِي جَعَلَ مِنْ مَنْصِبِهِ قَنْطَرَةً لَهُ نَحْوَ الثَّرَاءِ، وَكَأَنَّ مَا تَحْتَ يَدِهِ هُوَ مِلْكٌ لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَكَأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ لَيْسَ بِمُؤْتَمَنٍ، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ” “رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ”.

حَرَامٌ وَسُحْتٌ وَآثَامٌ أَنْ يَأْخُذَ أَيُّ مَسْئُولٍ مُكَافَأَةً عَلَى عَمَلِهِ، أَوْ يَتَّفِقَ مَعَ جِهَةٍ أُخْرَى فِي تَرْسِيَةِ مَشْرُوعٍ حُكُومِيٍّ مُقَابِلَ عُمُولَةٍ تُدْفَعُ لَهُ، رَجُلٌ مِنَ الْأَزْدِ اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الصَّدَقَةِ فَجَاءَ فَقَالَ: “هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي“. فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: “مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَجِيءُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ أَوْ أَبِيهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا، لَا يَأْتِي أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا فَلَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً فَلَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ“، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبِطَيْهِ ثُمَّ قَالَ: “اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ“.

فَشَأْنُ الْأَمَانَةِ -يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ- عَظِيمٌ وَكَبِيرٌ، فَهِيَ إِنْ ضَاعَتْ حَلَّتِ الْخِيَانَةُ، وَإِذَا حَلَّتِ الْخِيَانَةُ عَشَّشَ النِّفَاقُ.

إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ خَرِبَتِ الدِّيَارُ، وَفَسَدَتِ الْأَمْصَارُ، وَسَادَ الْخِلَافُ وَعَمَّ التَّشَاحُنُ وَالتَّدَابُرُ.

ضَيَاعُ الْأَمَانَةِ سَيِّئَاتٌ تَبْقَى آثَامُهَا فِي عُنُقِ كُلِّ خَائِنٍ حَتَّى بَعْدَ مَمَاتِهِ، بِحَجْمِ ضَرَرِهِ عَلَى النَّاسِ، وَدُعَائِهِمْ عَلَيْهِ.

فَمَا أَحْوَجَنَا أَنْ نَتَذَكَّرَ وَنَذْكُرَ مِنْ شَأْنِ الْأَمَانَةِ، وَأَنْ نُحَاسِبَ أَنْفُسَنَا مَلِيًّا عَلَى التَّقْصِيرِ فِيهَا، وَأَنْ نُرَبِّيَ أَبْنَاءَنَا وَشَبَابَنَا عَلَى اسْتِشْعَارِ شَأْنِ الْأَمَانَةِ، فَبِهَا تَصْلُحُ الْمُجْتَمَعَاتُ، وَتُحْفَظُ الْحُقُوقُ، وَيُرْسَى الْعَدْلُ، وَيَسْتَقِيمُ الْعَيْشُ، وَبِهَا يَصْلُحُ أَمْرُ الدِّينِ، وَمِنْ أَبْرَزِ صِفَاتِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [الْمَعَارِجِ: 32].


اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْأَمَانَةِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النِّفَاقِ وَالْخِيَانَةِ.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ…




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.33 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 35.70 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.73%)]