الخطوبة ضوابط شرعية وآداب مرعية
د. عطية بن عبدالله الباحوث
الخطوبة سوف نتحدث عنها في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الخطوبة ومعناها وما يقدم فيها:
تعريف الخِطبة: (الخطبة: بالكسر طلبُ المرأة للزواج)[1]، وهي مقدمة للنكاح، ولذا يراعى في المقدمة حسن الطالع لأن البداية هي كاشفة لما بعدها، والشرع جعل هذه المقدمة لتكون البنود الأساسية وصياغة العقد بالصورة الصحيحة خاصة إن كان هناك شروط من طرفي العقد، وفيها تمهيد وتنبيه للطرفين أن التعامل يجب أن يكون على أعلى مستوى من الأدب والفضل والاحترام، ولذا فضلت أن أضع مع هذا التعريف مسألة وهي ما يقدم فيها من أموال وهدايا قبل العقد في فترة الخطبة وهذا له أوجه وأحوال:
1- أن تكون هذه الهدايا ضمن المهر فهي تعود للخاطب عند فسخ الخطوبة لأن المهر لا يستحق إلا بالعقد.
2- أن تكون الهدايا ليست من المهر فإن حدث الفسخ ففيه خلاف:
أ- (ذهب الحنفية والمالكية في القول الآخر، والشافعية، إلى أن للخاطب أن يسترد هديته، إذا كانت باقية بعينها، سواء كان الفسخ من جهة الخاطب أو من جهة المخطوبة، واختلفوا فيما إذا هلكت أو تلفت) [2].
ب- وعند الحنابلة قال البهوتي: (وَهَدِيَّةُ زَوْجٍ لَيْسَتْ مِنْ الْمَهْرِ فَمَا قَبْلَ عَقْدٍ إنْ وَعَدُوهُ وَلَمْ يَفُوا رَجَعَ بِهَا) [3].
♦ قال شيخ الإسلام رحمه الله: " وقد كتبت عن الإمام أحمد فيما إذا أهدى لها هدية بعد العقد، فإنها ترد ذلك إليه إذا زال العقد الفاسد؛ فهذا يقتضي أن ما وهبه لها، سببه النكاح؛ فإنه يبطل إذا زال النكاح، وهو خلاف ما ذكره أبو محمد وغيره. وهذا المنصوص جار على أصول المذهب الموافقة لأصول الشريعة، وهو أن كل من أهدي، أو وهب له شيء بسبب: يثبت بثبوته ويزول بزواله... ولو كانت الهدية قبل العقد، وقد وعدوه بالنكاح، فزوجوا غيره: رجع بها. والنقد المقدم محسوب من الصداق، وإن لم يكتب في الصداق، إذا تواطئوا عليه، ويطالب بنصفه عند الفرقة قبل الدخول؛ لأنه كالشرط المقدم، إلا أن يُفتَوا بخلاف ذلك " انتهى من)) [4].
♦ إذن مسألة ما يقدم من أموال على صورة هدايا من قبل الزوج يراعى فيه المقصد والدافع وراء تقديم تلك الهدايا وهو تحقق القبول ولذا عند عدم تحقق المقصد فالرجوع جائز ويكون هذا مستثنى من حديث ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ فَإِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ )[5]، فإن الهبة يريد بها الخاطب عوضًا وليست هبة محضة، ولكن إن كان الفسخ من قبله فيقوى القول أنه لا يرجع بما أعطى ولو من باب المرؤة فيترك ما أعطى مقابل حسن الاستقبال والضيافة والكلفة في ذلك، وقد أقحمت هذه المسألة لما لها من آثار ربما سلبية فيما بعد على سمعة الطرفين.
المبحث الثاني: رؤية للمخطوبة:
الرؤية للمخطوبة نتطرق إليها في فصلين:
الفصل الأول: مشروعيتها:
♦ الأصل تحريم رؤية الأجنبية قال تعالى: ﴿ قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ [6]، فحرم النظر تحريم وسائل وما حرم تحريم وسائل أبيح عند الحاجة، والخاطب بحاجة إلى رؤية المخطوبة بما يرغبه فيها وقد (اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ عَلَى إِبَاحَةِ النَّظَرِ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى مَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَحَقُّقِهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ خِلاَفٌ فِي تَحْدِيدِ الْحَاجَاتِ الْمُبِيحَةِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يَحِل النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَشُرُوطِ الإْبَاحَةِ)[7] ودل على المشروعية حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: (أنه خطبَ امرأةً فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ انظرْ إليها فإِنَّه أحرى أنْ يؤْدَمَ بينكُما)[8]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ: إنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ، فَقالَ له النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: هلْ نَظَرْتَ إلَيْهَا؟ فإنَّ في عُيُونِ الأنْصَارِ شيئًا قالَ: قدْ نَظَرْتُ إلَيْهَا) [9]، وحديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطبَ أحدُكمُ المرأةَ فإنِ استطاعَ أن يَنظرَ إلى ما يدعوهُ إلى نكاحِها فليفعلْ) [10] ": قال جابر: (فخطبت جارية من بني سلمة فكنت أختبئ لها تحت الكَرَب حتى رأيت منها بعض ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها " وقد حكي الإجماع على الإباحة قال ابن قدامة: (لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي إبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى الْمَرْأَةِ لِمَنْ أَرَادَ نِكَاحَهَا )[11]، وهذه المشروعية معللة قال ابن الأثير في معنى (أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا) أَيْ تكونَ بَيْنَكُمَا المحبَّة والاتْفَاقُ. يُقَالُ أَدَمَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا يَأْدِمُ أَدْمًا بالسُّكونِ: أى ألّف ووفّق) [12]، وفي حديث جابر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فعلى هذا يمكن كخلاصة في هذا المبحث أن يقال: (النظر إلى الأجنبية لا يجوز لما قد يؤدي من محاذير ارتكاب الكبائر فيحرم تحريم وسائل والقصد منه منع الوقوع في الفاحشة أو الاقتراب منها، لكن إن تغير القصد واصبح وسيلة لوقوع الحلال وهو النكاح أبيح بقدر الحاجة وفي تقدير هذه الحاجة أقوال للفقهاء ولكن يمكن تحديدها بحديث جابر (يَنظرَ إلى ما يدعوهُ إلى نكاحِها فليفعلْ) فالقضية متعلقة بالناظر فإذا رأى ما يدعوه إلى نكاحها أو عدم الرغبة فيها لم يجز له بعد ذلك النظر فالحاجة تقدر بقدرها، وهذا النظرة لها ضوابط سوف أذكرها في المبحث الثالث).
الفصل الثاني: ما تبديه المخطوبة:
ما يحل للمخطوبة ابداءه للخاطب أورد هنا أقول الفقهاء في هذه المسألة:
1- الوجه هذا محل اتفاق قال ابن قدامة (وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَهُوَ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ)[13]، وهي رواية في المذهب أنه لا يرى إلا الوجه قال المرداوي: (قَوْلُهُ (النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا). يَعْنِي فَقَطْ مِنْ غَيْرِ خَلْوَةٍ بِهَا.. هَذَا إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ) [14].
2- (اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا يُبَاحُ لِلْخَاطِبِ نَظَرُهُ مِنْ مَخْطُوبَتِهِ الْحُرَّةِ هُوَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ ظَاهِرُهُمَا وَبَاطِنُهُمَا إِلَى كُوعَيْهِمَا لِدَلاَلَةِ الْوَجْهِ عَلَى الْجَمَال، وَدَلاَلَةِ الْكَفَّيْنِ عَلَى خِصْبِ الْبَدَنِ، وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْقَدَمَيْنِ لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ حَتَّى فِي غَيْرِ الْخِطْبَةِ) [15] وعند الحنابلة: (وَعَنْهُ: لَهُ النَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَقَطْ) [16].
3- (الوجه والكفين والقدمين وهذا عند الأحناف) [17].
4- (قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَعَنْ أَحْمَد ثَلَاث رِوَايَات إِحْدَاهُنَّ يَنْظُر إِلَى وَجْههَا وَيَدَيْهَا وَالثَّانِيَة يَنْظُر مَا يَظْهَر غَالِبًا كَالرَّقَبَةِ وَالسَّاقَيْنِ وَنَحْوهمَا) [18].
5- (وَقَالَ دَاوُدُ يَنْظُرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا) [19] وهي رواية عن الإمام أحمد: قال ابن القيم (وَالثَّالِثَة يَنْظُر إِلَيْهَا كُلّهَا عَوْرَة وَغَيْرهَا فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَنْظُر إِلَيْهَا مُتَجَرِّدَة) [20]، قال النووي معلقًا على هذا القول: (وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ مُنَابِذٌ لِأُصُولِ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ) [21].
♦ من خلال ما سبق نجد أن الفقهاء يختلفون في مكان النظر بناء على أمرين حدود عورة النظر والمحافظة على الستر من الأجنبي، ولذا يقال ما لا يظهر غالبًا لا يجوز إظهاره للخاطب، فما يظهر غالبًا للمحارم كالوجه والكفين والقدمين والرقبة والرأس فلا بأس والاقتصار على الوجه والكفين أفضل فالخاطب في الحكم يقع بين الأجنبي والمحرم فنأخذ جانب الاحتياط، ولكن ننبه على المسألة وضع الزينة على الوجه ومن ذلك المكياج ففيه خلاف:
القول الأول عدم الجواز للأدلة:
أ- قال تعالى: ﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ﴾ [22] والمكياج والكحل من الزينة.
ب- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود، قَالَ: " الزِّينَةُ زِينَتَانِ: زِينَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَزِينَةٌ بَاطِنَةٌ لَا يَرَاهَا إِلَّا الزَّوْجُ، وَأَمَّا الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ: فَالثِّيَابُ، وَأَمَّا الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ: فَالْكُحْلُ، وَالسِّوَارُ، وَالْخَاتَمُ "[23]
ج- فتوى اللجنة الدائمة: (استعمال الكحل مشروع، لكن لا يجوز للمرأة أن تبدي شيئا من زينتها، سواء الكحل أو غيره لغير زوجها ومحارمها، لقوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ... " انتهى. )[24].
القول الثاني: الجواز فعند الأحناف: (وَتَحْلِيَةُ الْبَنَاتِ بِالْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ لِيُرَغِّبَ فِيهِنَّ الرِّجَالَ سُنَّةٌ )[25] وقال المالكية عن المرأة الخالية من الأزواج (قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَلَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ لِلنَّاظِرِينَ، بَلْ لَوْ قِيلَ: بِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ مَا كَانَ بَعِيدًا وَلَوْ قِيلَ: إنَّهُ يَجُوزُ لَهَا التَّعَرُّضُ لِمَنْ يَخْطُبُهَا إذَا سَلِمَتْ نِيَّتُهَا فِي قَصْدِ النِّكَاحِ لَمْ يَبْعُدْ انْتَهَى) [26]
♦ والقول الراجح والذي يعطي لكلا القولين نصيبه من النظر أن يقال الأصل من مقصد الرؤية النظر إليها بوضعها الطبيعي قال النووي في شرح مسلم: (ثُمَّ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ هَذَا النَّظَرِ رِضَاهَا بَلْ لَهُ ذَلِكَ فِي غَفْلَتِهَا وَمِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ إِعْلَامٍ لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ أَكْرَهُ نَظَرَهُ فِي غَفْلَتِهَا مَخَافَةً مِنْ وُقُوعِ نَظَرِهِ عَلَى عَوْرَةٍ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ أَنَّهُ لَا ينظر اليها إلا بإذنها وهذا ضعيف لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَشْتَرِطِ اسْتِئْذَانَهَا ولأنها تستحي غَالِبًا مِنَ الْإِذْنِ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَغْرِيرًا فربما رآها فَلَمْ تُعْجِبْهُ فَيَتْرُكَهَا فَتَنْكَسِرَ وَتَتَأَذَّى وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ إِلَيْهَا قَبْلَ الْخِطْبَةِ حَتَّى إِنْ كَرِهَهَا تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا تَرَكَهَا بَعْدَ الْخِطْبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ) [27]، وهذا الكلام يدل أن التزين غير مرغوب فيه والأولى تركه.
أما إن كان التزين خاصة بالمكياج وأدوات الزينة التي تغير من شكل المرأة بحيث يحدث التدليس والغش فلا شك أن مثل هذه الزينة غير جائزة، وعليه فالتزين بما لا يدخل في التدليس لا بأس وتركه أولى.
♦ وهنا نضيف مسألة لتكتمل الفائدة: وهي جواز نظر المخطوبة للخاطب: عند المالكية قال الحطاب: (هَلْ يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ نَظَرُ الرَّجُلِ]لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالظَّاهِرُ اسْتِحْبَابُهُ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيَّةِ قَالُوا يُسْتَحَبُّ لَهَا أَيْضًا أَنْ تَنْظُرَ إلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ) [28]، وقال ابنى عابدين: (وَهَلْ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ لِلْخَاطِبِ مَعَ خَوْفِ الشَّهْوَةِ لَمْ أَرَهُ وَالظَّاهِرُ: نَعَمْ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، بَلْ هِيَ أَوْلَى مِنْهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ مُفَارَقَةُ مَنْ لَا يَرْضَاهَا) [29]، ومن هنا نعلم جواز مثل هذا لأنها تريد من الرجل ما يرغبها فيه أو تترك.
المبحث الثالث: أحكام وآداب متعلقة أثناء الرؤية:
هناك عدة ضوابط أثناء رؤية الخاطب يجب الالتزام بها وأيضًا مسائل متعلقة بها ولتسهيل تناولها أضعها في النقاط التالية:
1- (الخطبة على خطبة أخيه):
إذا خُطبت المرأة وعلم بذلك الخاطب الثاني وقد أجيب الأول حرم على الثاني أن يتقدم للخطبة إلا أن يدع الأول أو يأذن له وعلى هذا جمهور الفقهاء[30] لحديث ابن عمر: (نَهَى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ علَى بَيْعِ بَعْضٍ، ولا يَخْطُبَ الرَّجُلُ علَى خِطْبَةِ أخِيهِ، حتَّى يَتْرُكَ الخاطِبُ قَبْلَهُ أوْ يَأْذَنَ له الخاطِبُ) [31] وقد (وَحَكَى النَّوَوِيُّ الإْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ لِلتَّحْرِيمِ) [32]، وهذا المنع من باب توطيد المحبة بين المسلمين وقطع شر التنازع فيما بينهم، وفيه سلوك طريق المرؤة والحشمة وحفظ أعراض الناس من التعدي عليها.
2- (الخلوة بالمخطوبة):
♦ المخطوبة أجنبية من الخاطب ومن الأمور المقررة في الشريعة تحريم الزنا، وتحريم دواعيه، ومن ذلك تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية، ونُقل الإجماع على ذلك.. قال النووي: (وأما إذا خلا الأجنبي بالأجنبية من غير ثالث معهما، فحرام باتفاق العلماء") وقال ابن حجر: (منع الخلوة بالأجنبية، وهو إجماع) [33]. واستند هذا الإجماع على أدلة منها:
أ- حديث ابن عباس: (لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بامْرَأَةٍ، ولا تُسافِرَنَّ امْرَأَةٌ إلَّا ومعها مَحْرَمٌ)[34] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فأما مؤاخاة الرجال النساء الأجانب، وخلوهم بهن، ونظرهم إلى الزينة الباطنة منهن: فهذا حرام باتفاق المسلمين)[35].
ب- حديث جابر: (من كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلا يَخْلُوَنَّ بامرأةٍ ليس معها ذُو مَحْرَمٍ منها فإن ثالثَهما الشيطانُ) [36].
♦ من هنا يجب على الخاطب أن يبدأ في حياته الأسرية بتقوى الله ودخول الأمر من بابه الذي شرعه الله فلا يخلو ولا تخرج مع خاطب امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر بأغراض فاسدة كالتعرف على الطبع ونحوه، وهذا بداية رسم حياة أسرية صحيحة ألا يرتكب في الخطبة ما حرم الله، ثم أن الخلوة قد يحدث فيها ما لا يحمد عقباه من أصحاب النفوس الضعيفة الذين ليس لهم إلا انتهاك الأعراض فحري بأصحاب الولاية أن يحرصوا كل الحرص أن لا يخلو أحد بموليته فهي أمانة في عنقه ويلزم أن يحمل مسألة زواجها محمل الشرع.
3- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لِمَشْرُوعِيَّةِ النَّظَرِ أَنْ يَكُونَ النَّاظِرُ إِلَى الْمَرْأَةِ مُرِيدًا نِكَاحَهَا، وَأَنْ يَرْجُوَ الإْجَابَةَ رَجَاءً ظَاهِرًا، أَوْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُجَابُ إِلَى نِكَاحِهَا، أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الإجَابَةُ. وَاكْتَفَى الْحَنَفِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ إِرَادَةِ نِكَاحِهَا فَقَطْ) [37].
فلا يجوز للخاطب النظر للمخطوبة إلا وقد غلب على ظنه موافقتهم عليه، ولا يجوز للمخطوبة أن تخرج لينظر إليها إذا لم يكن لها رغبة أصلًا في الخطبة، لأن مسألة النظر هذه مرتبطة بقضية غلبة الظن حدوث مقصدها وهو النكاح فإذا لم يكن هناك عزم من كلا الطرفين أو أحدهما لم يكن لهذا النظر مشروعية.
4- لا يجوز النظر نظرة تلذذ وشهوة أثناء النظر إلى المخطوبة قال الإمام أحمد – رحمه الله – في رواية صالح: ((ينظر إلى الوجه ولا يكون عن طريق اللذة)[38]، وعند المالكية: قالوا: (مَنْ أُبِيحَ لَهُ النَّظَرُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ قَصْدُ اللَّذَّةِ) [39]. فالنظر قصد منه تلبية حاجة النفس لقبول هذه المخطوبة وما تجاوز هذا القصد فلا يجوز لأن هذه المخطوبة ليست موضع شهوة مباحة له فيلزمه أن يكتفي بما أبيح له، ولذا النظرة التي تبدأ تحرك الغرائز والشهوة قد تجاوزت الحد المطلوب فعلى الخاطب أن يكفها فقدر الحاجة قد تجاوز، وهذه صيانة داخلية للقلب يعالجها إيمان الشخص وتقواه، ولذا اشترط الحنابلة لإباحة النظر أمن الفتنة وخالفهم في ذلك المذاهب الثلاثة، ولعل أن يقال الشيء الذي لا يستطيع الإنسان دفعه كمن نظر فثارت شهوته دون رغبة منه وعزم فلا بأس ٌلمطلق أحاديث النظر دون شرط، ويقطعها حتى لا يدخل في الحرام بصرف النظر ولذا قال الحنابلة (وَيُكَرِّرُهُ) أَيْ النَّظَرَ (وَيَتَأَمَّلُ الْمَحَاسِنَ وَلَوْ بِلَا إذْنٍ إنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ مِنْ الْمَرْأَةِ)[40].
يتبع