
01-03-2021, 09:31 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,188
الدولة :
|
|
رد: المخلوق العجيب
وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، صنع الإنكليز باخرة عظيمة كانت - كما يقولون- فخر صناعاتهم، ثم انطلقت في رحلة ترفيهية، على متنها علية القوم ونخبة المجتمع - كما يصفون أنفسهم- وقد بلغ الفخر والاعتزاز ببناة السفينة درجة كبيرة من الكبر والغرور، فسموها [الباخرة التي لا تقهر] المسماة «تايتنك « بل سُمع أحد أفراد طاقمها يتشدق فخراً أمام بعض كبار ركابها بما ترجمته: [حتى الله نفسه لا يستطيع أن يغرق هذا المركب] جل الله وتعالى وتقدس أن يعجزه شيء في السماوات أو في الأرض، وفي اليوم الثالث من سيرها في المحيط الأطلسي، وفي خضم كبرياء صناعها وركابها، شاء الله تعالى أن تصطدم بجبل جليدي عائم، فيفتح فيها فجوة بطول [90] مترا، وبعد ساعتين وربع تستقر الباخرة - التي زعموا أنها لا تقهر- تستقر في قعر المحيط، ومعها [1504 ركاب] ألف وخمسمائة وأربعة ركاب، وحمولة بلغت [46] ألف طن، فلا إله إلا الله، ما أهون الخلق على الله تعالى إذا عصوه، فالله الله إخواني، إياكم والمعاصي، فإنها تذر الديار خرابًا، والعزيز ذليلا، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
اسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا وان يستر عيوبنا أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاماً على عبده المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اكتفى
وبعد، عباد الله:
هداني الله في بطن البحر... إنها قصة عجيبة يقول صاحبها:
«أبدأ قصتي... بالحمد لله سبحانه وتعالى الذي وسعت رحمته كل شيء... والذي سبق حلمه غضبه... وأنعم علينا بأبواب رحمته وغفرانه... الذي يرى ذنوبنا فيسترها... ويسمع عصياننا فيمهلنا... وييسر لنا النوائب لتوقظنا من غفلتنا... لا نحصي ثناء عليه... بديع السماوات والأرض لا إله إلا هو سبحانه... أحسن الخالقين...
إخواني وأخواتي في الله... أنا شاب كان يظن بأن الحياة... مال وفير... وفراش وثير... ومركب وطيء... وغير ذلك كثير... وها أنا أسرد قصتي لعلها توقظ غافل قبل فوات الأوان...
كان يوم جمعة... وكالعادة لهو ولعب مع الأصدقاء على الشاطئ... ولكن من هم الأصدقاء... هم مجموعة من القلوب الغافلة... وقلوب فيها من الظلام ما يطفئ نور الشمس... وسمعت المنادي ينادي... حي على الصلاة... حي على الفلاح... وأقسم بالله العظيم أني سمعت الأذان طوال حياتي... ولكني لم أفقه يومًا معنى كلمة فلاح... وكأنها كانت تقال بلغة لا أفهمها مع أني عربي ولغتي عربية... ولكنها الغفلة... وكنا أثناء الأذان نجهز أنا ورفاقي عدة الغوص وأنابيب الهواء... استعدادا لرحلة جميلة تحت الماء... وأنا أرتب في عقلي برنامج باقي اليوم الذي لا يخلو لحظة من المعاصي والعياذ بالله...
وها نحن في بطن البحر... سبحان الخلاق فيما خلق وأبدع... كل شيء على ما يرام... وبدأت رحلتي الجميلة... ولكن...
حصل ما لم أتوقع... عندما تمزقت القطعة المطاطية التي يطبق عليها الغواص بأسنانه وشفتيه لتحول دون دخول الماء إلى الفم ولتمده بالهواء من الأنبوب... وتمزقت أثناء دخول الهواء إلى رئتي... وفجأة أغلقت قطرات الماء المالح المجرى التنفسي... وبدأت أموت...
بدأت رئتي تستغيث وتنتفض... تريد هواء... الهواء الذي طالما دخل جوفي وخرج بدون أن أفهم أنه أحد أجمل نعم الله علي... وبدأت أدرك خطورة الموقف الذي لا أحسد عليه... بدأت أشهق وأغص بالماء المالح... وبدأ شريط حياتي بالمرور أمام عيناي...
ومع أول شهقة... عرفت كم الإنسان ضعيف... وأني عاجز عن مواجهة قطرات مالحة سلطها الله علي ليريني أنه هو الجبار المتكبر... وأنه لا ملجأ منه إلا إليه... ولم أحاول الخروج من الماء لأني كنت على عمق كبير...
ومع ثاني شهقة... تذكرت صلاة الجمعة التي ضيعتها... تذكرت حي على الفلاح... ولا تستغربوا إن قلت لكم أني في لحظتها فقط فهمت معنى كلمة فلاح... ولكن للأسف بعد فوات الأوان... كم ندمت على كل سجدة ضيعتها... وكم تحسرت على كل لحظة قضيتها في معصية الله...
ومع ثالث شهقة... تذكرت أمي... وهالني الحزن الذي يمزق قلب أمي وأنا أتخيلها تبكي موت وحيدها وحبيبها... وكيف سيكون حالها بعدي...
ومع رابع شهقة... تذكرت ذنوبي وزلاتي ويا لكثرتها... تذكرت تكبري وغروري... وبدأت أحاول النجاة والظفر بأخر ثانية بقيت لي... فلقد سمعت فيما سبق أنه من ختم له بأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله دخل الجنة...
فبدأت أحاول نطق الشهادتين... فما أن قلت أشهـ... حتى غص حلقي وكأن يد خفية كانت تطبق على حلقي لتمنعني من نطقها... فعدت أحاول وأجاهد... أشهـ... أشهـ... وبدأ قلبي يصرخ ربي ارجعون... ربي ارجعون... ساعة... دقيقة... لحظة... ولكن هيهات...
بدأت أفقد الشعور بكل شيء... وأحاطت بي ظلمة غريبة... وفقدت الوعي وأنا أعرف خاتمتي... وا أسفاه على خاتمة كهذه والعياذ بالله...
إلى هنا القصة تبدو حزينة جداً... ولكن رحمة ربي وسعت كل شيء...
فجأة بدأ الهواء يتسرب إلى صدري مرة أخرى... وانقشعت الظلمة... وفتحت عينيّ لأجد مدرب الغوص يمسك بي مُثبتاً خرطوم الهواء في فمي... محاولاً إنعاشي ونحن مازلنا في بطن البحر...
ورأيت ابتسامة على محياه... فهمت منها أنني بخير... ونطق قلبي ولساني وكل خلية في جسدي وقبلهم روحي...
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله... الحمد لله... الحمد لله... الحمد لله... وفجأة بدأ قلبي يحدثني قائلا: لقد رحمك ربك بدعاء أمك لك... فاتعظ...
خرجت من الماء إخواني وأخواتي... شخصاً آخر... وأنا فعلاً أعني كلمة آخر... صارت نظرتي للحياة شيئاً أخر... وها أنا والحمد لله الآن شاب كل ما يرجوه من الواحد القهار... أن يختم له بأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله لحظة الغرغرة التي أعرفها جيداً... شاب يريد أن يكون ممن ذكرهم الرحمن في كتابه الكريم قال تعالى في سورة مريم ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ﴾ [مريم: 59]...
ثم يقول: عُدت وحدي بعد تلك الحادثة بفترة إلى نفس المكان في بطن البحر وسجدت لله تعالى سجدة شكر وخضوع وولاء وامتنان... في مكان لا أظن أن إنسياً قبلي قد سجد فيه لله تعالى... عسى أن يشهد على هذا المكان يوم القيامة فيرحمني الله بسجدتي في بطن البحر ويدخلني جنته اللهم أمين...
عباد الله:
البحر يُذكِّرُنا بحديث رواه أبو داود عن رسول الله عندما قالت عائشة ل للرسول صلى الله عليه وسلم عن صفية؟ قالت له: حسبك من صفية كذا وكذا تعني أنها قصيرة فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته»[صحيح الجامع 5140].
أي لو اختلطت بماء البحر لأنتن البحر كله، والبحر لا ينتن لأن أملاحه كثيرة، ولكن هذه الكلمة - إنها قصيرة وهي تُرى قصيرة - أنتنت ماء البحر لو مزجت به.
الحمد لله أن رائحة الذنوب لا نشمها، فقد جاء في بعض الآثار قرأتها في فتاوى ابن تيمية «مجموع الفتاوى « أن العبد إذا أذنب ذنباً تباعد عنه الملك ميلاً من رائحة الذنوب، الحمد لله أننا لا نشم ذنوبنا وإلا فرائحتنا تزكم الأنوف، ومقدار ذنوبنا يطبق الأرض نتنا.
ويذكرنا البحر بذلكم الرجل الذي قص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل، سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا، قال فأتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم ألتمس مركبا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، لم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلّفت فلانا ألف دينار، فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضي بك، وسألني شهيدا فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي أسلفه، ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا الخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي آتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدا» [رواه البخاري].
ما أعظمها من قصة جمعت بين الإحسان، وحسن الأداء، والأمانة والرضا بالله شهيداً وكفيلاً.. ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176].
عباد الله: انظروا وتأملوا إلى تلك السفن التي تُبحر في ظهر هذا المخلوق العجيب من يُسيّرها من يقودها إنه الله جل وعلا القائل: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ﴾ [الشورى: 35].
السفن الجواري في البحر كالجبال آية أخرى من آيات الله هذا البحر من أنشأه؟ هذه الريح من سيرها وسخرها إلا الله.
إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره..
إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور..
في إجرائهن وفي ركودهن على السواء آياتٌ لكل صبارٍ شكور.
﴿ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ﴾
فيحطمهن أو يغرقهن بما كسب الناس من ذنب ومعصية ومخالفة عن الإيمان الذي تدين به الخلائق كلها، فيما عدا بعض بني الإنسان!
لكن يا سبحان الله وإذا حلّت بنا مصيبة لجأنا إلى الله، لكن إذا فُرجت ضل من تدعون إلا إياه.
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 67].
وإذا أصابتكم شدة في البحر حتى أشرفتم على الغرق والهلاك، غاب عن عقولكم الذين تعبدونهم من الآلهة، وتذكَّرتم الله القدير وحده؛ ليغيثكم وينقذكم، فأخلصتم له في طلب العون والإغاثة، فأغاثكم ونجَّاكم، فلمَّا نجاكم إلى البر أعرضتم عن الإيمان والإخلاص والعمل الصالح.
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا
وما سقطنا لأن الحافظ اللهُ
ونركب الجو في أمنٍ وفي دعة
فلما وصلنا إلى الشاطئ نسيناهُ
قال رجل لأحد الصالحين أخبرني عن الله؟ فقال ألم تركب البحر قال بلى؟ قال هل حدث لك مرة أن حلّت بكم عاصفة قال نعم؟ قال: وانقطعت الحيل عن الملاّحين ووسائل النجاة قال نعم؟ قال فهل خطر ببالك وظهر في نفسك أنّ هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء قال نعم: قال فذاك هو الله لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً.
هذا وصلوا وسلموا على المصطفى محمد صلى الله عليه وعلى آله فمن صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشراً.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|